الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع والثلاثون: توصيات
أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح
…
الفصل الرابع والثلاثون: توصيات
السؤال يطرح نفسه كخاتمة لهذا البحث هو: كيف يمكن تحويل التصورات النظرية التي مرت إلى تطبيقات عملية تمكن مؤسسات التربية الإسلامية من تحويل الطموح المؤمل إلى واقع ملموس؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الانتباه إلى أن الأهداف العامة الثلاثة -أو تربية الفرد المسلم، وإخراج الأمة المسلمة، وتنمية التآلف والأخوة بين بني الإنسان -التي تتطلع التربية الإسلامية إلى تحقيقها، إنما تقوم أساسًا على "الفقه التربوي" و"التطبيق التربوي" الذي يقوم به "مجتهدون تربويون" من البشر أنفسهم في ضوء التوجيهات الإلهية أو "بصائر الوحي" حسب تعبير القرآن الكريم1.
ولكن هذا الاجتهاد التربوي لن يكون مثمرًا إلا إذا جرى في إطار من الإعداد المنظم، والتخطيط الفعال، وهذا يتطلب مراعاة التوصيات التالية:
أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح
التوصية الأولى، إن البحث في مقومات الشخصية المسلمة، أو مكونات العمل الصالح، وتنميتها وتركيبها ورعايتها، يقتضي وجود "مؤسسة
1 هذا ما يرشد إليه التفكير السنني -القانوني الذي هو سمة العقل السليم. أما التفكير الارتجالي المنحدر من تراث جاهلية ما قبل الإسلام، فهو يعمل لإخراج الشخصية المسلمة دون "اجتهاد" ولا "مجتهدون" ولا "سنن ولا قوانين". وأما التفكير الخوارقي المنحدر من تراث التفكير الديني الذي سبق الإسلام، فهو يظل
يرتقب حدوث المعجزة وبروز جيش الإصلاح وقادته.
تنظير أو اجتهاد تربوي" تضم مجموعات -أو وحدات- تربوية يتوازى تصنيفها، وعددها مع تصنيف وعدد عناصر العمل الصالح، التي وردت في هذا البحث. ففي هذه المؤسسة المقترحة تقوم الواحدات المشار إليها، مستقلة ومتكاملة، بمواصلة البحث التربوي لبلورة "المعادلات العملية" لكل عنصر من عناصر العمل الصالح، ولبلورة المناهج والطرق، والأساليب، والوسائل والمؤسسات اللازمة لإخراج كل عنصر من عناصر العمل الصالح، ثم تركيب هذه العناصر -حسب المعادلات التي مر ذكرها- وبالتالي إخراج الشخصية المسلمة بالمواصفات المطلوبة التي تقتضيها الأصول الفلسفية، والاجتماعية والنفسية والتكنولوجية، وحسب أطوار حياة الإنسان، ومتطلبات العصور الزمانية والبيئات المكانية.
وإقامة -المؤسسة التربوية المقترحة- ضرورة لا غنى عنها ولا بديل. ذلك إن دور المفكر الفرد، أو المربى الفرد، أو المصلح الفرد، قد انتهى في عصر تفجر المعرفة، وتشابك العلاقات، وتعقيد المشكلات، عصر "قرية الكرة الأرضية" وعصر الأقمار الصناعية، والكمبيوتر، والفاكس، والتلكس، وبلغ من تعقيدات المعرفة والعلم والمشكلات، والعلاقات درجة جعلت إنسان العصر يؤمن مساء بما كفر به صباحًا، ويؤمن صباحا بما كفر به مساء.
و"الفقه الجماعي" و"البحث الجماعي" و"التطبيق الجماعي" و"الإنتاج الجماعي" صار ضرورة معيشية في كل ميدان. ولهذه الحكمة جعلت الأصول الإسلامية في محور قيمها، أن يد الله مع الجماعة. ويقيني أن الفارق الضخم المتسارع في ضخامته، بين المجتمعات التي تصنف إلى مجتمعات متقدمة، ومجتمعات متخلفة، لا يتمحور حول فوارق الثراء الاقتصادي، والتقدم العلمي والتكنولوجي، والتنظيم الإداري، وإنما يتمركز هذا الفارق حول الفارق القائم بين نظمها ومؤسساتها التربوية، وطريقة كل منها في تنمية مكونات العمل، أو مقومات الشخصية، ثم تصنيف هذه
الشخصيات في سلم "الحكمة" النظرية والعملية، وتدريبها على مهارات "العمل الجماعي"، والتنسيق والتكامل بين أصحاب القدرات، والمهارات المختلفة. وليست الفوارق الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، والإدارية والسياسية، إلا بعض مضاعفات الفارق القائم بين نظم التربية ومؤسساتها وطرقها في تنمية مكونات العمل أو مقومات الشخصية وتوجيهها.
