الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع والعشرون: مصير الأمة المتوفاة
لا تتوقف السنن والأقدار عند -إعلان وفاة الأمة ودفنها- وإنما تستمر في عملها خطوات أخرى يصفها القرآن الكريم بـ"التقطيع في الأرض" و"الابتلاء بالحسنات والسيئات" و"الرجوع" و"الاستبدال". وإلى هذه الخطوات يشير قوله تعالى:
- {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] .
- {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون: 42] .
- {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
أما تفاصيل هذه الخطوات وتتابعها فهي كما يلي:
1-
التقطيع والتجزئة:
و"التقطيع" المشار إليه هنا هو تفكيك عناصر الأمة المتوفاة، وانهيار مؤسساتها، وبعثرتها إلى دويلات وأقليات متناثرة هنا وهناك. وحقيقة هذا التقطيع أنه معالجة لـ"الصالحين" ومن هم "دون ذلك" ممن نزحوا هاربين خلال إعلان الوفاة والدفن. ذلك أن إنسان ما بعد دفن الأمة الميتة هو إنسان مثقل بـ"الأغلال" السياسة و"الآصار" الثقافية والاجتماعية التي تراكمت خلال فترات الجمود والآبائية، وأدت إلى وقوعه في أسر صنمية "الأشخاص والأشياء"، فصار يعاني من مرضين: الأول، عدم وضوح الرؤيا الفكرية ولذا يعجز عن النظر الصائب في -آيات الكتاب- أي مصادر الرسالة،
ويعجز عن النظر في -آيات الآفاق والأنفس- أي أحداث الاجتماع البشري والكون، وإنما يراها ملونة بتراث مراحل الجمود والآبائية تماما كما ترى العين الفضاء الواسع، والأشياء المتناثرة فيه ملونة بلون النظارة التي تعلو العين. والمرض الثاني، موت الإرادة العازمة، والعجز عن التحرك إلا نحو الحاجات الدنيا المتمثلة في الغذاء والكساء، والجنس دون التطلع إلى الحاجات العليا المتمثلة في التقدير وتحقيق الذات. ولذلك فهو إنسان غير صالح للرسالة بحالته القائمة إلا إذا أعيد تشكيل شخصيته، وقام بنقد ذاتي جسور -أو توبة نصوحة- من آثار التقليد والآبائية والعجز. وهذا ما يوفره التحرر من أسر مجتمع الولاء لـ"الأشياء" والعيش في بيئات "التقطيع".
2-
الابتلاء بالحسنات والسيئات:
وهذه خطوة مكملة لسابقتها. إذ هي إعادة تشكيل لشخصية إنسان ما بعد الأمة المتوفاة من خلال تمريره في سلسلة من الخبرات السارة، والمؤلمة التي تهيؤه لمراجعة أنماط الحياة السابقة التي انتهت به إلى التمزيق، والشتات في الأرض. فالابتلاء هنا شبيه بتسليط النار الشديدة على قطع الحديد التي استشرى فيها الصدأ ثم طرقها وإعادة صقلها. وهكذا الابتلاء هو إعادة صقل بالحرمان، والمصائب ليتحرر إنسان ما بعد الأمة المتوفاة من قيود زينة الدنيا، وتعود إليه قابلية حمل الرسالة، ونصرة الحق وتذوق الخير والجمال، ومحاربة الباطل والنفور من الشر والقبح. والمرور في هذه العمليات الابتلائية يؤدي إلى إعادة النظر في الموروثات الثقافية، والاجتماعية وبلورة نموذج "مثل أعلى" جديد، ونظام تربوي جديد، وتنظيم صفوف "شظايا" الأمة، وتنمية قدراتها على تسخير إمكاناتها البشرية، والمادية لإعادة بعث الأمة واستئناف رسالتها.
