الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحين نمعن النظر في الخارطة الفكرية للعالم المعاصر: عالم قرية الكرة الأرضية الذي استحالت فيه القارات إلى حارات، والأجناس إلى عائلات، والأقطار إلى بيوت، لا نجد منقذا إلا أن تتوجه البشرية إلى عنصر الإيمان بمفهومه الإسلامي لتستمد منه "هويتها" و"جنسيتها" و"ثقافتها"، وليمدها بقيم التقوى التي تلازم -البدو الجدد حسب تسمية ألفن توفلر- أينما رحلوا وأينما حلوا، وتشدهم إلى قوة أعلى هي معهم أينما كانوا، تراقبهم ويراقبونها، ويحسبون حسابها أينما كانوا، قوة الله القائل:
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] .
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] .
ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في الهوية والجنسية والثقافة
…
ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين، وتنمية تطبيقات الإيمان في "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة"
لا تكفي الوسائل التقليدية في إخراج الأفراد المؤمنين، بل لا بد من مؤسسات تربوية جديدة تعمل على أساس من المعرفة العلمية الراسخة بأصول التربية الإسلامية، وميادينها، ومناهجها، المحيطة بالحاجات والتحديات التي يفرضها التطور في الزمان والمكان.
ويراعى في عمل المؤسسات التربوية المقترحة أن تركز على ما يلي:
1-
إعادة تأصيل مفهوم الإيمان لتتمركز تطبيقاته الفكرية، والعملية في واقع الاجتماع الإنساني على الأرض بدل نفيه في مقولات عيبية بعيدا عن رحلة الإنسان عبر الحياة والمصير.
2-
إعادة تأصيل "هوية" الإنسان على أساس من المعرفة العلمية بالنفس الإنسانية، وتطوير مناهج علم النفس ووسائله حتى يقوم بدوره في استخراج فطرة الإنسان الخيرة، وإبراز آيات الله في الأنفس.
3-
إبراز خطورة الفصل بين عناصر: "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة" في حياة الأفراد المؤمنين؛ لأن الأمة التي تتحد فيها "هوية" الإنسان و"جنسيته" على أساس الإيمان بالله هي وحدها التي تكون "ثقافتها" -أي قيمها ونظمها وأخلاقها وعادتها وتقاليدها، وفنونها وشبكة العلاقات الاجتماعية- مستمدة من الإيمان وذات مضامين إيمانية.
أما الأمة التي تتحدد "الجنسيات" فيها طبقًا لعصبيات العائلة أو القبيلة أو الإقليم أو القومية، فلا تكون "ثقافتها" إلا مثلها. وهذا ما يفسر التناقضات القائمة بين الانتماء الإسلامي للأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة وبين ممارساتها الاجتماعية والسياسية، وسائر شبة العلاقات الإنسانية فيها.
4-
تفنيد "الجنسيات" و"الثقافات" الإقليمية القائمة في ديار المسلمين، وما ينتج عنها من مضاعفات سلبية في العلاقات السياسية، وقضايا الحدود وشئون الإدارة والهجرة، والإقامة والسفر والعمل والتملك باعتبارها -كبائر- مخالفة لـ"الجنسية" و"الثقافة" الإيمانيتين، وعوائق مانعة لـ"الماعون" الذي يجسد الأخوة الإيمانية ويهيئ للمسلمين أن يعيشوا إسلامهم عمليا في الداخل، وينهضوا برسالتهم في الخارج.
وخلال تفنيد هذه -الكبائر- السياسية، والثقافية لا بد من توضيح أشكال التخريب الذي مارسته النظم التربوية، والمؤسسات الإعلامية ودور النشر والصحابة في العالم الإسلامي منذ قرن، أو أكثر من أجل ترسيخ "الجنسيات" و"الثقافات" التي استمدها المستعمر -بكسر الميم- غير المسلم من عصبيات القبيلة، والإقليم والقومية وأحلها محل "جنسية" الإيمان و"ثقافة" الإسلام، ثم أوقف الإنسان المسلم تحت راياتها ينشد باسمها الأناشيد الوطنية، ويقاتل في سبيلها أخاه المسلم، وهو يحسب أنه يقاتل في سبيل الله. ولا بد كذلك من تبيان آثار هذه "الجنسيات" و"الثقافات" العصبية في تعطيل فاعلية "جنسية" الإيمان، و"ثقافته" ودحرهما من ميدان الحياة الاجتماعية، والتطبيقات الإدارية والسياسية، والولاءات العملية إلى مخزون الانتماء النظري
لتستثمر عند الحاجة لها من أجل نصرة "جنسيات" و"ثقافات" العصبيات العائلية والقبلية، والطائفية والإقليمية والقومية.
