الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى مرحلة صحة الأمة وعافيتها مرحلة الدوران في فلك الأفكار
دوران الأشخاص والأشياء في فلك أفكار الرسالة وتطبيقاتها
…
الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى: مرحلة صحة الأمة وعافيتها "مرحلة الدوران في فلك الأفكار"
يرمز إلى مرحلة صحة الأمة في الشكل رقم "2" بالمثلث أب جـ على صفحة 373 حيث تبدأ بميلاد الرسالة عند المحطة الزمنية أ، حتى إذا تم إخراج الأمة، وبلغت درجة النضج كانت حقيقة "المثل الأعلى" الذي يوجه الحياة في الأمة هي:
دوران "الأشخاص والأشياء" في فلك "أفكار" الرسالة وتطبيقاتها:
والتطبيق العملي للدوران المذكور هو أن يكون "الولاء" للرسالة هو محور الأنشطة التي تكرس خلالها طاقات الأشخاص، ومقدرات الأشياء في الأمة في سبيل تطبيق "أفكار" الرسالة في الداخل ونشرها في الخارج. وبذلك تصبح "أفكار" الرسالة هي غايات الحياة بينما يشكل جهاد الأشخاص، وبذل الأشياء في هذ الجهاد دور الوسائل العامة لتحقيق هذه الغاية.
وبتعبير آخر "يخلف أشخاص الأمة" الرسول في نصرة "أفكار" الرسالة فتظهر -الخلافة- وتحدد مواقع الأفراد، ووظائفهم طبقا لدرجة قدرتهم على "خلافة" الرسول في "فقه" أفكار الرسالة، وتطبيقاتها والإخلاص في حملها. وتطابق مواقف "الخلفاء" مع نموذج الرسول في الفقه، والتطبيق يؤهل خلافتهم لتوصف بأنها خلافة راشدة. وتتفاوت سعة "الخلافة" بتفاوت مسئوليات الأفراد حيث تبدأ من مسئولية الفرد في أسرته، أو متجره أو وظيفته حتى تبلغ أقصى سعتها في -الخليفة الحاكم- الذي يدير السياسة ويصرف
الأمور العامة. وهذا التجانس بين قمة الخلافة وقواعدها هو بعض ما تعنيه القاعدة الإسلامية القائلة: "كما تكونون يول عليكم"1.
وفي حالة الصحة تستمد عناصر الأمة: أي عناصر الإيمان، والهجرة والمهجر، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية محتوياتها من أفكار "الرسالة" الإلهية، وتستثمر في سبيل تطبيقات الرسالة ونشرها.
ويصور الشكل رقم "3" التكوين الذي تنتظم طبقات له عناصر الأمة في مرحلة الصحة المشار إليها:
الشكل رقم "3"
ففي الشكل "3" المذكور أعلاه تتمركز عناصر الأمة الرئيسية: أي الإيمان، والهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة على دائرة أفكار الرسالة لتجسد محصلة تطبيقاتها العملية في -الولاء- للفكرة ذاتها، وللأمة التي تحمل هذه الفكرة.
1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب قتال أهل البغي، جـ35، ص20.
ويلاحظ إن -محور الولاء- المشار إليه يمر بدوائر أخرى تقع داخل دائرة الأفكار، وهذه الدوائر هي دوائر القوم، والقبيلة والأسرة والفرد نفسه. ومعنى ذلك إن هذه الدوائر المتوالية في الصغر تتغذى من دائرة "الأفكار" الأكبر كما تتغذى السيقان، والأغصان والأوراق والزهور، والثمار من بيئة الغذاء المحيطة بالجذور التي تنقل بدورها الغذاء للسيقان، والفروع التي تليها. فالدوائر الأصغر الواقعة داخل الدائرة الكبرى تستمد محتوياتها من "أفكار الرسالة" وتصبح -محاور الولاء- المحركة لها هي أيضا جزءا متحدا مع محور الولاء لأفكار الرسالة تسترشد بتوجيهاته، وتنصهر في مجراه. ونتيجة لذلك تصبح معادلة تكوين الأمة
كالتالي:
الأمة = أفكار الرسالة "أفراد مؤمنون + هجرة ومهجر + جهاد + الإيواء +نصرة".
