الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوسيلة الفعالة لتطوير الذكاء المشار إليه والخبرات المشار إليها كذلك. وعلى التربية أن توفر للفرد التدريب على حل المشكلات في جو من الحرية، وأن تعطيه الفرصة ليتعلم بنفسه ويتفهم آراء الآخرين1.
وهكذا يبدو الاختلاف واسعا بين وجهات النظر المتعلقة بأهداف تربية الفرد، والمجتمع عند كل من دوركايم، ورجرز، وديوي، ولقد علق -رودمان ويب- على هذا الاختلاف بقوله:
"إن نظريات كل من دوركايم، وروجرز، وديوي منشقة على بعضها بعضا أميالًا شاسعة، وإنه لمن الغريب أن نجد مثل هذا الاختلاف العميق بين علماء أذكياء حول قضايا أساسية. ويرجع هذا الاختلاف إلى اختلاف تصوراتهم عن الطبيعة الإنسانية"2.
لقد وجد كل من الاتجاهات الثلاثة أنصاره الذين أدخلوه مجالات التطبيق. ولكن تركز هذا التطبيق في ميادين الاقتصاد، وإخراج الفرد المنتج -المستهلك أو المجتمع المنتج- المستهلك، وفسرها كل جماعة حسب مصالحهم وما تمليهم حاجاتهم المادية ورغباتهم في التملك والثروة. ولذلك أفرزت تناقضا خطيرًا بين هدف "تربية الفرد" وهدف "إعداد الأمة".
ولقد درس المختصون في تاريخ التربية، واجتماعات التربية، وفلسفة التربية وأهدافها هذه التفسيرات، والتطبيقات لأهداف تربية الفرد والمجتمع وتناولوها بالتحليل وأوضحوا التناقض القائم فيها. ويمكن أن نصنف هذه الدراسات التربوية المشار إليهما فيما يلي:
1 Ibid، PP. 25-31.
2 Rodman B.Webb، OP، cit، p. 35.
أ-
أصحاب الرأي الناقد "نظرية التناقض بين الأهداف
":
يرى أصحاب هذا الرأي أن -أهداف إعداد الأمة المتمركزة حول
المصالح الاقتصادية -تتناقض مع- الأهداف المتمركزة حول إعداد الفرد. ففي حين تهدف الثانية إلى جعل التلميذ سيد نفسه وحاكم قدره، فإن الأهداف التي تتمركز حول التقدم الاقتصادي للأمة تعمل على تقييد تطلعاته، وتطويعه لمتطلبات العمل في المؤسسات الصناعية. ويمكن إدارك هذا التناقض وحدته حين يتذكر المرء أن ملايين الوظائف في الأقطار الصناعية هي وظائف شاقة، وغير جذابة ومن النوع الذي لا يرغب الإنسان أن يجعلها عمله الدائم إذا كان لديه فرص اختيار عمل آخر. ومن أمثلة هذه الوظائف الشاقة: العمل في المناجم وإصلاح الطرق، وتفريغ أكياس الأسمدة. ومثلها الوظائف الروتينية المملة التي أفرزها التقسيم المفرط للتخصصات في العمل خلال التقدم التكنولوجي، كالعمل في المكاتب والأسواق، وكتابة محاضر الجلسات وأعمال السكرتارية.
وبالإجمال فإن الأهداف الاقتصادية للأمة تتناقض مع أهداف تربية الفرد في التربية الحديثة في عدة جوانب هي:
الجانب الأول، يتناقض الهدفان: الفردي والاقتصادي في نوع المعلومات وأسلوب الفهم الذي يتطلبه كل منهما. ففي أهداف إعداد الفرد يتطلب الأمر تزويد الفرد بالمعلومات الواسعة عن غايات الحياة ومقاصدها، ووسائل تحقيقها وهكذا. بينما تتطلب الأهداف الاقتصادية للأمة تقديم معلومات محددة عن نوع واحد من العمل أو الوظائف، بل إن بعض الوظائف لا تتطلب إلا قدرا محدودا من المعرفة، والتدريب الذي لا يتطلب إلا أياما أو أسابيع قليلة.
والجانب الثاني، الذي يتناقض فيه الهدفان هو النزعة التي يشجعها كل منهما. ففي حين ينمي هدف تربية الفرد التأمل، والتفكير فإن الأهداف الاقتصادية للمجتع تتطلب تنمية الإذعان والخضوع للسلطة. فالتربية للعمل في المصانع لا تتطلب عمالا يناقشون في الصواب والخطأ، والحقوق والواجبات، ثم ينتهي بهم الأمر إلى عدم الرضى عن عملهم ووظائفهم.
