الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: معنى "العمل الصالح" في التربية الإسلامية
1
ورد لفظ -العمل- في القرآن الكريم في "359" موضعًا. أما في الحديث الشريف فيصعب حصر عدد المواضع التي ورد لفظ العمل فيها.
وفي جميع المواضع المشار إليها يلحق بـ"العمل" إحدى صفتين اثنتين: إما صفة الصلاح أو صفة السوء. فيوصف العمل بأنه "عمل صالح" أو"عمل سوء".
و"العمل الصالح" هو الترجمة العملية والتطبيق الكامل للعلاقات التي حددتها فلسفة التربية الإسلامية بين إنسان التربية الإسلامية من ناحية، وبين كل من الخالق والكون، والإنسان والحياة، والآخرة من ناحية أخرى2.
ويقدم القرآن الكريم نماذج وأمثلة للعمل نذكر منها:
- العمل العلمي والثقافي: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] .
- السياسات الظالمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] .
1 لقد كان لما كتبه الأستاذ جودت سعيد في كتابه -العمل- أثر كبير في رسم الإطار العام لهذا الباب وإبراز مكوناته.
2 للوقوف على تفاصيل كل علاقة من العلاقات الخمس المذكورة، راجع كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- الطبعة الثانية، للمؤلف.
{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] .
{وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] .
- العمل الديني: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138-139] .
- العمل السياسي الشامل: فقد تحدثت الآيات الأخيرة من سورة الأنفال عن سياسات الأمة المسلمة الداخلية، وعلاقاتها الخارجية ووصفتها بأنها عمل يبصر الله ظاهره وباطنه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72] .
- والعمل الزراعي: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يونس: 35] .
- والعمل المهني: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] .
- والعمل الصناعي: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ: 11] .
- والعمل الوظيفي: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] .
- والعمل الفكري والتربوي: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] .
- والعمل الاقتصادي: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ
كَفَّارٍ أَثِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 276-277] .
- العمل القضائي: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] .
- العمل الاجتماعي: فقد تحدثت الآيات "230-236" من سورة البقرة -مثلا- عن علاقات الرجل والمرأة وتنظيم الأسرة ومسئولياتها، ثم ختمت الحديث بأمثال قوله تعالى:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [233] ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [234] .
- والعمل الديني والأخلاقي والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا.
وأخيرا الديني بجميع مظاهره على المستويين الفردي والجماعي مثل:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] .
ويمكن تصنيف جميع أشكال العمل المشار إليها في ثلاثة مظاهر هي: عمل ديني، وعمل اجتماعي، وعمل كوني.
وتعريف "العمل" بهذا الشكل يقودنا إلى مبادئ خمسة تتصل بالعمل نفسه وهي:
المبدأ الأول، تكامل مظاهر العمل وعدم فاعلية أي منها دون الآخر؛ لأن العمل الديني يتضمن أهداف الحياة ومقاصدها، بيما يتضمن العمل الاجتماعي، والعمل الكوني الوسائل المناسبة لتحقيق هذه الأهداف والمقاصد. ولذلك إذا وجدت الوسائل، ولم توجد الأهداف فإنه لا فائدة من الوسائل، وكذلك إذا وجد العمل الاجتماعي، والعمل الكوني ولم يوجد العمل الديني فإن العمل غير نافع ولا مريح، ولذا فهو غير مقبول ولا معتبر. وكذلك إذا وجد العمل الديني، ولم يوجد العمل الاجتماعي والعمل الكوني، فإن العمل عقيم؛ لأن الأهداف التي لا وسائل لها يستحيل تحقيقها والوصول إليها.