فإذا أحاط -إنسان التربية الإسلامية- بهذا كله أمكنه الوقوف على الحكمة من التوجيهات النبوية التي تدرج الارتداد إلى هذه "الثقافات" و"الجنسيات" العصبية في قائمة الكبائر الملقية في النار1.
5-
بلورة المعادلات العملية لكل من "الهوية"، و"الجنسية" و"الثقافة" الإيمانية ثم تربية -إنسان التربية الإسلامية- على الولاء لها، وتدريبه على ترجمتها إلى قيم ونظم سياسية، وإدارية واقتصادية واجتماعية وعسكرية، وثقافية وعلى إقامة المؤسسات، وتوفير الأدوات اللازمة لتطبيق النظم المذكورة. وأي قصور في هذه المجهودات المطلوبة سوف يقود إلى قصور في التطبيقات العملية، والاقتصار على التلقين النظري، وسوف تكون آثار هذا القصور مثل آثار تجربة السلوكيين على الكلب الذي اعتاد على أكل الدجاج الحي، حين علقوا بعنقه دجاجة ميتة لا يستطيع الوصول إليها، ولا التخلص من نتنها، فكانت النتيجة أن رائحة النتن انتهت بالكلب إلى كراهية الدجاج، والهروب من رؤيته حيا وميتا.
وهكذا التربية التي تقتصر على التلقين دون التطبيق، فإنها تنتهي بالإنسان إلى اليأس والإحباط، وعدم تصديق الدعاوى المنادية بالقيم الخيرة، والأعمال الإيمانية الصالحة. وهنا تبدو حكمة الله تعالى في تخصيص أكبر مقته للذين يقولون ما لا يفعلون.
6-
إعادة تأصيل طرق وأساليب إخراج الفرد المؤمن بحيث تتفاعل
1 الطبري، التفسير، جـ5، ص37، 38.
راجع نص الحديث على صفحة 237.
وعند النسائي: "آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهده -إذا علموا بذلك- والواشمة، والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد يوم القيامة". الجامع الصغير، للسيوطي، رقم 13.
في نفسه آيات الوحي في الكتاب مع آيات الله في الآفاق، والأنفس في مختبرات العلم، ويتظافر القسمان لاستخراج معجزات العصر، وبذلك يولد اليقين وتتجسد صلاحية القرآن لكل زمان ومكان.
ولعل من متطلبات التأصيل المقترح أن تقوم المؤسسات التربوية المنشودة بمراجعة شاملة جريئة للأساليب التربوية الموروثة، إذ يشير النظر في تاريخ التربية الإسلامية إلى أن هذا التاريخ شاهد طريقتين لإخراج الأفراد المؤمنين، الأولى: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتداداتها على أيد أصحابه في العصر الراشدي، والتي كان من ثمارها إخراج أمة مسلمة حملت رسالة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والإيمان بالله. والثانية: طريقة القولبة المذهبية التي كان من ثمارها انقسام الأمة الإسلامية القائمة إلى الفرق، ومذاهب تتجادل وتتناحر، وكل يدعي احتكار الإيمان، ويتبادل مع الآخرين قذائف التفسيق والتكفير.
وتقوم -الطريقة الأولى- على تدبر أفعال الله وسننه وقوانينه في الخبرات الفعلية التي كان الرسول، والذين معه يمرون بها يوميا في قلب الاجتماع الإنساني، وشبكة العلاقات الاجتماعية القائمة في ميادين الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة، والاقتصاد وشئون الحرب والسلم وغيرها في ضوء توجيهات الوحي المتدرجة المتتابعة. أي أن هذه الطريقة كانت تتكامل فيها التوجيهات التربوية مع التطبيقات العملية، وتهيئ لآيات الوحي أن تتفاعل في نفس المتعلم مع آيات الآفاق، والأنفس في تجارب عملية يكون من ثمراتها حصول "اليقين" ثم "الإيمان". وفي إطار هذا التوجه تنزل مفهوم الإيمان وتحددت محتوياته، ومعادلاته العملية في حياة الأفراد المؤمنين.