ولهذا الهدف فإن القائمين على نظم التربية يدربون التلاميذ على الإذعان مبكرا، فيجعلون علاقة المعلمين بالتلاميذ، والمدراء بالمعلمين علاقة تنفيذية قائمة على السلطة والتعليمات، وإصدار الأوامر وتنفيذ القرارات. ومثل ذلك في التربية العسكرية التي تجفف إرادة الفرد وتجعله ينفذ الأوامر دون تساؤل، أو تفكير.
والجانب الثالث، أو الأهم الذي يتناقض فيه الهدفان هو أن هدف تربية الفرد يتطلب من الفرد الوعي بهذا الهدف، وتقبله بقناعة حتى يتمكن أن يخطط مستقبله باستقلال ووعي. ولكن هذا الهدف غير مطلوب في مجال الإعداد لميدان العمل، بل يكفي أن يدرب الفرد لآداء الوظيفة التي تسند إليه برضى وقبول بها. بل إن اطلاعه على هذا الهدف الثاني قد يجعله في صف المقاومين له؛ لأنه يريد أن يقوم بعمل لا معنى له وينال من حريته. فجهله بالهدف -إذن- يعطي المشرفين على إعداده فرصًا أكبر لتشكيل سلوكه وشخصيته دون وعي منه.
وهنا يطرح المختصون بأهداف التربية واجتماعياتها من أصحاب هذا الاتجاه السؤال التالي:
ما الذي يمكن عمله لمواجهة هذا التناقض القائم في التربية الحديثة بين أهداف إعداد الفرد للحياة، وبين أهداف إعداده للعمل في المجتمع؟
يلخص -جون وايت John White- الإجابات المطروحة عن هذا السؤال بالقول إن هناك عدة أساليب لذلك:
الأسلوب الأول: اتباع أسلوب النعامة Ostrich أي دفن الرؤوس في الرمال وتجاهل هذا التناقض. والذي يبرز هذا الأسلوب هو اعتبار وظيفة التربية إعداد الفرد للحياة، بينما يترك إعداد الفرد للعمل في المجتمع لتقرره المؤسسات الاقتصادية، والعسكرية خارج ميدان التربية وليس للمربي شأن بها. ولا شك هذا التصور شبيه بتصور العلاقة بين الدين والسياسة في
المجتمعات الغربية والتسليم بالتناقض القائم بين الاثنين، ووجوب انفصال بعضهما عن بعض.
والأسلوب الثاني لمواجهة التناقض المذكور هو اللجوء إلى قاعدة الحل الوسط Compromise. ويضرب -جون وايت- لذلك مثلا بالدراسات المسحية التي قام بها -آشتوت Ashton- وزملاؤه بعنوان "أهداف التربية الابتدائية: دراسة ميدانية لآراء المعلمين". ولقد خلصت هذه الدراسة إلى أن الحل الوسط يقوم على إعطاء قدر من الاهتمام للمهارات الأساسية المتعلقة بالأهداف الاقتصادية للأمة، بينما يكرس باقي الوقت لتنمية شخصية التلميذ بالمتعلقة بأهداف إعداده للحياة من خلال عدة أنشطة يختار منها ما يشاء. ومن أمثلة ذلك أن يقدم للتلميذ قراءات في الصباح وبعد الظهر بينما يقض بقية الساعات بالتدريب على حياة العمل.
ويعلق -جون وايت- على هذا الحل الوسط، فيقول: إنه يفتقر إلى الربط المنطقي بين النوعين من الأهداف، وما يتعلق بهما من النشاطات المنهجية ولذلك يبقى التناقض قائما بينهما؛ لأن طلاب المرحلة الابتدائية يعيشون مرحلة بعيدة عن الأهداف الاجتماعية الاقتصادية، وتزداد حدة هذا التناقض في المرحلة الثانوية بسبب صعوبة التوفيق بين تعدد المعارف التي تتطلبها تنمية شخصية التلميذ، وبين التخصص الذي يتطلبه العمل، ويزداد الأمر تناقضا وتعقيدا بالنسبة لطلبة المرحلة الجامعية. فرغبتهم في بناء حياة يرغبونها تصطدم بحاجاتهم للعمل الذي يتطلب منهم إذعانا، وتخصصا دقيقا في حياة العبودية الصناعية. لذلك لا عجب أن نراهم حين يتبينون هذا التناقض، فإنهم يتحولون إلى مثيري شغب.
ولا ينقطع أنصار أهداف تربية الفرد من أجل العمل عن التفكير، والبحث عن الوسائل والأساليب التي تروض الناشئة المشاغبين، وتوجد الانسجام بين طموحاتهم الشخصية ومتطلبات الصناعية والعمل. وهناك مدرسة تربوية تقول بتدريبهم منذ المرحلة الابتدائية على متطلبات البيئة