الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس عشر: أهمية إخراج الأمة المسلمة
الإطار العام الذي يحدد أهمية إخراج الأمة المسلمة، ويحدد مكوناتها هو قوله تعالى:
هكذا يبدو واضحا من الآية الأولى "رقم 72" أن التربية الإسلامية لا تتوقف عند إعداد "الأفراد المؤمنين"، وإنما تتخذ من هذا الإعداد وسيلة لهدف آخر هو إخراج "أمة المؤمنين" التي يتلاحم أفرادها عبر شبكة من الروابط الاجتماعية، التي تندرج تحت أسماء: الهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة، والتي تكون محصلتها النهائية هي -الولاية- أي أن يتولى كل عضو رعاية شئون الأعضاء الآخرين. أما الأفراد المؤمنون الذين يبقون خارج -مهجر- الأمة المؤمنة، فهؤلاء لا فاعلية لإيمانهم ولا روابط ولا ولاية بينهم، وبين "أمة المؤمنين".
ومع أن الآيات المذكورة أعلاه تتضمن -كما قلنا- أهمية إخراج الأمة المسلمة، وتتضمن المكونات الرئيسية لهذه الأمة، إلا أن الحديث في هذا
الفصل سوف يقتصر على أهمية إخراج الأمة المسلمة بينما يؤجل الحديث عن مكوناتها إلى الباب الذي يليه. أما مظاهر هذه الأهمية كما يلي:
الأهمية الأولى، هي ما تنبه إليه الثانية -آية 73 من السورة- حول الأضرار التي تنجم عن عدم إخراج الأمة المسلمة. وتتمثل هذه الأضرار في ثلاثة أضرار رئيسة هي:
الضرر الأول، هيمنة -قيم الكفر- في الأرض، وإخراج "أمة الكفر" حيث لا يقتصر الكافرون على ممارسة كفرهم كأفراد متناثرين، وإنما يتجمعون في أمة يوالي بعضها بعضًا. فإذا لم تقم "أمة الإيمان" فسوف تتولى "أمة الكفر" القيادة في الأرض، وتهيمن على مقاليد التوجيه والتخطيط، والتنفيذ في كل ما يتعلق بشئون السلم والحرب سواء.
والضرر الثاني، إن انتقال القيادة العالمية إلى "أمة الكافرين" سوف يؤدي إلى هيمنة "الفتنة" في حياة الناس. ولهذه الفتنة مظاهر عديدة منها: -الفتن السياسية- المتمثلة فيشيوع الظلم، وانتشار الحروب والصراعات الداخلية، أو الإقليمية أو العالمية. ومنها -الفتن الاجتماعية- كانهيار الأخلاق وشيوع التحلل، والفواحش وانتفاء الأمن وتقطيع الروابط الإنسانية. ومنها -الفتن الفكرية- كانتشار الفلسفات، والأفكار الهدامة ومضاعفاتها في الممارسات والعلاقات. ومنها -الفتن الاقتصادية- المتمثلة في "اقتصاد السحت" الذي يتورع عن الاتجار بما يهلك النفس والنسل، والاحتكار وأكل الحقوق شيوع الشح والجشع في جانب، وشيوع الفقر والحقد في جانب آخر.
والضرر الثالث: أن انتقال القيادة العالمية إلى "أمم الكفر" سوف يؤدي إلى شيوع "الفساد الكبير" في الأرض. ولهذا الفساد مظاهر متنوعة متجددة منها: الإسراف في الإنتاج الذي يبدد الموارد، والإسراف في الاستهلاك الذي يهدم العافية، ويجلب الأمراض التي لم تعرف قبل ذلك. ومنها: تخريب البيئة والتسبب باضطراب التوازن بين مكوناتها، وعناصرها ومضاعفات ذلك في تخريج المناخ والتربة، وإفساد الماء والهواء، وتدمير مقومات الحياة لعوالم الإنسان، والحيوان، والنبات.
ولو نظرنا في أحداث التاريخ -الذي هو بعض مظاهر آيات الله في الأنفس -لوجدنا براهين بينة ناصعة لهذا التقرير الذي ساقته الآية عن نتائج إخراج "أمة المؤمنين" أو هيمنة "أمة الكافرين". فحين أخرجت "الأمة المسلمة"، وأحكمت روابط "الولاية" فيها كانت نتيجة ذلك هزيمة "أمم الكفر" التي مثلتها آنذاك أمثال فارس والروم. أما حين انحسرت التربية الإسلامية لتقتصر على إعداد "الأفراد المسلمين" الذي يعتزلون الدنيا، وينتظرون الرحيل إلى العدل الأخروي، فقد نسي المسلمون أنفسهم -مفهوم الأمة المسلمة- واختفت مكوناتها من مناهج التربية وأنشطتها، وتفككت الأمة المسلمة القائمة، واحتلت مكانها أمم غير مؤمنة تسلمت القيادة العالمية، وملأت الأرض بالفتنة والفساد الكبير، وصار المسلم يشد الرحال إلى "أمم الكفر" ليتعلم في مؤسساتها كيفية إخراج الأمم، وبناء المجتمعات على النمط الذي تحدده له هذه المؤسسات، وأهدافها في التبيعية والاستعمار، وإشاعة الفتنة والفساد الكبير.
