الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر على أن ينصره فلم ينصره"1.
أما عن المناسبات التي اقترنت بالتوجيهات القرآنية، والنبوية التي عالجت عنصر النصرة وأدرجته في العناصر المكونة للأمة الإسلامية فهي -أولًا- ذلك الالتزام الكامل الذي قام به الأنصار قولا، وعملا لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرة المهاجرين معه، ومن أجل ذلك أطلق عليهم اسم -الأنصار، وهي -ثانيًا- تلك التضحية الكاملة التي قدمها المهاجرين حين اقتلعوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي، وثقافته اقتلاعا كاملا ثم أوقفوا هذه الأنفس لنصرة دين الله سبحانه وتعالى، وهي -ثالثا- إقامة الفريقين مجتمعين لمعاني الإسلام في واقع حياتهم في المجتمع النبوي والراشدي، ثم الخروج إلى العالم كله لإقامة هذه المعاني في حياة الآخرين.
1 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ3، ص505 نقلا عن الطبراني في المعجم الكبير.
مظاهر النصرة:
يتحقق عنصر -النصرة- في حياة الأمة المسلمة من خلال المظاهر التالية:
1-
نصرة "الأفكار" الرسالة الإسلامية في مواجهة طغيان "الأشخاص"، وزخرف "الأشياء":
وتفصيل ذلك كالتالي:
يتكون كل مجتمع من ثلاثة عناصر رئيسية هي: الأفكار والأشخاص والأشياء. وتكون الأمة في أعلى درجات الصحة حين تكون "نصرة" الأفكار هي المحور الذي يدور في فلكه "الأشخاص والأشياء". ففي هذه الحالة
يخلف "أشخاص" المؤمنين الرسول في نصرة أفكار الرسالة، فتظهر -الخلافة- وتتحدد مواقع الأفراد، ووظائفهم طبقا لمقياسين: الأول، مدى القدرة على حمل الرسالة أي فقهها وتطبيقها. والثاني، مدى الإخلاص في هذا الحمل. والقرآن يطلق على كل من القدرة والإخلاص اصطلاحي: القوة، والأمانة. وذلك عند قوله تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . وفي آية أخرى يسميهما: التمكين، والأمانة. وذلك عند قوله تعالى:{إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} . والقوة هنا تعني -الجدارة- وهي شاملة ذات مظاهر عديدة. فهي في ميدان الحكم تدور حول العلم بالعدل كما دل عليه القرآن والسنة، وحول القدرة على تنفيذ الأحكام. والقوة في ميدان العسكرية تدور حول شجاعة القلب والخبرة العسكرية. وهكذا في بقية ميادين الحياة كالتربية والإدارة، والاقتصاد والصناعة وغيرها. أما -الأمانة- فتدور حول الولاء الذي من أجله تبذل القدرة. أهو لـ"أفكار" الرسالة أم لـ"الأشخاص" أم لـ"الأشياء"1!!؟
ويتسرب الخلل إلى عنصر -النصرة- حين تطغى نصرة "الأشخاص" على نصرة "الأفكار". والتطبيقات العملية لهذا الطغيان تتمثل في -امتلاك- أصحاب العصبيات الأسرية أو القبلية أن الطائفية، أو العرقية أو الإقليمية لـ"الأفكار والأشياء"، ثم توظيفهما معا لدعم مكانة "أشخاص" العصبيات ونفوذهم. فيظهر -الملك- بدل -الخلافة- وتتحدد مراكز الأفراد ووظائفهم طبقات لمدى استعمالهم لصفتي: القوة، والأمانة في خدمة هذه العصبيات. وهذا ما حذر أبو بكر الصديق منه يزيد بن أبي سفيان كما روى ذلك يزيد نفسه فقال:
1 مشكلة التربية الحديثة إنها تفصل بين علوم -القوة أو التمكين- أو المهارات كالعلوم الطبيعية، والإدارية والسياسية والإدارية، وبين علوم -الأمانة- أو الاتجاهات كعلوم الدين والأخلاق. ثم تكون ثمرة هذا الفصل -في أحسن الحالات- إخراج: فئة أولي قوة وتمكين بدون أمانة. وأولي أمانة بدون قوة وتمكين.
"قال أبو بكر لما بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسى أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ولي من أمور المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة له بغير حق، فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا، ولا عدلا حتى يدخله جهنم. ومن أعطى أحدا من مال محاباة فعليه لعنة الله". أو قال:"برئت منه ذمة الله. إن الله دعا الناس أن يؤمنوا فيكونوا حمى الله. فمن انتهك في حمى الله شيئا بغير حق فعليه لعنة الله. أو قال: برئت منه ذمة الله عز وجل"1.
ومن هذا الهدي النبوي -الراشدي استوحى ابن تيمية آراءه في هذا الشأن فقال: "فإن عدل "ولي الأمر" عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة، أو صداقة، أو مرافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس: كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته"2.