والنجاح في هاتين الخطوتين -التقطيع والابتلاء- يؤهل الإنسان المبتلى للقيام بعملية "الرجوع" إلى إخراج الأمة المسلمة من جديد، وهو ما يشير إليه جزء الآية القائل:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
3-
فقه الرجوع إلى إخراج الأمة المسلمة من جديد:
والمشلكة هنا في فقه "الرجوع" وطبيعته ومظاهره وطرقه، ووسائله وأدواته واستراتيجياته. فهو أيضا تحكمه السنن والقوانين، ويحتاج إلى فقهاء وعلماء مختصين. ويحتاج إلى مؤسسات فكرية وتربوية، ودوائر بحوث ودراسات. ويحتاج إلى ابتكار علوم جديدة ذات أصول إسلامية تعي ما يجري في قرية الكرة الأرضية وتسترشد بالتوجيهات النبوية من أمثال ما أورده المناوي في كتابه -فيض القدير- عن قوله صلى الله عليه وسلم:
"رحم من حفظ لسانه، وعرف زمانه، واستقامت طريقته"1.
فمعرفة الزمان، وتفتيق العلوم اللازمة لمعرفة الزمان وحاجاته، وتحدياته وأصول الوقائع والأحداث الجارية فيه شرط لتوجيه ظروفه، وتسخير أحداثه بدل الغرق في تيارها، وشرط لصوابية التخطيط والتنفيذ في استراتيجية "الرجوع" إلى إخراج الأمة المسلمة من جديد.
ومع إن مؤسسات التربية والفكر، والدعوة تحتاج أن تفرز علوما جديدة لفهم السنن، والقوانين التي توجه إخراج الأمة والمحافظة على عافيتها، وكيفية تحويل هذه العلوم إلى تطبيقات عملية في ميادين التربية والإدارة، وفي أخلاق العاملين فيها ومؤهلاتهم وعلاقاتهم، إلا أنه يمكن القول أن الوقوف على السنن، والقوانين التي توجه "فقه الرجوع إلى الإسلام" يستدعي مراعاة الأمور التالية:
أولا: انسحاب الطليعة الواعية المثقفة التي تحسن بمأساة -الأمة الميتة- من صفوف المجتمع الميت والتوقف عن الاشتغال بالقضايا العامة بغية التفرغ للقيام بـ"توبة" شاملة تبدأ في نفوس المسلمين، ويكون من ثمارها الانتقال من حالة -الحس- إلى حالة -الوعي- بأسباب الوفاة، وبالاستراتيجية اللازمة لإخراج أمة مسلمة جديدة.
1 المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، جـ4، "القاهرة: دار الفكر، 1391/ 1972" ص29، رقم 4440.
ويحدد الرسول صلى الله عليه وسلم زمن هذا الانسحاب وغايته فيقول:
"إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودعك من أمر العامة"1.
والشح المطاع، والهوى المتبع، وإيثار الدنيا، والإعجاب بالرأي الشخصي -كما مر- كلها إشارات إلى صفات الأمة الميتة. فالشح المطاع دلالة على جفاف "المثل الأعلى"، والهوى المتبع دلالة موت "القدرات العقلية" التي تميز بين "المثل الأعلى" و"المثل السوء"، وإيثار الدنيا دلالة العجز عن حمل "الرسالة" ومتطلباتها في "الإيواء والنصرة"، والإعجاب بالرأي الشخصي دلالة الانغلاق وجفاف "الخبرات الاجتماعية والكونية"، وعدم الاستفادة منها في تسخير سنن الكون لتطوير "وسائل تحقيق المثل الأعلى. والتوقف عن الاشتغال بـ"أمر العامة" عند ظهور المضاعفات المذكورة ضرورة لها أهميتها الكبرى. فهو -أولا- يوفر للمنسحب القيام بـ"توبة" شاملة تمحو آثار المضاعفات السلبية التي ضربت "خاصة نفس" المنسحب طالما نشأ، وترعرع في بيئات الأمة الميتة وتسلم منها موروثاتها الثقافية والاجتماعية، وأنماط التفكير فيها. وثمة أهمية -ثانية- إن الانسحاب عامل أساس في تحقيق عنصري الإخلاص، والإصابة لدى العاملين في ميادين التربية والدعوة والإصلاح. فالعمل في هذه الميادين قبل الانسحاب والعودة يتحول -في الغالب- إلى استثمارات عقائدية، وسياسية هدفها مصلحة الأفراد العاملين في ميادين الإصلاح للوصول إلى الجاه، والمال والنفوذ لأنفسهم أو أسرهم وعشائرهم.