لذلك كله لا يتصور هناك مسلم -أو إنسان صالح- بدون عمل. فصورة المؤمن المستسلم العاجز صورة غير إسلامية، وهي بعض رواسب تراث الكهانة التي سبقت الإسلام، ولذلك أيضًا لم يكن الزهد والورع والتقوى انقطاعًا عن العمل، وإنما هي بعض مواصفات -العمل الصالح- تكسبه طابعه وتميزه عن -العمل السوء. والحديث النبوي يقرر أن الزهد ليس بتحريم الحلال وإضاعة المال، وإنما الزهد أن يكون الإنسان أوثق بما في يد الله منه مما في يده، فيهون عليه البذل ولا يتردد في التضحية.
والمبدأ الثاني، إن -العمل الصالح- لا يقتصر على جلب الخير النافع، وإنما يتعداه إلى محاربة الشر الضار. فالعمل الصالح إذن من حيث أثره ينقسم إلى قسمين: عمل هدفه جلب النافع للإنسان والمرضي لله، وعمل هدفه دفع الضار بالإنسان والمغضب لله، والإنسان الذي يمارس القسمين من العمل يطلق عليه اسم "الصالح-المصلح"، والذي يقتصر على القسم الأول يطلق عليه اسم "
الصالح" فقط. والقيام بأحد القسمين لا يغني عن الآخر؛ لأن القسم الأول يفيد في النماء والتقدم. بينما يفيد القسم الثاني في منع أسباب الفساد والتخلف، والانحطاط.
والإنسان الصالح -المصلح هو النموذج الذي تسعى التربية الإسلامية إلى إخراجه. ولذلك جاء في القرآن الكريم أن الخراب لا يلحق بالأمم التي تتكون من أفراد وجماعات صالحين -مصلحين:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] .
ولكن الخراب ينزل بالأمة التي تضم أفرادا وجماعات صالحين غير مصلحين.
ويقدم الحديث النبوي تفصيلات واسعة ودقيقة عن ماضي الأمم، الذين اكتفوا بالصلاح وواكلوا غير الصالحين ورضوا بأفعالهم، فكان ذلك سببا في شمول الجميع بالعذاب، كذلك يقدم الحديث النبوي تحذيرات صارمة للمسلمين ليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويقفوا بوجه الظالم، ويتصدوا للمفسدين، وإلا سيذيقهم الله ألوانا من العذاب السياسي والاجتماعي والعسكري، والاقتصادي في الدنيا إضافة ما ينتظرهم في الآخرة.
والمبدأ الثالث، إن "العمل الصالح" من حيث صفته ينقسم إلى قسمين: عمل أخلاقي وعمل ناجح. واجتماع الصفتين أمر ضروري في التربية الإسلامية؛ لأن العمل إذا كان أخلاقيا ولكن غير ناجح لا يجلب منفعة ولا يدفع ضررا، وإذا كان ناجحا ولكن غير أخلاقي، فإنه لا يجلب سعادة ولا أمنا. فإذا اجتمعت الصفتان فيه كان نافعا غير ضار، جالبا للسعادة والاستقرار. وإلى صفة النجاح أشار علماء الإسلام باسم -الصواب- وأطلقوا على صفة -الأخلاق- اسم -الإخلاص، واشترطوا أن يكون
العمل صائبا مخلصا، فإذا كان صائبا غير مخلص لم يقبل، وإذا كان مخلصا غير صائب لم يثمر1.
لذلك لا يتصور أن يكون هناك "عمل صالح" غير ناجح. والذين يؤولون حديث: "إنما الأعمال بالنيات" تأويلًا يفصل بين العمل ونتيجة هم أناس يتأولون الحديث على غير معناه. والذين يبررون الأخطاء والارتجال والقصور بأمثال القول: ليس ضروريا النجاح وتحقيق الأهداف، وإنما المهم هو العمل هم أنس لا يرسخون في مفهوم العمل ولا يحيطون بقوانينه.
المبدأ الرابع، مبدأ النفعية، أي إن العمل مقصود به منفعة العامل. فالتربية الإسلامية لا تتنكر لمبدأ النفعية أبدًا بل هل تشدد عليه، وتكرر هذا التشديد.