ولما كانت "الأشياء" وما تجسده من مال وزخارف الحياة المادية هي الوسيلة الرئيسية التي يستعملها "أشخاص" العصبيات للحصول على النصرة، فإنه سرعان ما تصبح نصرة "الأشياء" هي المحور الذي تدور في فلكه "الأفكار والأشخاص"، وتصبح الهيمنة في الأمة لأرباب المال، والتجارات وصانعي الشهوات، وتسود ثقافة الاستهلاك والترف، وتتمزق شبكة العلاقات
1 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص665 نقلًا عن مسند أحمد، وعن ابن شعبة البغدادي.
2 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب الجهاد، جـ28، ص248، 249.
الاجتماعية وتصبح الأفكار، والقيم بعض سلع التجارة ومواد الاستهلاك والدعايات السياسية والاقتصادية، ويتوقف التفكير الموضوعي ويحل محله الهوى، وتتحدد ميادين التربية بحدود هذه الثقافة الاستهلاكية، وينشغل الناس بأشيائهم وحاجاتهم اليومية ويعودون كالجاهلية همة أحدهم لا تتعدى بطنه وفرجه، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرًا. وتكون المحصلة النهائية لهذا التحول هو السعي -لامتلاك- "الأشياء"، فتظهر ظاهرة -الملك القسري- أي الذي يتوصل إليه بالقسر والعنف، والانقلابات الدموية والفتن ويلخص الحديث النبوية هذا التطور السلبي من -نصرة- "أفكار" الرسالة حتى "نصرة الأشياء" عند قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكًا عضوضًا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الحرير والفروج، ويرزقون على ذلك وينصرون"1.
والمجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة تتفوق على تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كانت حال الأمة المسلمة في صدر الإسلام، وتفوقها على مجتمعات الرومان وفارس وغيرها. ولكن المجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، أو التي يختلط فيها الصحيح والخاطئ، فهذه تتفوق على المجتمعات التي تدور في فلك الأشخاص والأشياء، وتهزمها كما هو الحال -الآن- في تفوق المجتمعات الغربية على مجتمعات العالم الثالث -ومنه العالم الغربي والإسلامي الحديث.
والشكل الذي تنتظم طبقا له عناصر الأفكار والأشخاص، والأشياء يحدد نوع التربية وتطبيقاته في الثقافة والعلوم، ونظم الحياة المختلفة. فعندما تكون "الأفكار" هي المحور الذي يدور في فلكه "الأشخاص والأشياء"، فإن
1 ابن كثير، البداية والنهاية، جـ8، ص20 نقلًا عن الطبراني بإسناد جيد، ومثله عند ابن تيمية، الفتاوى، جـ35، ص19 نقلًا عن مسلم، ومسند أحمد، جـ4، ص273.
التربية تتخذ -مثلها الأعلى- وخبراتها التي تضمنتها مناهجها، وتطبيقاتها من ميدان الأفكار ودرجة التزام الأشخاص بها، وتجسيد الأشياء لها في الماضي والحاضر والمستقبل، ويكون من ثمار التربية بناء حضارة تدور حول تطبيقات الأفكار، وتجسيدها في مسيرة الاجتماع البشري.
أما حين يحتل "الأشخاص" مركز المحور الذي تدور في فلكه "الأفكار والأشياء"، فإن التربية تتخذ -مثلها الأعلى- وخبراتها التي تضمنها مناهجها وتطبيقاتها من ميدان "الأشخاص"، ومدى فاعلية قوتهم في الماضي والحاضر والمستقبل، واستعمال الأشياء لتنفيذ إراداتهم.
وأما حين تكون "الأشياء" هي المحور الذي تدور في فلكه "الأفكار والأشخاص"، فإن التربية تتخذ -مثلها الأعلى- وتنتقي -خبراتها المنهجية، وتطبيقاتها العملية من ميدان الأشياء وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، ومدى تأثيرها في عالم الأفكار، والأشخاص على المستوى المحلي والعالمي، ويكون من ثمار التربية بناء حضارة مادية تدور حول تطبيقات الأشياء، وتجسيدها في مسيرة الاجتماع البشري. وهذه هي حال التربية الحديثة التي يدور محور "النصرة" فيها حول "الأشياء" كما إن العلوم والثقافات والآداب، والفنون التي أفرزتها -وتفرزها- هي أيضا تتخذ -مثلها الأعلى- وتنتقي -خبراتها- من الدوران في فلك "الأشياء" في حين يدور كل من "الأفكار"، و"الأشخاص" في فلك "الأشياء"، ويستثمرون من أجل توفير الأشياء وتحسينها. والتجسيد العملي لهذا كله هو حضارة "الإنتاج والاستهلاك" التي يقودها الغرب المعاصر وتؤثر في العالم كله.