1 الترمذي، السنن، جـ8، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة "تحقيق عزت عبيد الدعاس" ص22، رقم 3060.
ومثله: سنن أبي داود، جـ4، كتاب الملاحم.
و: سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، جـ2، ص1331، رقم 4014.
ويراعى خلال فترة الانسحاب أن يركز المنسحب على تشخيص نفسه لتحري الأمور التالية:
أ- "محور الولاء" عنده إن كان يدور في فلك الأفكار أم الأشخاص أم الأشياء ثم العمل على تزكية هذا الولاء، وجعله يدور في فلك "أفكار" الرسالة؛ لأن حقيقة الدوران في فلك "الأفكار" توحيد، وفي فلك "الأشخاص" شرك، وفي فلك "الأشياء" وثنية.
ب- تزكية "المثل الأعلى" لديه، وذلك بمراجعة عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة عنده لتستقر على دائرة "الولاء لأفكار الرسالة" وتستمد محتوياتها منها.
جـ- تزكية "الخبرات الاجتماعية والكونية"، وذلك بمراجعة ما تسلمه منها من بيئته المحيطة أو انحدر إليه من تراث الآباء مراجعة تستهدف تصويب الخاطئ، واستبعاد الميت الذي مضى زمنه، والتعرف على الجديد الذي قامت الحاجة إليه، واسترجاع النافع الذي لفه النسيان.
د- تزكية "القدرات العقلية"، وتحريرها من صنمية "الأشخاص" و"الأشياء" وإعدادها للنمو، وأخذها بالتدريب الحر، للعمل في فلك "أفكار" الرسالة دون خوف من "شخص" أو طمع "بشيء".
هـ- تزكية "الإرادات" وذلك بتحريرها من التوجه إلى "مثل السوء"، وتوجيهها إلى "المثل العليا" لتكون نبيلة، وتنميتها إلى أقصى مراتبها لتصير "عازمة".
و تزكية "القدرة التسخيرية" لتكون قادرة على شهود قوانين الله في الآفاق، والأنفس وتحويلها إلى تطبيقات فاعلة، ووسائل تسهم في تحقيق غايات الحياة ومقاصدها العليا.
ولتكون هذه التزكية -أو المراجعة- فاعلة نافعة لا بد من البحث الراسخ المحيط في مصدرين اثنين: الأول، في آيات وأحاديث
الرسول صلى الله عليه وسلم بغية فقه الأمور الستة المذكورة أعلاه "أ-و" فقها يتصف بـ"الأصالة" أي الانسجام مع توجيهات الكتاب والسنة. والمصدر الثاني، في آيات الآفاق والأنفس بغية تحقيق صفة "المعاصرة" في فقه الأمور الستة المشار إليها أعلاه، أي فقهها فقها يتناسب مع حجم التحديات القائمة، ويلبي حاجات المرحلة المعاصرة زمانا ومكانا.
ومن البحث في هذين المصدرين ومراعاة هاتين الصفتين، يبدأ المنسحبون في بناء فلسفة جديدة للتربية، وبلورة أصول متينة للاجتماع البشري، وإبراز أهداف جديدة، ومناهج جديدة، وميادين معرفية جديدة، ومربين جدد، ومؤسسات جديدة تسهم كلها في إخراج إنسان جديد، وبناء شبكة علاقات اجتماعية جديدة تحتوي على مضامين جديدة معاصرة لعناصر الأمة التي يراد إخراجها، وتعلن ميلاد أمة مسلمة جديدة.
ثانيا: عودة المنسحبين إلى -المجتمع- بغية العمل على "توبة" الآخرين، وتحقيق أمرين اثنين: الأول، استبدال "المثل السوء" الذي أدى إلى مرض الأمة ووفاتها، واستبدال "الخبرات الاجتماعية والكونية" الخاطئة، وتحرير "القدرات العقلية" المكبلة بأغلال الصنمية السائدة، وآصار الآبائية المستحكمة. والأمر الثاني، إخراج الأمة المسلمة الجديدة حسب النموذج الذي "فقهه" المنسحبون -العائدون خلال فترة الانسحاب.
