الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة للعمل الصالح
…
الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة لـ"العمل الصالح"
والسؤال الذي نطرحه: كيف تعمل التربية الإسلامية على إخراج الإنسان الذي يقوم بـ"العمل الصالح" بكفاءة كاملة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من أمرين: الأول: تعريف العمل. والثاني: كيف يتولد العمل. أما عن الأمر الأول، فإنه التربية الإسلامية تطلق اسم "العمل" على كل حركة مقرونة بهدف:"إنما الأعمال بالنيات" 1، ولما كان الهدف خاصا بالإنسان فإن القرآن أطلق اسم -العمل- على حركات الإنسان الهادفة لجلب الخير ودفع الشر أو العكس، أما الحركات غير الهادفة -كحركة الشمس والقمر والرياح- فقد سماها جريانا.
فالعمل إذن هو: حركة وهدف. والقرآن يسمي الحركة المتوجهة نحو الهدف "إرادة". وتوصف الإرادة بـ"العزم والإخلاص" إذا تحركت إلى الدرجة التي تحقق الهدف. ويوصف الهدف بـ"الصواب" إذا اتفق مع سنن الخلق وقوانينه، ويوصف بـ"الخطأ" إذا خالفها، ويسمى مقترفه "خاطئ" وثمرته "خطيئة".
ويقدم القرآن شخصيات الأنبياء، والرسل كنماذج يتحقق في أعمالها عزم الإرادة وصواب الهدف. ومن أمثال ذلك قوله تعالى:
- {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35] .
1 حديث شريف في مطلع صحيح البخاري.
- {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] .
ولقد خلص مفسرو جيل الصحابة والتابعين من أمثال ابن عباس، ومجاهد والسدي وقتادة إلى أن -أولي الأيدي- هم أولوا القوة في طاعة الله. أما أولو الأبصار فهم أولو العقول التي تصيب الحق، والفقه في الدين1.
والقوة هي ثمرة -الإرادة، أما الإبصار فهو ثمرة -القدرة. أي إن العمل هو: قدرة وإرادة، فإذا وجدت القدرة ووجد إلى جانبها الإرادة يتولد العمل.
وهنا ينهض سؤال آخر هو: ما هي القدرة؟ وما هي الإرادة؟ وكيف يمكن تنمية كل منهما كمقدمة لتزاوجهما بغية توليد "العمل"؟
الجواب: القدرة نوعان: قدرة بمعنى الطاقة، وهذه يشترك بها الإنسان والحيوان والجماد. وقدرة تسخيرية، وهي القدرة على تسخير طاقات المخلوقات المحسوسة في الكون طبقا للقوانين التي تنظم وجود هذه المخلوقات، ولما تمليه حاجات الإنسان في البقاء والرقي. وهذه خاصة بالإنسان وهي التي يجري عليها التركيز في التربية الإسلامية؛ لأن إتقان هذه القدرة يهيئ للإنسان المسلم أن يستيقن من قدرة الله، ومظاهر صنعه ونعمته، وأن يسجد مكانته كخليفة في الأرض، وأن يستثمر قوانين الموجودات والأحداث من حوله لما فيه بقاؤه ورقيه.
والقدرة التسخيرية هي ثمرة تزاوج القدرات العقلية الناضجة مع الخبرات الدينية، والاجتماعية، والكونية المربية. أي أن القدرة التسخيرية تولد من خلال النظر العقلي السليم في تاريخ الأفكار، والأشخاص، والأحداث، والأشياء، والإحاطة بنشأتها ثم تطورها وواقعها.
1 الطبري، التفسير، جـ23، ص169-170.
أما الإرادة، فهي توجه رغبات الفرد نحو هدف معين. وهي أيضا مما يميز الإنسان عن المخلوقات الأخرى. وتكون الإرادة سليمة حين تتوجه رغبات الفرد نحو حاجاته الأساسية والعليا بالقدر، والأسلوب اللذين يجلبان له النفع ويدفعان عنه الضرر في حياته ومصيره. وتطلق مصادر التربية الإسلامية -في القرآن والسنة- على نماذج الحاجات الجالبة للإنسان ما ينفعه، والدافعة عنه ما يضره في حياته، وآخرته اسم "المثل الأعلى".
والإرادة هي ثمرة التزواج بين القدرات العقلية، والمثل الأعلى المشار إليه. أي أن -الإرادة- تولد من خلال النظر السليم في مستويات المثل الأعلى التي تتضمن نماذج الحاجات، التي تجلب للإنسان النفع وتدفع عنه الضرر وتأخذ بيده في مدارج البقاء والرقي1.
من ذلك كله يمكن القول أن "العمل الصالح" الذي هو سمة الفرد الصالح هو ثمرة عدد معين من العمليات التربوية، التي تتكامل حسب نسق معين يمكن أن نوجزة في المعادلات التالية:
العمل الصالح = القدرة التسخيرية + الإرادة العازمة.
الإرادة العازمة = القدرات العقلية الناضجة + المثل الأعلى.
القدرة التسخيرية = القدرات العقلية الناضجة + الخبرات الدينية والاجتماعية والكونية المربية.
وجميع هذه العناصر التي تشتمل عليها المعادلات المذكورة أعلاه تنمو، وتنضج بالتربية والإعداد الخاص، وإحكام تنميتها ثم المزواجة بينها طبقا
1 البقاء والرقي: هما المقاصد النهائية للتربية. والمقصود بالبقاء: البقاء الآمن المعافى في الدنيا والآخرة. أما الرقي ماديا ومعنويا، ويبلغ قمته في تحقيق العبودية لله وحده، والتحرر من عبودية الأشخاص والأشياء.
لقواعد معينة لتوجد المركبين الآخرين وهما: الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية باعتبارها جميعها حين تنضج تربيتها تنتهي إلى إنجاب "العمل الصالح"، الذي هو الهدف الأخير للعملية التربوية.
وإحكام تنمية مكونات العمل الصالح وتنسيقها، وإحكام التفاعل والمزاوجة بينها لإنجاب مركب -العمل الصالح- هو بعض مظاهر -طريقة الحكمة- في التربية الإسلامية التي وجه القرآن إلى ضرورة تكاملها مع كل من طريقة الوعظ الحسن، وطريقة الجدال الأحسن.
ويصور الشكل التالي "رقم5" تفاصيل هذه العمليات، والمزاوجة بين العناصر المشار إليها.