2-
نصرة العدل في مجابهة الطغيان، والتسلط، والظلم:
ويمثل هذا المظهر محور عنصر النصرة، بل هو جوهره وغايته؛ لأن العدل "غاية" من الغايات الرئيسة التي من أجلها كان إرسال الرسل وتتابع الرسالات، وكان خلق مادة الحديد لصنع السلاح و"نصرة" العدل:
فالعدل في حقيقته تجسيد لـ"أفكار" الرسالة ومثلها الأعلى، وبقاؤها المحور الذي يدور في فلكه "الأشخاص والأشياء". أما الظلم فحقيقته أن يهيمن "الأشخاص" الأقوياء على محور الاجتماع البشري، ويديرون "الأفكار والأشياء" في فلكهم لبقاء سلطانهم ودوام تملكهم. فالعدل -إذن- هو روح شبكة العلاقات الاجتماعية الذي يمنحها الحياة والبقاء، وغياب العدل يلغي
مبرر وجود الأمم، ولذلك قال أبو الحسن الخزرجي: الملك مع العدل والكفر يدوم، ولكن الملك مع الإسلام والظلم لا يدوم. وجيوش الفتح الإسلامي حين خرجت إلى العالم، إنما خرجت لرفع الظلم عن الشعوب، أما اعتناق الإسلام فقد تركته لاختيار الشعوب المحررة للتبين وحدها الرشد من الغي دون إكراه في الدين، ولتختار واحدا من اثنين: إما الإسلام وإما الجزية التي تسوي غير المسلم بالمسلم الذي يدفع الزكاة، ويخدم في الجيش لحماية الجميع من الظلم. وأساس هذه الاستراتيجية التي وجهت الفتوحات الإسلامية هي قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . ولقد أورد الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر "الوسط" بالعدل، وأن معنى "أمة وسطا" أمة عدول، وأن ابن عباس، وتلامذته أخذوا بهذا التفسير وعلموه1.
ويتكرر الطلب إلى -أمة المؤمنين- بأن يكونوا "قوامين بالعدل" أي كثيري القيام بالعدل في نظم حياتهم، وإداراتهم وممارساتهم وقيمهم، وعاداتهم إلى الدرجة التي يصبح -العدل- هو السمة المميزة لمجتمعهم وحضارتهم، وأن لا يحول دون تجسيد هذه الصفة في واقعهم صلة رحم، أو حمية قرابة أو شنآن كراهية:
1 الطبري، التفسير، جـ2 "تفسير آية 143 من سورة البقرة"، ص7.
- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل: 90] .
- {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] .
ولا بد لصفة العدل هذه أن تنتشر لينعم بها جميع الناس دون فرق في دين أو جنس: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
وفي الحديث النبوي يحتل الإمام العادل المركز الأول بين سبعة أصناف من البشر، يقفون تحت المظلة الإلهية يوم القيامة بينما يغرق الناس في عرقهم، ويتضورون في حر شمس الآخر التي تعلوهم باعا أو ذراعا:
"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"1.
وأما عن الظلم فإن آيات الله في القرآن صريحة واضحة في التحريض على القتال لاستنقاذ المظلومين من الرجال والنساء، والأولاد الذين لا يجدون حيلة للتحرر من الاستغلال والاستبعاد:
ــ
1 صحيح البخاري، باب الزكاة، ص16، باب المحاربين، ص4.
وآيات الله في القرآن تسوي بين مصير المظلومين الذين يسكتون على الظلم، وبين الظالمين الذي ينزلون الظلم بالناس:
وفي المقابل يشيد القرآن بالذين يتناصرون لمقاومة الظلم، ويستنهض هممهم لمنازلته:
والرسول صلى الله عليه وسلم يجعل خنوع الأمة، وعدم تناصرها لمقاومة الظلم من العلامات الدالة على موتها، وانتهاء مبررات وجودها:
"إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم فقد تودع منها"1.
ويقول أيضا:
"إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تكون العامة تستطيع تغير
1 مسند أحمد "تصنيف الساعاتي"، جـ19، ص175.
على الخاصة. فإم لم تغير العامة على الخاصة عذب الله العامة والخاصة" 1.
ويؤكد صلى الله عليه وسلم أن موالاة الظلمة تخرج من الإسلام في الدنيا، وتحرم من شفاعته في الآخرة:
"سيكون من بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض. ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض"2.
وكان من ثمار هذه التربية النبوية أن قامت روابط النصرة في مجتمع الراشدين على تعشق العدل والتضحية في سبيله، وصارت طاعة الحاكم مرهونة بدرجة تقيده بالعدل واحترام الحريات. كان عمر بن الخطاب في مجلس وحوله المهاجرون والأنصار فقال:"أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا. فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا. فقال بشر بن سعد: لو رفعت ذلك قومناك تقويم القداح -أي السهم. فقال عمر: أنتم إذا! أنتم إذا"3. "أي أنتم إذن الممثلون للأمة المسلمة الحقة".
وجميع مواقف عمر كانت من جنس هذا الموقف؛ لأن عمر كان حاكما مربيا يرسي تقاليد ثقافة جديدة في السياسة والاجتماع، والاقتصاد ويريد هذه الثقافة أن تتحدر في تاريخ الأمة، وأن يصبح العدل والحرية محور هذه الثقافة والسمة المميزة لنظمها، وقيمها وأعرافها.
3-
نصرة الحرية في مجابهة الاستبعاد:
وهذا المظهر من مظاهر النصرة يمثل عقيدة التوحيد، ويجسدها في واقع اجتماعي يصهر الفروق بين الأفراد والجماعات. وذلك كان غياب
1 مسند أحمد، جـ4، ص193.