فـ"الإيمان بالله" جاء ليعرف -إنسان التربية الإسلامية- بانفراد الله في تربية العوالم كلها، وإرشاد هذا الإنسان إلى سننها وعلاقاتها، والتعامل معها لما فيه بقاء الإنسان ورقيه. وبناء على ذلك طالب المؤمنين بالتزكي من صنمية العصر التي تمركزت في -صنمية الأنداد- الذين يزعمون القدرة على
التأثير بمصائر العوالم، ويدعون الحق في تحديد "جنسيات" الجماعات الإنسانية و"طبقاتها" و"ثقافاتها" طبقا لمصالح عائلاتهم أو طبقاتهم، أو أقاليمهم أو قبائلهم أو قومياتهم أو أعراقهم في التملك والجاه والهيمنة.
و"الإيمان بالملائكة" جاء لإنضاج الوعي عند -إنسان التربية الإسلامية- بفاعلية ملائكة الله في تنفيذ أوامر، ورقابتهم للبشر وتدوين أعمالهم خلال الحياة اليومية الجارية، ليكون هذا الإيمان سببا في الاستهانة بأحكام البشر ورقابة أعوان الظلمة، والأصنام الأنداد الذين يعملون بقوة السلاح، وسحر الكلمة على تجريد الناس من التفكير والإرادة، ثم تحويلهم إلى مخلوقات بشرية لا عمل لها إلا طاعة الجبابرة، والتسبيح بحمدهم والدعاء لهم بطول العمر، ودوام السلطان.
و"الإيمان بالكتب الإلهية" استهدف استيقان المؤمنين بأهمية الاستنارة بهذه الكتب في ميادين الحياة المختلفة، وتحصينهم من سحرة الفكر، والثقافة الذين يزيفون الحق ويزينون الباطل في النشاطات اليومية الجارية.
و"الإيمان بالرسل" استهدفت تنيمة اليقين عند -إنسان التربية الإسلامية- بأهمية الاستجابة لرسالاتهم وأهمية الاقتداء بهم، وأثر هذا في حفظ النوع البشري ورقيه، وصيانة المؤمنين من ضلالات شياطين الإنس الذين ينتهون بالناس إلى الكفر، والفسوق والتخلف، والانحلال والهلاك.
و"الإيمان بالآخرة" استهدف إيقاظ -إنسان التربية الإسلامية- لمصير المسيرة الإنسانية عبر الحياة إلى ما بعدها، والوعي بالأمانة الموكلة للإنسان خلال المسيرة المذكورة.
و"الإيمان بالقدر خيره وشره" استهدف إنضاج الوعي عند إنسان التربية الإسلامية بأهمية "التفكير السنني -القانوني- الذي يتحقق بأن كل شيء خلقه الله بقدر -أي بقانون- وأن السلوك الخير والسياسات الخيرة، بناء على هذه الأقدار، يثمران اجتماعا إنسانيا راقيا وحضارة متقدمة، وأن السلوك الشرير والسياسات الشريرة ثمرتها الانحطاط الاجتماعي، والتخلف
الحضاري. وفي المقابل فإن جميع المزاعم والمقولات التي يشيعها سحرة الكلمة والبيان من الشعراء الغاوين، ومن الأدباء والإعلاميين، والفنانين عن إرادات أصحاب النفوذ والجاه، فإنها حين تصطدم بأقدار الله -أي قوانينه وسننه- فإنها لا يكون من ثمارها إلا ضنك العيش وخسران المصير. ثم تكون المحصلة النهائية للإيمان بالقدر خيره، وشره هي الالتزام بالتفكير العلمي، والموضوعية في جميع السياسات وأنماط السلوك.