ويراعى في إخراج الأمة الجديدة التدرج في هذا الإخراج حسب التفاصيل التي مرت عند تعريف الأمة في الفصل الأول من هذا البحث. وهذا يعني أن تعمد الجماعات، والمجموعات الإسلامية المتناثرة هنا، وهناك في حارات الكرة الأرضية إلى تكوين "أمم صغرى" في مهاجرها "الحبشية" الموقوتة تتكون كل أمة من عناصر: الأفراد المؤمنين، والهجرة، والرسالة والجهاد، والإيواء، والصنرة، والولاية حسب المفاهيم والمضامين التي مرت في هذا البحث، على أن تكون مقدمة لتجميع هذه "الأمم الصغرى" في "أمة إسلامية كبرى" يكون مهجرها النهائي الدائم هو الأرض التي رسم
حدودها إبراهيم عليه السلام والرسل من ذريته منذ موسى عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم وأقاموا مؤسساتها التي صار محورها المسجد الحرام، والحرم النبوي، والمسجد الأقصى.
ثالثا: توجيه "الأمة المسلمة الكبرى" لحمل -الرسالة الإسلامية- ونشر نموذج "المثل الأعلى" الإسلامي بين الأمم الأخرى، بعد أن تعيش الأمة المثل المذكور واقعا قائما، وتجعل منه "جنسية" حية، و"ثقافة" فاعلة متحركة يستطيع بنو البشر تذوقها، وتعشقها حالما تقع أبصارهم على أفراد الأمة "المجاهدين" في سبيل نشرها.
وهذا المنهج -في الانسحاب والعودة- هو ما وجه إليه الله سبحانه رسوله الكريم حين انسحب من مجتمع مكة قبيل الرسالة ليتفكر، ويتحنث في -غار حراء- إلى أن عاد إلى الإنسانية بتصور جديد لوجودها، ومراجعة شاملة لموروثاتها الدينية، والاجتماعية، والكونية.
ولقد اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في الانسحاب والعودة مصلحون كثيرون، من أبرزهم حركة الإصلاح التي بدأها أبو حامد الغزالي وطبق منهجه عمليا طليعة كبيرة كان لهم الدور الأكبر في إخراج جيل صلاح الدين وعودة القدس1. ولكن أولئك المنسحبين ركزوا في "توبتهم" على "المثل الأعلى" دون الخبرات الاجتماعية والكونية"، ولذلك اقتصرت نجاحاتهم على تحقيق عنصر "الإخلاص" دون "الإصابة"، أو نقول: نجحوا في تنمية "الأمانة" دون "التمكين"2. ولذلك نجح -جيل صلاح الدين الذي أخرجوه- في ميدان الجهاد العسكري وتحرير المقدسات، ولكنه لم ينجح في تطوير النظم والمؤسسات التي تضمن استمرارية الحضارة الإسلامية وفاعليتها،
1 التعرف على كيفية إخراج جيل صلاح الدين راجع كتاب -هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادت القدس -للمؤلف.
2 للوقوف على معاني: الإخلاص، والإصابة، والأمانة، والتمكين، راجع صفحات 93، 94 من هذا البحث.
فخلفهم خلف عادوا للموروثات الخاطئة في الإدرا والحكم، والذي وحده جيل صلاح الدين عاد -جيل أبنائه- وقسموه ميراثا بين أولئك الأبناء. وكذلك أصاب الخلل حركات الإصلاح نفسها التي ضربها الانشقاق المذهبي والآبائية، وانتهت إلى موروثات الدروشة والطرق الصوفية.
هذه خطوط عريضة أولية في "فقه الرجوع إلى الإسلام"، وإذا لم تراعَ هذه الخطوط فسوف يكون "رجوعا" سطحيا، متشنجا أو خنوعا ينتهي إلى العصبية المذهبية، والحزبية أو الدروشة الطريقة. وسوف يقتصر "الرجوع" على ما يظن أنه "أشكال صالحة" بدل "الأعمال الصالحة"، أو ما يظن أنه "سنة الرسول" بينما هو "سنة الحمس"1.