2 صحيح ابن حبان، جـ1، ص440، رقم 282، 283.
3 كنز العمال، جـ5، ص687، 688.
الحرية في حقيقته هو غياب التوحيد؛ لأن حقيقة التوحيد أن لا يخشى الإنسان الموجد إلا الله. وغياب الحرية معناه خشية غير الله. ولقد فسر الطبري قوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} أن معنى لا يشركون بي شيئا هو أنهم لا يخافون غيري من جبابرة السلاطين والأشخاص"1.
وهذا يضع على التربية الإسلامية مسئولية كبيرة في تنمية تعشق -الحرية- ونصرتها والغيرة عليها والدفاع عنها إذا انتهكت كالغيرة على الأعراض والحرمات. ويتفرع عن ذلك تنمية الوعي بقيمة التعبير عن الرأي؛ لأن الأمة التي يوجهها عنصر -النصرة- أمة تدرك قيمة النقد الذاتي -أو التوبة حسب التعبير الإسلامي- وأثره في دوام صحتها وعافيتها، فلا تتراكم آثار الممارسات الخاطئة حتى تنفجر في فتن مدمرة تأتي على كيان الأمة دفعة واحدة. ولا بد للتربية الإسلامية أن تدرب متعلميها على ممارسة كلا من حرية الرأي، والنقد الذاتي بحيث تنطبق عليها المواصفات التي توجه إليها أمثاله قوله تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} و {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} 2 وبذلك لا يتحول النقد أو التعبير إلى سباب، ومهاترات تزرع الأحقاد وتبذر الفتن، وإنما تقوم على تشخيص الظواهر الاجتماعية وتحليل مقدماتها، ونتائجها بغية التعرف على الممارسات والمسارات الخاطئة للتوبة منها، واكتشاف الصحيحة للرجوع إليها.
ونحن نلمح في طريقة نزول الوحي ما يشجع على ظاهر -التعبير عن الرأي الرفيع- والتساؤل البناء، فحينما تساءلت نسيبة بنت كعب المشهورة بأم عمارة، وصاحبة المواقف البطولية في أحد وحروب الردة، فقالت: يا نبي الله! ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون؟ فأنزل الله تعالى:
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ
1 الطبري، التفسير، جـ18، ص158، 159، سورة النور: آية 55.
2 سورة البقرة: الآية 83. سورة النحل: الآية 125. سورة النساء: الآية 63.
وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] .
ومع اعتقادنا الراسخ بكمال العلم الإلهي، إلا أننا نرى في مناسبة الآية واستجابة الوحي لطلب -نسيبة- وأخواتها بعض مظاهر الحكمة الإلهية التي شكلت الأحداث لتعلم جيل الصحابة -والأمة المسلمة درسا في التعبير عن الرأي، وأهميته ولو كان الذي يعبر عن رأيه امرأة، ولو كان الموضوع الذي يدور حوله التساؤل هو أسلوب الوحي!! فإذا كان الأمر كذلك، فليس هناك من بني البشر من هو التساؤل والنقد الإيجابيين!!
وعلى هذا المنهج سارت الحياة في المجتمع النبوي والعهد الراشدي. فحين تولى عمر بن الخطاب الخلافة -مثلًا- كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل من الشام رسالة مشتركة يذكرانه بالمسئولية التي عهدت إليه ويحذرانه مغبة القصور عنها. ومما جاء فيها:"أصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكلٍّ حصته من العدل، فأنت كيف أنت عند ذلك يا عمر! فإنا نحذرك يوما تعيى فيه الوجوه، وتجف فيه القلوب، وتقطع فيه الحجج، يملك قهرهم بجبروته، والخلق داخرون له، يرجون رحمته ويخافون عقابه".
وتلقى عمر الكتاب فلم تأخذه عزة السلطان، وإنما شكر لهما النصيحة والتواصي، وكتب يطمئنهما إلى ما أوصيا به ثم أضاف:
"كتبتما به نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتابكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما. فإنكما تكتبان به وقد صدقتما فلا تدعا الكتاب إلي، فإني لا غنى بي عنكما والسلام عليكما"1.
1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ20، ص32، 33 رقم 45.
علي المتقي الهندي، كنز العمال، جـ16، ص160، 161 نقلا عن ابن أبي شيبة.
وكما أسلفنا فإن أمثال عمر لم يتعدوا أصابع اليد في تاريخ المسلمين. لذلك فإن من ضمانات مبادئ الحرية، والعدل التي أراد عمر إرساءها واستمرار "نصرتهما" أن لا تترك هذه المبادئ إلى ورع الحاكم، وأخلاقه بل تحرس بالتشريع وبالمؤسسات، وأن لا يكون هناك حكم دائم مدى الحياة، ولا سلطة فردية مطلقة؛ لأن دوام الحكم وفردية التصرف معناه العصمة من الخطأ، والعصمة معناها عدم النقد بل تحريمه وتجريم فاعله، وعدم النقد معناه تشجيع الحاكم على الطغيان، وبقاء الطغيان والظلم مدى الحياة معناه أحد مصيرين: إما أن تمضي الأمة في أطوار المرض حتى الوفاة، وإما أن لا تجد الأمة سبيلًا للتخلص من الطاغية إلا بالانقلابات، والثورات الدموية والفتن المدمرة!! التي تنتهي إلى مرض الأمة وموتها.