أما -الطريقة التربوية الثانية- التي شاهدها تاريخ التربية الإسلامية فهي -طريقة القولبة المذهبية- التي نشأت حين هيمن رجال القوة على رجال الشريعة، والفكر ودحروهم من قلب الاجتماع الإنساني إلى عالم الغيب المتعلق بـ"ذات الله"، وعالم "الفرد" الخاص المتعلق بالهيئة وشعائر العبادة وقضايا الطهارة، وعلاقات الزوجين ومعاملات الأسواق، تاركين قضايا الحياة الرئيسة، -خاصة شئون الحكم والمال العام- لـ"ثقافة" العصبيات القبلية بتقاليدها وأعرافها الصنمية القائمة على "طغيان" القوي و"استضعاف" الضعيف. فمنذ ذلك التحول قام عمل المؤسسات التربوية فيما يخص "الإيمان"، وإخراج الأفراد المؤمنين على التلهي بالجدل حول قضايا الاستواء والنزول، والتجسيد والتشبيه ومحاكمة الماضين الأموات، والعزل الأحياء بالنسبة لهذه القضايا، وعلى تلقين المتعلمين "فهم" إنسان معين أو فرقة معينة دون أن يصاحب هذا التلقين تجارب عملية في مختبر الآفاق والأنفس، فكان من ثمار هذا التلقين المجرد تكوين "اعتقاد" مقولب يفرز سلوكا جامدا لا يتغير ولا يتبدل. ثم تطورت ونمت هذه الأساليب، وأفرزت مناهج دراسية عرفت باسم "مباحث العقيدة".
والعقيدة -كدلالة على الإيمان الصحيح أو الخاطئ- مصطلح لم يرد في القرآن والسنة، وإنما لذي ورد هو "اليقين"، ومشتقاته التي تكررت في "28" موضعا من سور القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى:
{قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118] .
- {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] .
- {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] .
- {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] .
وهناك فرق كبير بين "العقيدة أو الاعتقاد" وبين "اليقين". فالاعتقاد مجرد تقبل وتسليم باعثه "الميل" أو "الكره"، وثمرته إخراج إنسان يختزن في رأسه أفكارًا معينة دون برهان أو دليل، و"يعقد" عليها عقدة -أو ختما حسب تعبير القرآن- لا تسمح بالتبديل أو التعديل، و"يعصب" عينيه وأذنيه عن كل ما يخالف هذا "الاعتقاد" أو لا يرضيه، ولذلك فمن الطبيعي أن يتخذ الحوار بين أصحاب "العقيدة" شكل المصادمات المذهبية. والواقع أن هذا الأسلوب في "الاعتقاد" هو شكل متطور للعصبيات، والولاءات القبلية بعد أن تكيفت للبيئة الإسلامية، وطلت نفسها بطلاء إسلامي، وصاحب "الاعتقاد" المذهبي هو شخص متطور عن الشاعر الجاهلي الذي، قال: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد وما زالت الأقاليم الإسلامية توالي -الإمام أو الفقيه- الذي خرج أو يخرج منها، وتشايعه دون فهم أو إطلاع، وتضفي عليه لقب "شيخ الإسلام" تيمنا بـ"شيخ القبيلة" ولا تعترف بهذه المشيخة لغيره إلا لمن أوصى به هذا "الشيخ" أو زكاة!! وما زالت -العصبيات القبلية- تتكيف لتلائم موجات الرأسمالية والاشتراكية، والديموقراطية والتنظيمات الإدارية، ومؤسسات الحكم التي تفد من بلاد الرأسمالية والاشتراكية حيث تقتبس ألقابها، ومصطلحاتها وتتزي بأزيائها وتحتفل باحتفالات ومراسمها، ولكنها تبقى في مضمونها، وجوهرها نظما قبلية -تستمد روحها من "ثقافة" عصبيات ما قبل الإسلام.
أما "اليقين" فهو قناعة ورضى راسخان. وهو ثمرة تجربة محسوسة يتزاوج فيها خبر الوحي مع برهان محسوس من ميدان الآفاق والأنفس -أي ميدان الاجتماع الإنساني والكون الطبيعي- أي هو ثمرة تحرير الفرد في
"خبرة مربية" يكون من نتائجها مشاهدة معجزة كونية، أو اجتماعية أو نفسية تدعم الآية القرآنية، وتكشف عن صدقها. ثم تكون المحصلة النهائية لـ"اليقين" هي إخراج أفراد مؤمنين "يوقنون" بما يؤمنون به، ولهم القدرة على التعايش مع الشئون الإلهية المتجددة في مختلف الأزمنة والأمكنة، وإخراج أمة مسلمة متحدة الكلمة راقية الرسالة!!