فالمجتمعات التي توصف بالتقدم، تتغير أحوالها السياسية والاقتصادية، والعلمية والعسكرية والإدارية بطريقة أفضل مما يقابلها في المجتمعات التي توصف بالتخلف؛ لأن مؤسسات تغيير ما بالأنفس، والمشتغلين بتغيير ما بالأنفس في الأولى، أعلى قدرات ومهارات من نظائرهم في الثانية؛ ولأن القيم العلمية السائدة فيها أرقى من نظائرها في المجتمعات التي توصف بالتخلف. ولعل مثالا واحدا يوضح لنا التقرير المشار إليه. ففي المجتمعات التي توصف بالتقدم تنبع قيم حرية التعبير والاختيار، والتفكير من المؤسسات التربوية، حيث يعطي المربون حرية التفكير والاختيار، والتعبير كاملة لتلاميذهم وطلابهم، ويتعاملون بها مع أقرانهم، أما في مجتمعات العالم الثالث -ومنه المجتمعات العربية والإسلامية- فجميع شرور القهر والتسلط، وكبت الحريات تنبع -ابتداء- من المؤسسات التربوية. وجمعينا يخبر البيروقراطية القبلية في مؤسسات التربية، وجميعنا ذاق ويعرف أساليب القهر، والإلزام السلطوي، والأسلوب المفروض في التفكير والتلقي والاستظهار، والتعبير والامتحان، الذي يمارسه المعلمون إزاء المتعلمين ابتداء من المستوى الابتدائي -بل قبل الابتدائي- حتى المستوى الجامعي. فالمؤسسات التربوية في مجتمعات العالم الثالث ما زالت نظام القيم التربوية فيها يقوم على "القوة فوق الفكرة" شأنها شأن المؤسسات الأخرى في هذه المجتمعات.
والتوصية الثانية، إقامة "مختبر التطبيقات التربوية" اللازم لتجريب الأفكار، والتصورات التي يفرزها مجتهدو مؤسسة التنظير التربوي المقترحة
بغية تحويل الفكرة إلى عمل، وبغية تجريبها وتعديلها، وتطويرها في ضوء النتائج التي يكشف عنها التطبيق العملي. وهذا هو الذي وجهت إليه الرسالات السماوية حين اتخذت طريقة -الناسخ والمنسوخ- كإحدى مناهجها وأساليبها في إخراج الأمة المسلمة1، وهو ما وجه الوحي به المربي الأول صلى الله عليه وسلم إلى الأصل التربوي القائل:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] .
وهو أيضا ما تواتر نقله من أمثال الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"2.
ولا بد أن تتوارى مكونات "مختبر التطبيقات"، وأنشطته مع مراحل عمر الإنسان المسلم المراد إخراجه ابتداء من مرحلة الحضانة حتى الرشد. فتكون هناك روضة التطبيقات، ومدرسة التطبيقات، وجامعة التطبيقات. ولا بد من التخطيط، لأن تتوسع هذه التطبيقات في مرحلة لاحقة، لتشمل نماذج المؤسسات التربوية الموازية كأسرة التطبيقات، ومسجد التطبيقات، وصحيفة التطبيقات، وفيديو التطبيقات، وغير ذلك.
والذين يدرسون تاريخ النظم التربوية الحديثة في الغرب والشرق، يجدون أن هذه التطبيقات كانت عنصرًا أساسيا في عمليات التنظير والتطبيق التربويين، وفي عمليات التطوير التربوي والمراجعة التربوية والتجديدات
1 جاءت بعد عصر النبوة أجيال رفضت أن ينسخ من مقولاتها شيء، وما زالت عناصر معاصرة ترفض أن تدخل بعض مدخراتها، وموروثاتها الفكرية في عداد المنسوخ وتسبغ عليها عصمة ممارسة غير منطوقة ولا معلنة.
