الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة
ملاحظات حول مفهوم الأمة المسلمة
…
الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة
الملاحظات التي يخلص إليها هذا البحث يمكن إجمالها فيما يلي:
أ- ملاحظات حول "مفهوم" الأمة المسلمة:
مفهوم الأمة المسلمة مفهوم فكري يستمد محتواه من الولاء لـ"الأفكار" الإسلامية. ويتسجد -عمليا- في عناصر: الأفراد المؤمنين، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية بالتفاصيل التي تم استعراضها في هذا البحث. وهذه هي الصفة التي تميز هذا المفهوم عن غيره من المفاهيم التي تستمد محتوياتها من الولاء لـ"الأشخاص" و"الأشياء" وتفرز تطبيقاتها تحت روابط: القوم، والوطن، والمصالح المشتركة التي تتوازي مع روابط الحيوان في القطيع، والحظيرة، والمرعى.
ولكن هذه الصفة المميزة لمفهوم الأمة المسلمة لا تبرز أصيلة فاعلة إلا إذا أحسنت مؤسسات التربية الإسلامية "فقه" العناصر المكونة للأمة، وعملها والعوامل المؤثرة في صحة الأمة ومرضها، ووفاتها وبعثها -إن توفت- من جديد. وإتقان التربية لهذا "الفقه" يقتضي الوعي بالملاحظات التالية:
أولا، يلاحظ أن عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة ترد في القرآن والسنة مقترنة بعضها مع بعض، ويعرضها السياق القرآني كبذل محض يبرهن الأفراد المؤمنون من خلاله ولاءهم لـ"أفكار" الرسالة الإسلامية، ولا يكون ولاؤهم لـ"الأشخاص" الذين ينتمون إليهم و"الأشياء" التي يمتلكونها، أو يتطلعون إلى امتلاكها إلا بمقدار دوران أولئك الأشخاص، وتلك الأشياء في فلك "الأفكار" الإسلامية وتطبيقاتها المختلفة.
ثانيًا، يلاحظ كذلك أن عناصر: الإيواء، والنصرة، والولاية ترد مقترنة بعضها مع بعض، وكعطاء متبادل بين الله تعالى وبين الأمة المسلمة، شريطة أن يسبق ما تقدمه الأمة ذلك الذي يقدمه الله سبحانه وتعالى.
فهناك "إيواء" تقدمه الأمة المسلمة لله -أولًا- يتمثل في: إيواء عامة المؤمنين لرسلهم ودعاتهم، وإيواء أقوياء المؤمنين لضعفائهم، وإيواء أغنياء المؤمنين لفقرائهم، وإيواء علماء المؤمنين لمتعلميهم، وإيواء ولاة الأمور لرعيتهم، وإيواء رجال المؤمنين لنسائهم، وإيواء كبار المؤمنين لصغارهم، وإيواء أصحاء المؤمنين
لمرضاهم
…
وهكذا.
أما الإيواء الذي يثبت الله به الأمة المسلمة فهو نوعان: إيواء في الدنيا، يتمثل في التمكين في الأرض، ووفرة النعيم، وتوفير الأمن والاستقرار والسعادة، وإيواء في الآخرة يتمثل في نعيم الجنة والخلود فيها.
وهناك "نصرة" تقدمها الأمة المسلمة لله -أولًا- تتمثل في نصرة الأمة لرسلها ودعاتها، ونصرة أقويائها لضعفائها، ونصرة إدارتها وبوليسها لمظلوميها ضد ظالميها، ونصرة ولاتها وقضاتها وولاة الأمر فيها لذوي الحقوق فيها
…
وهكذا.
وأما النصرة التي يثبت الله بها الأمة المسلمة فهي نوعان: نصرة في الدنيا تتمثل في منح الأمة الغلبة، والتفوق على أمم الكفر والنفاق، ونصرة في الآخرة تتمثل في تقوية الله لحجة المؤمنين، وتثبيتهم بالقول الثابت عند المساءلة، ونجاتهم يوم الحساب وإدخالهم الجنة وزحزحتهم عن الناس.
وهناك "ولاية" تقدمها الأمة المسلمة لله تتمثل في تولي شئون الرسالة، ودعاتها ومؤسساتها والاهتمام بها بالتخطيط، والتنفيذ والتقويم المستمر بكافة الإمكانات والمقدرات. وأما الولاية التي يثبت الله بها الأمة المسلمة فهي أيضا نوعان: ولاية في الدنيا تتمثل في تسديد أعمالها، وتبصيرها بنتائج هذه الأعمال والقدرة على تمييز الصواب والخير، والفضيلة والجمال، وولاية في
الآخرة تتمثل في إقالة عثراتها وستر أخطائها، ومغفرة زلاتها، ومضاعفة أعمالها الحسنة.