4-
استبدال الأمة المتوفاة:
ولكن قد تخطئ الجماعات "المتقطعة" في الأرض استراتيجية "الرجوع إلى الإسلام"، وإخراج الأمة المسملة من جديد، ثم يكون من نتائج هذا الخطأ أن لا
تحسن فقه "الابتلاء بالحسنات والسيئات" و"الخبرات" الإيجابية والسلبية التي تمر بها في بيئات "التقطيع"، وبالتالي ل تحسن إخراج الأمة المسملة من جديد حتى تصل إلى حالة "الغثاء" نهاية مأساوية يشير إليها قوله تعالى:
1 الحُمس: اسم أطلقته قريش على نفسها وعلى أحلافها في الجاهلية. ومعناه: أهل الحرم. وكان يحرم على الزوار الذين يفدون للجح، والعمرة أن يأكلوا من طعامهم الذي جاءوا به إلا طعام الحمس. ولا يطوفوا بالكعبة إلا في ثياب يشترونها من الحمس، فإن لم يستطيعوا شراء ثياب الحمس، أو استئجارها عليهم أن يطوفوا عراة، وفي هذه الحالة يستر النساء عوراتهن بقطعة قماش خفيفة، ثم يطفن وهن يرددن:
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحله
الطبري، التفسير، جـ8، ص160، 161 والطبري، التفسير، جـ2، ص292-293، وسيرة ابن هشام.
فـ"الغثاء" بقايا ونفايات بشرية خاوية تعيش على هامش مجرى الاجتماع الإنساني كدويلات وأقليات متناثرة، وثقافات هامشية تراثية -آثارية. ولي سفيها قابلية البعث من جديد، والإسهام في حمل الرسالة، فلا هي مستعدة للتضحية، ولا قادرة على التحرر من رق الشهوات الفردية والولاءات العصبية، وأبرز صفاتها هو -الوهن- أي حب الدنيا وكراهية الموت، والتضحية حسب تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تخاف من تكاليف الحرية، وتجبن عن مجابهة الظلم في الداخل وصد الغزاة من الخارج، بل إن هذا الجبن يصبح عند "الغثائيين" مردافا للحكمة والتعقل، ولذلك ترحل -الرسالة- لتزكية خامات بشرية جديدة ما زالت تحتفظ بفطرتها المعافاة من "الوهن".
وحين تكمل تزكية هذه العناصرة الجديدة تبدأ دورة أخرى في بناء أمة جديدة تتسلم إمامة الإرشاد في الأرض، وتبدأ دورة الإصلاح من جديد بقوة، ونشاط يتطابقان مع مستوى "المثل الأعلى" الذي تطرحه المؤسسات التربوية التي أسهمت في تربية الأمة الجديدة. وإخراج هذه الأمة الجديدة، لتحل محل الأمة
الميتة هو ما يشير إليه قوله تعالى:
{إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] .
ولعله من المناسب أن نقول: أن هذه السنن والقوانين في التعذيب، والاستبدال هي التي وجهت تعاقب الأمم الإسلامية من العرب المسلمين، والفرس المسلمين، والسلاجقة والزنكيين، والأيوبيين، والمماليك، ثم الأتراك العثمانيين. فقد رحلت الرسالة الإسلامية من الأمة السابقة إلى اللاحقة، واستمرت في كل أمة من هذه الأمم ما دامت تقوم بتكاليف الرسالة حتى إذا أثاقلت إلى الأرض استبدلها الله بالتي تليها.
ولعله من المناسب -هنا- أن نوضح أن هزيمة العثمانين آخر الأمم
الإسلامية المستبدلة أمام جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وإلغاء الخلافة على يد أتاتورك لم يكن إلا إعلانا للوفاة التي نزلت بالعثمانين قبل الحرب بسنين طويلة، وأن المسلمين أنفسهم كانوا يضيقون بنتن الخلافة المتوفاة، ويعبرون عن هذا الضيق من خلال أمثال جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وغيرهم ممن كرسوا جهودهم لبعث الأمة المتوفاة من جديد.
ويلاحظ أن عمليات "التقطيع" أو التمزيق، والتقسيم التي نزلت بجثة الخلافة العثمانية المتوفاة، وعمليات "الابتلاء والاختبار بالحسنات والسيئات" أو التجارب السارة، والضارة التي مرت بها هذه القطع والتقسيمات لم تضع المؤسسات التربوية في العالم العربي، والإسلامي على الطريق الصحيح لإعادة "إنشاء" الأمة الإسلامية من جديد.