والأهمية الثانية، لقيام "أمة المؤمنين" هي ما توجه إليه الآية الثالثة -آية 74 من السورة- حول الفوائد والمنافع التي تترتب على إخراج "الأمة المسلمة"، وهي ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى، تجسيد الإيمان في "جنسية" مميزة و"هوية" خاصة، وفي حضارة إسلامية لها ثقافاتها ونظمها الاجتماعية، وتطبيقاتها في ميادين السلوك والقيم والعادات، والتقاليد الممتدة عبر الزمان والمكان. ولذلك وصفت الآية بأن أفراد "الأمة المسلمة" المجاهدين المتآوين المتناصرين في مهجر واحد "هم المؤمنون حقًّا". أما الأقليات الإسلامية المبعثرة هنا، وهناك فهذه لا تدخل في وصف "المؤمنون حقا"؛ لأنها لا تتمكن من أن تعيش إيمانها في "جنسية متميزة" وتطبيقات اجتماعية لها ثقافتها، ولغتها ونظمها الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ولها قيمها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها. وبالتالي لا تفرز حضارة متميزة تنحدر عبر التاريخ، وتشد إليها الرحال ليتعلم الناس في مؤسساتها التربوية، والإدارية كيفية الحفاظ على النوع البشري ورقيه. وإنما تذهب جهود هذه الأقليات هدرا في روافد "أمة غير مسلمة"
ثم تذوب وتختفي بعد جيل أو جيلين. ولذلك لن يكون قبول حياة "الأقلية" إلا ضرورة مؤقتة حتى ينجح العمل الإسلامي الصائب في إيجاد مهجر تقوم فيه "أمة المؤمنين"، فإذا قامت صارت حياة الأقلية رضي بالاستضعاف في الأرض، وظلمًا للأنفس ووضعها في بيئات مرهقة للإيمان تهدد بذهابه، والانتهاء
بأصحابه إلى عقوبة الله.
ولذلك حدد القسم الثاني من الآية الأولى العلاقة بين "الأمة المسلمة" و"الأقليات المسلمة" المتناثرة خارج -دار الهجرة- بأن أفرغ هذه العلاقة من -الولاء والولاية- أي عدم المسئولية عن الأقليات إلا ما كان من نصرتها إذا تعرضت لاضطهاد ديني من قبل أمم لا تربطها بالأمة المسلمة من مواثيق، ولا معاهدات. وإن الباحث ليلمح في هذه العلاقة السلبية بين "الأمة المسلمة" و"الأقليات المسلمة" خلق نوع من الأوضاع القلقة غير المريحة التي تجبر الأقليات المذكورة على الهجرة إلى مهجر "أمة المؤمنين".
والفائدة الثانية، هي الاستقرار الاجتماعي، والاستقرار السياسي المشار إليهما بـ"لهم مغفرة". فالمغفرة هي تجنيب الأمة المسلمة عقوبات أخطاء الأمم. وعقوبات الأمم في القرآن الكريم متنوعة منها ثوران الأحقاد الداخلية، أو إشاعة الفتن والحروب في الداخل، أو تسليط الغزاة من خارج:
- {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} [الإسراء: 5] .
والفائدة الثالثة، هي الازدهار الاقتصادي المصحوب بالتماسك الاجتماعي، والعلاقات الكريمة بين طبقات الأمة وأفرادها، والمحافظة على كرامة الأمة وعلى قيمها وأخلاقها في الداخل، وسمعتها التاريخية في الخارج. فـ"الأمة المؤمنة" رزقها "رزق كريم" يحفظ كرامات الأفراد رجالًا
ونساء فلا تضطرهم لقمة العيش إلى التفريض بكراماتهم، وحرماتهم ولا إلى تجارة الفواحش والمنكر. وهو "رزق كريم" يحفظ كرامة الأمة التاريخية، فلا يلطخ سمعتها ويصمها بعار الغزو والاستعمار والتسلط والاحتلال، وهو يحفظ كرامتها الحضارية، فلا يضطرها إلى ممارسة الفضائح ونقض المواثيق، والتآمر على الأصداء وإيثار المنافع المادية على علاقات الرقي الحضاري. وهو "رزق كريم" يحفظ كرامة الأمة الاجتماعية، فلا تحتاج إلى تقدمة أعراضها ونسائها كراقصات، ومغنيات وغوان في أماكن اللهو والفاحشة لتجلب السائحين، وطالبي المتع المحرمة الضارة! وأخيرًا هو "رزق كريم" يحفظ للأمة المسلمة كرامتها عند الله، ويمنحها كرامة الدرجات العلى في الآخرة سواء في المنزلة أو المأوى.