ولتجنب هذه السلسلة من السلبيات، والمضاعفات المهلكة لا بد للتربية الإسلامية أن ترفع انتخاب الحاكم، وجماعية القيادة وتقنين القيم السياسية، وتحديد فترة الحكم إلى مرتبة فروض الدين؛ لأن هذا ما توجه إليه روح الشورى التي يوجه إليها القرآن الكريم وتطبيقات السنة، وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب حين قال:"لا خلافة إلا عن مشورة"1.
والواقع إن النظام الرئاسي وما يرافقه من المؤسسات، والتشريعات الذي تطبقه أمم غير مسلمة -كالولايات المتحدة الأمريكية- هو أقرب إلى روح الإسلام من أنظمة الحكم القائمة في العالم الإسلامي؛ لأن هذه الأنظمة في حقيقتها ردة إلى تقاليد العصبية القبلية التي تمنح شيخ القبيلة هيمنة مطلقة في السلطان، والتملك وتوريث ذلك للأبناء والأحفاد من بعده.
وثمة مظهر آخر من مظاهر نصرة الحرية في مواجهة الاستبعاد هو أن
1 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص648، رقم 14136.
تعمل التربية على التحرر من الآبائية، وعلى اتخاذ موقف علمي من التراث المتحدر من الماضي. واتخاذ هذا الموقف يتطلب من العقل المسلم أن يتحرر من المقولة المتلبسة لباس الورع والولاء الإسلامي: مقولة عدم الخوض فيما اختلف عليه السلف، وترك خلافاتهم إلى الله تعالى ثم الزعم أن هذه المقولة هي منهج أهل السنة والجماعة إزاء القضايا، التي اختلف حولها السلف في ميادين السياسة والفكر خاصة فيما يتعلق بالتحول المصيري، الذي أحدثته سياسات طلقاء مكة، والأمويين في مستقبل الأمة الإسلامية. فهذه المقولة تخلط -أو تشيع المغالطة- بين أمرين اثنين هما:"اللعن" و"النقد الإيجابي". فالذي نهى عنه أهل السنة والجماعة هو "اللعن"؛ لأنه لا يليق بالعالم، ولا هو من أخلاق المسلم، بل إن الله نهى عنه سب الكافر نفسه. ولكن "النقد الإيجابي" الذي يتناول الظواهر السلبية بالتحليل، والتقويم بغية الوضوح ودفع مسيرة الهدى والبناء هو أمر مطلوب؛ لأنه "توبة" فكرية، وتوبة الفكر مقدمة لتوبة الأعمال؛ لأن الفكر أصل العمل وأولى حلقاته.
والواقع أن مقولة -عدم الخوض فيما اختلف عليه السلف- ليست مقولة أهل السنة والجماعة، وإنما هي مقولة -فقهاء الخلفاء والسلاطين- الذين برزوا على مسرح الحياة الإسلامية بعد العصر الراشدي، وأوقفوا أنفسهم طوال التاريخ الإسلامي لإصدار الفتاوى، التي تبرز إرادات أصحاب الملك، والقوة وتبرر السكوت على الأوضاع القائمة الزاخرة بالمخالفات الخارجة على الشريعة، زاعمين إن هذا هو منهج أهل السنة، والجماعة الذين يتجنبون الفتنة، ويحاربون الفرقة. لذلك كان إطلاق اسم -أهل السنة والجماعة- على أولئك الفقهاء خطأ، ومغالطة تاريخية تحتاج إلى تصويب. فأهل السنة والجماعة الأصلاء انتهوا -كتيار فكري اجتماعي- بانتهاء أمثال سعيد بن جبير، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، ممن جاهدوا لجعل "محور السنة" في ميدان "الأعمال"، والتطبيقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وجعل "الشريعة فوق القوة" وتصدوا
لعدوان قيم العصبية القبلية على القيم الإسلامية في ميادين السياسة، والاقتصاد والإرادة، وأعلنوا أن محور سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدور حول "زهد" الحاكم بالجاه لـ"نصرة" العدل، وزهده بالمال لـ"إيواء" جماهير الأمة، وزهده بالحياة لقيادة الجيوش و"نصرة" الرسالة.
ولكن ممثلي ثقافة العصبيات الأسرية، والقبلية بقيادة طلقاء مكة استطاعوا التغلب على هذا التيار السني، والبطش بقياداته ابتداء من جيل الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير حتى جيل سعيد بن جبير وسفيان الثوري، واستطاعوا نقل محور السنة إلى ميدان "الأشكال"، ومستحبات السنن في الأخلاق الفردية، والشهوات والشعائر مما أدى إلى كبت الحريات، وانحسار الفقه الإسلامي إلى ميادين العبادات، وفقه الطهارة والحيض، والنفاس والمعاملات الفردية، وتجنب البحث في فقه إخراج الأمة المسلمة، وشبكة العلاقات السياسية والاقتصادية
والإدارية. ولقد نما هذا اللون من الفقه، وصار له امتدادات ومذاهب انحدرت في التاريخ الإسلامي تحت اسم -أهل السنة والجماعة- ومارس مختلف أشكال الآبائية، والحجر على التفكير.