فهي -حتى الآن- لم تحسن النظر في "آيات الكتاب" و"آيات الآفاق والأنفس" لبلورة "الحكمة" القادرة على "فقه الرجوع" الذي يشترطه الله سبحانه لإعادة إخراج الأمة الإسلامية، ولبلورة "مفهوم" الأمة الإسلامية، وبلورة المضامين المعاصرة لعناصر الأمة: عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء والنصرة، والولاية، ولتشخيص الحاجات، وتحديد التحديثات وتبيان الاستراتيجيات اللازمة لإعادة بناء الأمة الإسلامية من جديد1.
1 ما زال مفهوم -السياسة- في المجتمعات الإسلامية المعاصرة يستمد "محتواه" من -لغو- المجالس واللقاءات العابرة، و"يشتغل" به كل قادر على اللغو من الخاصة والعامة سواء، وما زالت "مصادرة" هي الصحف والإذاعات والإعلام المعادي الذي يعمل لقولبة التفكير، وتضليله بدل إعطاء الحقائق وتنوير الأفهام.
أما "الحكمة السياسية" -أو العلوم السياسية الإسلامة- التي تستمد "محتوياتها" من البحث الراسخ المحيط في قوانين الاجتماع وروافع القوة، وتعتمد في "مصادرها" على النفاذ إلى "مراكز البحوث" المختصة و"مراكز صنع القرار وتنفيذه وتقويمه" وبواسطة "المختصين" الذين يستنبطونه منهم فهذه علوم ما زالت غائبة منسية.
وهي لم تفرز -بعد- القادرين على -الجدال الأحسن- والمراجعة الجزئية والتحليل، الصريح للأسباب، والعومل الداخلية التي عملت عملها طويلا وأدت إلى وفاة الأمة الإسلامية. فهي ما زالت بعيدة عن القاعدة التي يوجه إليها قوله تعالى:
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .
لم تقم المؤسسات التربوية الإسلامية -بعد- بشيء من هذا، وإنما اقتصرت -وما زالت تقتصر- على الوعظ والبيان الساحر لمقاومة جيوش الاحتلال التي جذبتها روائح الأمة الميتة، واكتفت بإلقاء اللوم كله على الاستعمار، والصهيونية في الوقت الذي استمرت مناهجها، وتطبيقاتها التربوية تحتضن آداب العصبية، وتاريخ العصبيات الإقليمية والقبلية والعرقية، وفقه العصبيات
المذهبية، وقيم العصبيات وثقافاتها، وفنونها التي أفرزت عوامل "القابلية للاستعمار"، ومسببات مرض الأمة ووفاتها.
كذلك اقتصرت المؤسسات التربوية الإسلامية، والجماعات الموازية لها في الرجوع إلى الإسلام على "الأشكال" بدل "الأعمال"، واشتغلت بالمضاعفات بدل الأمراض الأساسية، ورضيت بالعناوين والشعارات بدل تفاصيل العلم، والإنجازات ولذلك ما زالت عوامل التحلل تعمل عملها في "قطع" الأقاليم والدويلات، و"مزق" الأقليات المتناثرة في قارات الأرض كلها، وما زالت شئونها وقضاياها، ومشكلاتها "قصعة" للطامعين و"أحاديث للناس" ومادة للصحابة والإعلام في العالم كله دون أن يكون لها دور مستقل راسخ في تشخيص المشكلات وتقرير المعالجات.
وإذا لم تقم المؤسسات التربوية، والفكرية بدور محيط راسخ لتشخيص عوامل الضعف الناخرة في "قطع" الأمة "ومزقها"، وإذا لم تعرف هذه المؤسسات العوامل المحركة لزمانها، وتشهد أحداثه وتعي متطلبات "الرجوع
إلى الإسلام" ومقوماته واستراتيجياته، ومؤسساته وتطبيقاته اللازمة لإخراج الأمة من جديد، فسوف تنتقل السنن، والقوانين الإلهية إلى المرحلة التالية: مرحلة يستبدل قوما غيركم ولا يكونوا أمثالكم.