ثالثا، تتوازى درجة ولاية الله للأمة المسلمة ونصرتها، وإيوائها مع درجة ولاية الأمة لله، أي مع درجة تطبيقها لعناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة. وكمال التزام الأمة بتطبيق هذه العناصرة سبب في كمال ولاية الله للمؤمنين، ويصور الرسول صلى الله عليه وسلم ثمرات هذا التلازم القائم بين كمال ولاية الأمة، وكمال ولاية الله بالقول أنه يصل إلى درجة يصبح الله سبحانه فيها عين المؤمن التي تبصر، ويده التي تبطش، ورجله التي تسعى، ولسانه الذي يسأل فيعطى.
رابعا، يلاحظ أن التوجيه إلى ولاية المؤمنين لله، ونصرته كان في الفترة المكية بينما كان التبشير بولاية الله للمؤمنين، ونصرتهم في الفترة المدنية. وهذا يعني أن تربية المؤمنين على ولاية الله ونصرته يجب أن تسبق تربيتهم على توقع ولاية الله لهم، وأن تكون شرطا مسبقا لها، ثم صيانة هذا الولاء من الانحسار إلى دائرة "الأشخاص" بأطوارها المختلفة التي مرت حتى لا تتعرض الأمة للمرض، وصيانته من الانحسار إلى دائرة "الأشياء" حتى لا تتعرض الأمة للوفاة!!
خامسا، إن الامتداد الحقيقي للأمة المسلمة في التاريخ هو امتداد فكري لا مكان لعصبيات الدم فيه. وهذا ما توجه إليه الآيات التي رسمت الخطوط العريضة لهذا البحث، وذلك عند قوله تعالى:
فـ"المؤمنون"، المهاجرون، المجاهدون -حسب المفاهيم التي مرت في هذا البحث- هم الامتداد الحقيقي للأمة المسلمة "من بعد" عصر النبوة، وليسوا ذرية الدم المتحللين من تكاليف "الإيمان"، الرافضين "هجرة"
قيم العصبية والآبائية، المضيعين لـ"الرسالة"، الناكصين عن "الجهاد" في سبيلها.
ويلاحظ أن الآية أوردت ثلاثة من العناصر المكونة للأمة المسلمة كصفات مميزة لامتداد هذه الأمة عبر التاريخ. وهذه الصفات هي: الإيمان، والهجرة، والجهاد، ولم تذكر منها عنصري: الإيواء، والنصرة. ولعل السبب أن ذكرها قد مر في الآيات التي سبقت؛ ولأنها من مستلزمات عنصر الهجرة والمهجر وأساس شبكة العلاقات الاجتماعية التي تنظم علاقات المؤمنين في المهجر المشار إليه.
ويجدر الانتباه -هنا- إلى أن ولاية -الأرحام- التي يوجه إليها نص الآية القائل: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، هي ولاية إرشاد ودعوة لا ولاية عصبية ودم، فهي ولاية مادتها "كتاب الله" أي أن المؤمنين -قبل غيرهم- مسئولون عن تعليم -أرحامهم- كتاب الله، وهذا ما يوضحه أمثال قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] . والذين يصلون -أرحامهم- بشيء من الدنيا فصلاتهم تنحصر في ممتلكاتهم الخاصة التي اكتسبوها بعمل أيديهم، أما ممتلكات الأمة، وما يتعلق بها من منصاب ومسئوليات، فليس لأحد أن يخص أقرباءه بشيء منها -كما ورد في التفاصيل التي مرت في فصول سابقة. فصلة الأرحام هنا تدور في فلك -أفكار- الرسالة وتهتدي بهديها. وحسب المؤمنين الصلة التي يقررها الله لهم؛ لأنه وحده العليم بالصلاة الفاعلة الخيرة في طور العالمية الجديد، وبالنسب الحقيقي النافع في الدنيا والآخرة.
سادسا، يلاحظ في الفصول التي عالجت -صحة الأمة ومرضها ووفاتها- أنه تم التفريق والتمييز بين "الولاء" و"الانتماء" مع توضيح هذا الفارق بالرسومات البيانية. وأهمية هذا التفريق أنه كثيرا ما يختلط الولاء