ولكن أهل السنة والجماعة الأصلاء لا يمنعون الحرية الفكرية، والنقد الذاتي بل يحضون عليهما ويدعون لهما. فقد جاء عن عبد الرحمن بن مهدي أحد شيوخ الشافعي وغيره قولهم:
"أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم"1.
وروي عن أحمد بن حنبل قوله:
"لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا"2.
1 ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، "بيروت: دار المعرفة"، ص7.
2 ابن القيم، إعلام الموقعين، جـ2 "بيروت: دار الجيل"، ص201.
ولقد انتبه إلى الفرق بين "اللعن" و"النقد" شيخ الإسلام ابن تيمية، وفصل في ذلك في بحوثه المودعة في سلسلة فتاويه خاصة المجلد 35 الذي يحمل عنوان: كتاب قتال أهل البغي. كذلك قام بتقييم سياسة الخلفاء الراشدين، وخلص إلى وجوب الاقتداء بسنة أبي بكر وعمر. أما ما فعله عثمان وعلي، ونتج عنه افتراق الأمة فلا يؤمر بالاقتداء به. وعلل ذلك بالقول: إن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة، وسلما من التأويل في الدماء والأموال. أما عثمان فقد غلب الرغبة وتأول في الأموال. وعلي غلب الرهبة وتأول في الدماء. كما أن أبا بكر وعمر كمل زهدهما في المال والرياسة. أما عثمان فقد كمل زهده في الرياسة فقط، وعلي كمل زهده في المال1.
كذلك قام ابن تيمية بتقييم مواقف -طلقاء مكة- الذين أسلموا بعد الفتح فلم يجز لعنهم، ولكنه انتقد بإسهاب وصراحة كلا من معاوية، وعمرو بن العاص واعتبرهما الفئة الباغية2. وأضاف أن معاوية لم يكن كفؤا لعلي بن أبي طالب3 وأن معاوية كان أول الملوك الذين بدلوا الخلافة إلى الملك الذي لا يجوز في أصل الشريعة، ويتضمن ترك بعض الدين الواجب، ثم علق على ذلك قائلًا:
"وإن مصير أمر المسلمين إلى -الملوك- ونوابهم من الولاة والقضاة، والأمراء ليس لنقص فيهم فقط، بل لنقص في الراعي والرعية جميعًا، فإنه كما تكونوا يول عليكم. وقد قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} 4.
1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب قتال أهل البغي، جـ35، ص22، 23.
2 ابن تيمية، المصدر نفسه، ص58، 76، 77.
3 ابن تيمية، المصدر السابق، ص73.
4 ابن تيمية، المصدر السابق، ص19-22.
4-
"نصرة" مؤسسات الإدارة والأمن، والجيش لـ"الإنسان المسلم" في مواجهة "أشخاص" الحاكمين المتسلطين، و"أشياء" المترفين:
وحتى تتجسد أفكار "النصرة" في واقع اجتماعي يعيشه الناس لا بد للتربية الإسلامية أن تركز عملها لتخريج عناصر تعمل في مؤسسات الإدارة، والأمن والجيش للحفاظ على إنسانية الإنسان وصيانة حرماته، وتمكين "الإنسان المسلم" من تحقيق ذاته في الداخل، وحمل رسالة الإسلام إلى الخارج. ويؤكد القرآن الكريم بصراحة، وقوة على عدم النيل من إنسانية الإنسان أو التجسس عليه أو اضطهاده، أو نفيه أو غيبته أو امتهان كرامته، وتهديد من يرتكب مثل هذه الجرائم بأشد أنواع العذاب في الدنيا والآخرة. والرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد ذلك بنفس الحجم والكم تقريبًا. فهو يجعل التجسس على الناس سببا في إفسادهم:
"إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم"1.
وعن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
"إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم"2.
ويتكرر التحذير من الاعتداء على الإنسان بالضرب والإهانة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
- "إن الله تعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا"3.
ويقول كذلك: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس
…
" 4.
1 سنن أبي داود، جـ4، باب الأدب، ص272.
2 الطبراني، المعجم الكبير، جـ19، ص379 رقم 890.
3 صحيح مسلم، كتاب البر. مسند أحمد، جـ3، ص403.
4 صحيح مسلم "شرح النووي"، جـ17، كتاب الجنة، ص190.
ويقول أيضا: "أول من يدخل من هذه الأمة النار السواطون"1.
والسواطون هم رجال الشرطة، والمخابرات الذين يجلدون الناس بالأسواط. وعن أبي هريرة أنه قال: قد رأينا من كل شيء قاله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. غير أنه قال:
- "يقال لرجال يوم القيامة: اطرحوا سياطكم وادخلوا جهنم"2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة أشدهم عذابا للناس في الدنيا"3.