= أفراد مؤمنون بالرسالة + هجرة ومهجر لأفكار الرسالة + جهاد في سبيل الرسالة + إيواء حملة الرسالة + نصرة الرسالة.
والنتيجة العملية لهذا التكوين هي -الولاية أو الولاء للأمة. وهذا الولاء هو مظهر صحة الأمة وعافيتها، وتكون المظاهر والتطبيقات العملية لذلك كما يلي:
أ- رقي مستوى الخبرات الاجتماعية والكونية:
يرتقي مستوى -الخبرات الاجتماعية والكونية- تبعا لارتقاء مستوى "المثل الأعلى". ولما كانت النشاطات التربوية، والعلمية هي التطبيق العملي لرقي الخبرات المذكور، فإن -إنسان التربية- هنا "يقرأ باسم ربه"، ويجتهد لتوفير الأهداف والوسائل التي تحقق غايات هذه القراءة. ويكون من ثمار ذلك ثلاثة أمور: الأول، ارتقاء مستوى المعرفة إلى مستوى "العلم"، أي مستوى اكتشاف الحقائق الجديدة، والصياغة الجديدة للمعارف السابقة، والثاني، اتساع دائرة المعرفة لتشمل قضايا الوجود كله في مراحل النشأة
والحياة والمصير دون حدود عرقية أو مكانية، أو زمانية إلى أن يبرز قسمان متكاملان من العلوم: علوم الغايات التي تدور حول فقه "أفكار الرسالة" وتطبيقاتها. وعلوم الوسائل التي تدور حول "تسخير" طاقات "الأشخاص" و"الأشياء" لتوفير الأدوات اللازمة لتجسيد "غايات" الرسالة في حياة الأمة المسلمة في الداخل، ثم حملها ونشرها بين الآخرين في الخارج. والثالث، نشاط الحركة المعرفية وشيوع روح الاجتهاد، وتعشق البحث العلمي والتنقيب في الخبرات البشرية الماضية والحاضرة، وشيوع حب القراءة بين خاصة الأمة وعامتها، وازدهار التربية والعلوم ومؤسساتها، وتطبيقاتها في مجالات الحياة المختلفة، وجذب العلماء من أي قطر كانوا، وإلى أي عرق انتموا.
ب- رقي مستوى التفاعل مع الرسالة "رقي شبكة العلاقات الاجتماعية":
يرتقي مستوى التفاعل مع الرسالة -أي ممارسة الحياة طبقا لتوجيهاتها -ويتجسد هذا- عمليا -في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تنظم علاقات الأفراد، والجماعات في الداخل، وعلاقات الأمة مع غيرها من الأمم، حيث تتشكل هذه الشبكة كما يلي:
تصبح رابطة "الإيمان" بأفكار الرسالة هي المحدد "لجنسية" الأفراد و"ثقافة" الأمة. ويصبح "المهجر" الذي يجمع المؤمنين بأفكار الرسالة هو الوطن الواحد الذي لا يتجزأ، والدار المفتوحة لأفراد المؤمنين جميعهم.
ويصبح "الجهاد" لتجسيد أفكار الرسالة في الداخل، ونشرها في الخارج هو المجرى العام الذي تصب فيه روافد جهود جماعات المؤمنين وأفرادهم.
ويصبح "إيواء" المؤمنين بتطبيقات الرسالة حقا لكل من يحمل "جنسية" الإيمان، ويتذوق "ثقافة" المؤمنين.
وتصبح "نصرة" كل من يحمل جنسية المؤمنين، ومن توجه أفكار الرسالة إلى نصرته من غير المؤمنين مسئولية تقع على كاهل الأمة جميعها.
وتغير عناصر الأمة بالشكل المذكور أعلاه يؤدي إلى تغير مماثل في القيم والفضائل، والأخلاق التي توجه شبكة العلاقات الاجتماعية، فتصبح كما يلي:
1-
تدور الأعمال والممارسات حول تجسيد عناصر الرسالة الثلاثة في حياة الأمة، حيث يتركز تطبيق "الأمر بالمعروف" حول التوافق مع سنن الله وأقداره وقوانينه، ويتركز تطبيق "النهي عن المنكر" حول اتقاء الاصطدام بهذه السنن والأقدار والقوانين، ويتركز تطبيق "الإيمان بالله" حول وقاية الإنسان المؤمن من مرض "الطغيان"، وادعاء الألوهية في حالة القوة والغنى، ومن مرض "الهوان"، والرضى برق "الأشخاص والأشياء" في حالات الضعف والفقر والتبعية.