والأهمية الثالثة لقيام "أمة المؤمنين" هي ما توجه إليه الآية الرابعة -آية 75 من السورة- من خلال الإشارة إلى أن -الأمة المسلمة- هي مجتمع مفتوح غير مغلق. فباب الهجرة إليه مفتوح، والانضمام إليه له شرط واحد فقط هو الإيمان والمشاركة في حمل الرسالة، مع مراعاة روابط الأرحام بين المهاجرين في جميع الأزمان حتى لا يؤدي اختلاط المهاجرين بدون ضوابط إلى التفكك الاجتماعي. فالله عليم بقوانين الاجتماع السليم، وغير السليم وبالنتائج الحسنة أو السيئة.
وبسبب هذه الأهمية -لإخراج الأمة المسلمة- أدرك رجالات الأمة الإسلامية الأوائل أهمية إخراج "الأمة المسلمة"، ومتطلبات العضوية فيها. من ذلك ما قاله عمر بن الخطاب حين قرأ قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال:
"يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة، فليؤد شرط الله فيها"1.
1 الطبري، التفسير، جـ4، ص43، 44.
والأهمية الرابعة، لمفهوم "الأمة" الذي تطرحه التربية الإسلامية هي أهمية كبرى بالنسبة للتربية الحديثة، وللعاملين في ميادين التطوير التربوي في المجالين الإقليمي والدولي. والغفلة عن هذه الأهمية سوف تكون هدرا كبيرا لمصدر أساسي من مصادر -التربية الدولية Global Education- التي تتطلع المؤسسات التربوية العالمية إلى بنائها وإشاعتها. ذلك إن مفهوم "الأمة" يلائم المرحلة الجديدة التي وقفت البشرية على أبوابها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أصبحت معالم هذه المرحلة واضحة جلية في زمننا -زمن سرعة المواصلات والاتصال، والتكنولوجيا- حيث انهارت مفاهيم "القوم People" و"الشعب Nation"، وأخذت الحدود بين المواطن تتهدم، والروابط الدموية تتمزق، واختلطت البشرية اختلاطا شديدا من خلال الأسفار العالمية، والتجارة العالمية، والتبادل الثقافي العالمي، والزواج العالمي، ووجدت المجتمعات الحديثة نفسها بلا روابط دموية، ولا روابط جغرافية، ولا روابط ثقافية واجتماعية. بل إنه لتعاد خلخلة المجتمع الواحد، والمدينة الواحدة، والحي الواحد، والمؤسسة الواحدة، والبناية الواحدة ثم تشكيل كل منها مرة كل يوم، أو كل أسبوع من حيث الجنسيات والتجمعات البشرية حيث يرحل أناس ويحل آخرون.
في هذه الظروف الجديدة يجد الإنسان نفسه بحاجة إلى "أخوة" جديدة بدل أخوة الأسر، والقبائل والأقوام التي تمزقت، وتناثر أعضاؤها في أطراف الأرض، وإلى بديل عن الروابط التقليدية التي تعود إلى أطوار الرعي والاستقرار الزراعي عندما كانت التحركات، والعلاقات محدودة بحدود القوم والإقليم.
ومن الطبيعي أن انتهاء فاعلية الروابط التقليدية أدى إلى انتهاء فاعلية القيم، والمقاييس والأخلاق التي انبثقت عن هذه الروابط، ووضع البشرية أمام نوعين من الروابط والقيم والمقاييس لا ثالث لهما: فإما العودة إلى علاقات الغابة وطور الكهوف، وإما روابط "الأمة" الواحدة التي تعيش في
"قرية الكرة الأرضية" الواحدة في ظل عقيدة واحدة وثقافة واحدة. وفي هذه الحال لا تجد البشرية نموذجا لهذا لنوع الثاني من الروابط إلا رباط "الأمة المسلمة" بمحتوياته الفكرية -النفسية وتطبيقاته الاجتماعية التي تتجاوز روابط الدم والأرض، والمصالح المادية وتتجاوب كليا مع حاجات الطور العالمي الذي دلفت إليه البشرية المعاصرة.