وتتكرر الإشارة إلى مصطلح "النفعية"، ومشتقاته في القرآن الكريم إيجابا وسلبا في "50" خمسين موضعا. من ذلك قوله تعالى:
- {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164] .
- {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] .
- {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 7] .
أما في الحديث النبوي فيتكرر مصطلح "النفع"، ومشتقاته في مئات المواضع من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع"2.
والذين فصلوا بين العمل والمنفعة هم إما أناس مغالون في المثاليات، التي يصعب على الإنسان أن يعيشها، أو أناس متأثرون بمفاهيم تعذيب النفس وإيرادها المشقات التي احتوت عليها الأديان، والفلسفات السابقة على
1 دكتور ماجد عرسان الكيلاني، تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، "المدينة المنورة: دار التراث، 1405-1985"، ص207.
2 صحيح مسلم "شرح النووي"، جـ17، كتاب الذكر، ص41.
الإسلام، أو أناس قصدوا أن يجردوا العمل الإسلامي من الدوافع التي تدفع إليه وترغب به، أو مترفون قصدوا تخدير الكادحين وجعلهم يسكتون على الاستغلال والاحتكار.
ولكن النفعية التي توجه إليها التربية الإسلامية نفعية أكثر اتصالا بطبيعة الإنسان وفطرته، وهي أشمل تلبية لحاجاته المادية، والنفسية والاجتماعية، وهي مرافقة له خلال الأطوار التي يمر بها خلال رحلته عبر محطات النشأة والحياة والمصير. وهي جامعة لصفتي العمل الصالح: أي النجاح والسعادة، ولذلك كله فهي خالية من المضاعفات السلبية التي تفرزها نفعية الفلسفات الأخرى كالبراجماتية الأمريكية التي توفر النفعية في ميادين، وتفرز الضرر في ميادين أخرى من حياة الإنسان، أو تؤدي إلى النجاح، ولكنها لا توفر السعادة. وبالتالي فالنفعية التي توجه إليها التربية الإسلامية لا تقتصر على فرد أو جماعة، ثم تلحق الضرر بفرد آخر أو جماعة أخرى، ولا تقتصر على مرحلة الحياة أو بعض محطاتها، وإنما تشمل مرحلتي الحياة والمصير.
ويقدم القرآن الكريم أمثلة عديدة لمنافع "العمل الصالح" فيذكر منها: الأمن، والتمكين في الأرض، والحياة الطيبة، ووفرة الخير والبركة، والدرجات العالية، والجزاء الحسن، والتمتع بنعم الله، والصحة النفسية والجسدية، والاطمئنان الاجتماعي، واليقين، ودخول الجنة، وغير ذلك. وفي المقابل يقدم القرآن أمثلة عديدة لمضار "العمل السوء" فيذكر منها: المعيشة الضنك، والإجلاء من الأرض، وتمزيق المجتمعات والأمم، وسقوط المنزلة، والانهيار الاقتصادي، والدمار الاجتماعي، والسقوط الحضاري، والاضطراب النفسي والفكري، والشقاق والفرقة، والأمراض النفسية والجسدية، ودخول جهنم وغير ذلك. والأمثلة لكل من منافع العمل الصالح ومضار العمل السوء أكثر من أن تحصى، منها قوله تعالى:
والمبدأ الخامس، هو ضرورة الإعداد والتربية والتدريب على "العمل الصالح" وتوفير بيئاته ومؤسساته وأساليبه وخبراته. إذ لا يتصور أن يترك بروز "العمل الصالح" لجهود الأفراد وحدهم، أو للمحاولات التلقائية، والخبرات السطحية الساذجة، أو للمؤسسات التقليدية، والجماعة والآبائية، والطرق، والزوايا وأمثالها. ولذلك ورد "العمل الصالح" في القرآن والحديث مقرونا بالإيمان والعلم والحكمة، والجهد المتواصل والتعاون الجماعي على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم، والعدوان بينما اقترن "العمل السوء" بالجهل والكسل، وما يفرزانه من كفر ونفاق وترف.