2-
ينتظم سلم القيم في الأمة حول محور "الفكرة توجه القوة". ويكون التجسيد العملي لذلك هو تسلم "فقهاء الرسالة وحكمائها، وخبرائها" وظيفة "أولي الأمر" الذين قرن القرآن طاعتهم بطاعة الله ورسوله. أما مؤسسات "القوة"، وما فيها من أمراء وقادة ورؤساء وحاكمين، فيشكلون -الأجهزة- التي تنفذ ما يشرعه "أولوا الأمر" العلماء والمفكرون، والمصادر الإسلامية واضحة جلية في تحديد مسئوليات "العلماء" و"الرؤساء" وتصنيفها. ففي تفسير الطبري عن ابن عباس، وغيره أن "أولي الأمر" هم: أهل الفقه في الدين والعلم والعقل1. وعند الرازي أن غالبية العلماء ترى أن "أولي الأمر" هم العلماء وآخرون يرون أنهم العلماء والأمراء2. وعند ابن تيمية: العلماء والأمراء3 أو أهل الكتاب وأهل الحديد4.
ولقد تجسدت "ولاية الأمر" لأهل الفقه والعلم والدين، والعقل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم.
1 الطبري، التفسير، جـ5، ص148، 149.
2 الرازي، التفسير الكبير، جـ10، ص144-150.
3 ابن تيمية، الفتاوى، مجمل اعتقاد السلف، جـ3، ص423.
4 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب السلوك، جـ10، 354.
3-
يتركز إنتاج "الأشياء" واستعمالها فيما يحقق غايات الرسالة، ويجسد "مثلها الأعلى" في تحقيق المنعة لأمة الرسالة، وشيوع العدل وتكافؤ الفرص وهيمنة السلام.
4-
تستمد نظم الإدارة والسياسة والاقتصاد، والعسكرية محتوياتها من "أفكار الرسالة"، وتتحدد وظائف الأفراد ومسئولياتهم طبقا لدرجة ولائهم لأفكار الرسالة، ودرجة قدراتهم العلمية والجسدية، ومهاراتهم التنفيذة دون اعتبار لمقاييس النسب والمولد والقوة، والعلاقات الشخصية المختلفة.
جـ- رقي مستوى القدرات العقلية:
في بيئة الولاء لـ"أفكار" الرسالة تشيع حريات التفكير والتعبير، والعمل والاختيار، ويتفاعل أصحاب القدرات العقلية بعضهم مع بعض، الأمر الذي يساعد على نمو هذه القدرات، وبلوغها أقصى مداها ابتداء من القوة على الحفظ، ومرورا بقدرات الفهم والتحليل والتركيب، والتأليف والتطبيق والتقويم حتى القدرة على العمل والنشر.
واستثمار جميع المقدرات الفكرية، والبشرية والثقافية، والمادية بهذا التجرد والتناسق، والتكامل يمنح الأمة الناشئة عافية وقدرات هائلة: فهو -أولًا- يرفع درجة "القدرات التسخيرية" عند الأفراد ويبعث "إرادتهم العازمة". وهو -ثانيا- يشيع في الأمة التجانس الثقافي في القيم والعادات، والأخلاق والممارسات الاجتماعية والثقافية والفنية، ونماذج التعبير والتطبيق بما يتفق مع -محور الولاء- الذي يتغذى من دائرة "أفكار" الرسالة، الأمر الذي يمنح الأمة الناشئة عافية، وقدرات يقودانها إلى نجاحات حاسمة، وانتصارات كاسحة تدفع بالمجتمعات المعاصرة لأمة الرسالة إلى فتح قلوبها لبعوث الرسالة، والإقبال على دراستها، والتفاعل معها واعتناق عقيدتها وتطبيقاتها.
ويمثل هذه الظاهرة في التاريخ الإسلامي التطبيقات التي تمت في
مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومجتمع الراشدين في المدينة المنورة، وما حولها في الجزيرة، والانتصارات المدهشة والفتوحات الدينية، والثقافية التي حققتها جيوش الرسالة الإسلامية العسكرية، وبعوثها الفكرية خاصة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم زمن الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.