وقال أيضا: "يوشك إن طالت بك مدة أن ترى أقواما في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله"4.
وقال أيضا: "يكون في آخر الزمان شرط يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله، فإياك أن تكون منهم"5.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "يكون أمراء يعذبونكم ويعذبهم الله"6.
وحين يقترف الإنسان مخالفات توجب القصاص والعقوبة، فلا مجال للحقد الشخصي والقسوة اللذين ينالان من كرامة الإنسان وإنسانيته. والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
1 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص798 نقلا عن ابن أبي شيبة.
2 المستدرك للحاكم، جـ4، ص562، رقم 8577.
3 مسند أحمد، جـ3، ص403، جـ4، ص90.
المستدرك للحاكم، جـ4، ص482، رقم 8344.
4 صحيح مسلم "شرح النووي"، جـ17، كتاب الجنة، ص190.
5 مسند أحمد "تصنيف الساعاتي"، جـ19، ص324. المستدرك للحاكم، جـ4، ص483، رقم 8347.
6 الحاكم، المستدرك، جـ4، ص482، رقم 8342.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله"1.
والسجن الإسلامي يختلف عن السجن غير الإسلامي بحيث يتطابق مع احترام الإسلام لإنسانية الإنسان، ويحافظ على كرامته. وفي ذلك يقول ابن تيمية:
"الحبس الشرعي ليس السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه، ولذلك سماه الرسول صلى الله عليه وسلم أسيرا"2.
ولقد برزت آثار التوجيهات التي عمقتها التربية الإسلامية في جيل الصحابة والراشدين، فاتخذوها دستورا في مؤسسات الإدارة والشرطة، والجيش الموكلة بالحفاظ على "النصرة" في الداخل والخارج. فقد كان عمر بن الخطاب إذا بعث عماله شرط عليهم أن يعيشوا معيشة الناس، وأن يركبوا ما يركبه عامة الناس، وأن يلبسوا ما يلبسه عامة الناس ثم يشيعهم. فإذا أراد أن يرجع قال:
"إني لم أسلطكم على دماء المسلمين، ولا على أعراضهم ولا على أموالهم. ولكني بعثتكم لتقيموا الصلاة وتقسموا فيهم فيئهم، وتحكموا بالعدل. فإذا أشكل عليكم شيء فارفعوه إلي. ألا فلا تضربوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تعتلوا عليها فتحرموها، جردوا القرآن"3.
1 البخاري ومسلم، وأحمد، والترمذي، وأبو داود.
2 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب قتال أهل البغي، جـ35، ص398.
3 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص688 نقلا عن البيهقي في شعب الإيمان.
تجمروها: تجمير الجيش جمعه في الثغور وحبسهم عن العود إلى أهلهم.
جردوا القرآن: لا تقرنوا به شيئا ليكون وحده منفردا.
ولقد خطب الخليفة عمر رضي الله عنه يوما في الناس فقال:
"ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنتكم. فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي. فوالذي نفسي بيده إذا لأقصنه منه"!
فوثب عمرو بن العاص فقال:
"يا أمير المؤمنين أو رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته أئنك لمقصنه منه"؟
فقال الخليفة: "أي والذي نفس عمر بيده إذا لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوا حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوا الغياض فتضيعوهم"1.
واعتماد هذه المبادئ الإسلامية في تشكيل عمل مؤسسات النصرة التي مر ذكرها يتطلب أمرين اثنين:
الأول، أن يتم تأسيس التربية العسكرية على الأصول الإسلامية التي تعد العسكري المسلم ليدور ولاؤه في فلك "أفكار" الرسالة، وتحريره من صنمية الولاء الأعمى لـ"أشخاص" الحاكمين و"أشياء" المترفين، وهو ما تفعله المؤسسات البوليسية، والعسكرية التي توجهها التربية العسكرية الحديثة -خاصة في أقطار العالم الثالث- ولا يكون من ثمارها إلا الرهق، والإرهاب للأمم والمجتمعات في الداخل، والعجز المذل أمام العدوان النازل بها من خارج.
والثاني، أن تختلف الإجراءات التي تمارسها المؤسسات العسكرية، والعقوبات التي تطبقها لإمضاء قوانين النصرة، وتشريعاتها عن نظائرها من
1 مسند أحمد، "تصنيف الساعاتي"، جـ3، ص87.
المؤسسات غير المسلمة. إذ لا يجوز أبدا تقليد المؤسسات غير الإسلامية واستيراد أساليبها أو التدرب في معاهدها على نظم البوليس، وأساليب المخابرات وإجراءات التحقيق والعقوبات؛ لأن المؤسسات غير الإسلامية تتعامل مع الإنسان انطلاقا من فلسفة "الدارونية الاجتماعية" التي تقرر أن البقاء للأقوى، واستنادا إلى نظريا علم النفس المشتقة من التجارب على الحيوان كنظرية بافلوف، ونظريات التعلم الإشراطي لسكنر التي تستعملها الكثير من دوائر الشرطة، والمخابرات في غسل الأدمغة وانتزاع الاعترافات.