2 ابن كثير، تفسير القرآن، المقدمة، "القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، بلا تاريخ" ص3.
التربوية الجارية هناك، بغض النظر عن الإيجابيات، والسلبيات الجارية في بعض المحتويات والطرائق.
والتوصية الثالثة، هي توفر فرص التكامل المحكم الشامل بين كل من "مؤسسة التنظير التربوي" و"مؤسسة التطبيقات التربوية". فهذا التكامل يوفر للمؤسستين تقويم الأعمال، وتعديل الأفكار والممارسات، وتطوير البرامج والخطط، الأمر الذي يسهم في استمرار قدرة كلتا المؤسستين على القيام بمسئولياتهما، ويمكنهما من تلبية حاجات المجتمعات الإسلامية خلال ظروف الحياة المتطورة المتغيرة. وهذا هو الذي يتفق مع سنة الله وقوانينه في التطور البشري والنمو الحضاري. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن "الأذن" المسلمة المعاصرة تعاني -في الغالب- من حساسية حادة حين تسمع مصطلح التطور فتظنه زحزحة، وإبعادا عن القيم الإسلامية وتطبيقاتها. وهذه حساسية مفرطة لا بد من معالجتها والشفاء منها. فالتطور -في حقيقته- أصل من أصول التصور الإسلامي للوجود، وهو يعني أن هذا الكون ما زال يخلق، وأن مظاهر الخلق تبرز من عالم الغيب باستمرار، وأن الخالق سبحانه كل يوم هو في شأن.
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5] .. {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] ، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] ، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ، {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13، 14] .
ومن الطبيعي أن الخلق الجديد يفرز علاقات جديدة، والعلاقات الجديدة تحتاج إلى قيم ومهارات ومعارف جديدة، وهذه كلها تحتاج إلى مؤسسات جديدة. ومن الطبيعي -بناء على ذلك- أن الإنسان المسلم المراد إخراجه بواسطة مؤسسات التربية الإسلامية، يحتاج أن يكون قادرا على مواكبة الأطوار الجديدة، وفهم الشئون المتجددة، واكتشاف قوانينها، ثم تسخير هذه القوانين للتعايش معها، حسب ما تتطلبه المسئولية الملقاة على
عاتق الإنسان المسلم وأمة المسلمة في إشاعة المعروف الصائب الذي يضمن للنوع البشري بقاءه ودوام رقيه، وفي النهي عن المنكر الخاطئ الذي يهدد بقاء النوع الإنساني، ويوقف مسيرة رقيه.
والتوصية الرابعة، هي توفير الفرصة كاملة للمؤسسات التربوية المقترحة للإطلاع على ما يجري في حارات -قرية الكرة الأرضية- من تجارب تربوية في التنظير والتطبيق، بغية الوقوف على المؤثرات المختلفة، والمتجددة التي تعمل عملها في شخصية الفرد المسلم والأمة الإسلامية، فتشكل أفكار الأول وأعماله، وتسهم في صياغة قيم الثانية ونشاطاتها.
فهذا الاطلاع شرط أساسي لنجاح "مؤسستي التنظير التربوي والتطبيقات التربوية" المقترحين، وهو مظهر "الشهود" الذي جعله القرآن الكريم أول صفات الرسول المربي الذي أرسل ليضع مسيرة البشرية على أعتاب طور العالمية، والتفكير السنني والبحث العلمي في آيات الآفاق والأنفس:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45][الفتح: 8] .
ومن الطبيعي أن يتوجب على ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصفوا بالمؤهلات اللازمة لشهود العصر، وثقافة العصر، وتيارات العصر المتدفقة في جميع الميادين، ومخلوقات العصر الجديد البارزة عن غيب هذا العصر. فالذي لا يشهد العصر بجميع مكوناته، وميادينه والتطورات والمؤثرات المتفاعلة فيه، وبوسائل العصر اللغوية والمعرفية والتكنولوجية، لا يستطيع أن "يبشر" أهل العصر ويقنعهم بـ"المثل الأعلى" الذي تطرحه التربية الإسلامية لبقاء الجنس البشري ورقيه، ولا يستطيع أن "ينذر" أهل العصر من أخطار "المثل السوء" التي تهدد الجنس البشري بالفناء والتخلف.