وأهمية هذه التربية لا يمكن -هنا- الخوض في تفاصيلها، وإنما يمكن تصورها من المثل الذي لم يحدث له نظير في تاريخ الجندية، حينما أنزلت رتبة عسكري كخالد بن الوليد من "قائد عام للجيش" إلى "جندي نفر"، ثم استمر في آداء واجبه قائلا: أنا لا أقاتل من أجل عمر!!
ويرتبط بهذا المظهر للنصرة تنمية الوعي بـ"سيادة الشريعة فوق القوة"، وإقامة المؤسسات المتخصصة بمراقبة الحاكمين، والإداريين بحيث لا يكون أحد كائنا من كان فوق الشريعة أو القانون، بهما يضبط سلوكهم وتوجه إرادتهم. وحين يحاول أحد أن يرتفع -فوق القانون- يقوم تقويم القداح -حسب قول بشر بن سعد للخليفة عمر، وإذا لم يقوم فإن ذلك يعني إن الصنمية عادت برموز جديدة، والرضى بها من مظاهر الشرك والخضوع لغير الله.
وتحتاج التربية الإسلامية -من أجل تعميق الولاء لاتجاهات النصرة- إلى نقد الممارسات التاريخية، التي أطلقت أيد الخلفاء والسلاطين، والولاة -بعد عصر الراشدين- في شئون الحكم والمال والإدارة، فصاروا يعزون من يشاءون في أعلى المناصب، ويذلون من يشاءون بالعزل والاضطهاد، ويحيون من يشاءون بالعفو المزاجي، ويميتون من يشاءون بالإرادات الطاغية، وبذلك شاركوا الله في صفاته، وأفعاله وجسدوا صنمية الأنداد!
وتحتاج التربية الإسلامية كذلك إلى نقد قيم العصبيات القبلية وثقافاتها
التي تصطدم بـ"النصرة" فتجعل "القوة فوق القانون"، وتحيل "حقوق" الناس الممنوحة لهم من الله "مكرمات" يمن بها عليهم الرؤساء والملوك الأنداد، وتطلق أيد المتنفذين ليستعبدوا الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وليتحكموا بمصائرهم وأرزاقهم، ومقدارتهم دون رقابة من مؤسسة أو مسئولية أمام تشريع.
ولا شك أن نقد التربية لهذه الثقافة العصبية المتخلفة هو واجب ديني، والتخلي عن هذا الواجب، أو القصور فيه والسماح لهذه الثقافة أن تشيع في مناهج التربية، وبرامج الإعلام هو كبيرة من الكبائر المخلدة في النار كما ذكر ذلك صراحة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أورد الكبائر السبع، وذكر أن سابعتها "وأن ترتد أعرابيا بعد الهجرة"1.
5-
نصرة الأمة المسلمة في مواجهة طغيان الفرد أو الأقلية:
وأساس هذا المظهر أن الأمة التي توجهها روح النصرة لا تسمح للفرد، أو الأقلية أن تغلب مصالحها الخاصة على الصالح العام. ولتحقيق هذا المظهر لا بد للتربية الإسلامية أن تركز على رسوخ ثلاثة اتجاهات رئيسية هي:
الأول، تنمية الوعي بقيمة وحدة الأمة المسلمة، والمحافظة عليها بكل الوسائل. ويتفرع عن وحدة الأمة القيادة ومحاربة نزعات السلطان المستمدة من الولاء الفردي والعصبيات العائلية والقبلية والإقليمية والمذهبية، والقومية وكل ما يعرض كيان الأمة للفتن والانقسامات. وهذا ما فهمه أبو بكر الصديق حين قال:
"وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران. فإنه مهما يكون ذلك
1 الطبري، التفسير، جـ18، ص158، 159 تفسير سورة النور: آية 55.
السيوطي، الجامع الصغير، رقم 13.
يختلف أمرهم وأحكامهم، وتتفرق كلمتهم وجماعتهم، ويتنازعون فيما بينهم، هناك تترك السنة وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح"1.
وحين اقترح أحد الأنصار في سقيفة بني ساعدة أن يكون للمسلمين خليفتان في آن واحد وقال للمهاجرين: منا رجل ومنكم رجل، أجابه عمر بن الخطاب:"سيفان في غمد واحد إذا لا يصلحان"2.
والثاني، تنمية الوعي بأهمية العمل الجماعي، وسيادة مبدأ الشورى؛ لأن في الشورى تجسيدا لإرادة الأمة، وإشراكًا لجميع أفرادها وهيآتها في حمل المسئولية. وهو ما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم وسار عليه الخلفاء الراشدون. فقد كان أبو بكر وعمر إذا ما ورد على أحدهما أمر نظر في الكتاب والسنة، ثم شاور العلماء وأولي الرأي3.
والثالث، تكافؤ الفرص وعدم محاباة الأقارب والأصدقاء، وتوزيع الوظائف والأعمال طبقا لمقاييس الإخلاص والكفاءة. وهذا ما وجه إليه أبو بكر الصديق. فعن يزيد بن أبي سفيان: قال أبو بكر لما بعثني إلى الشام، يا يزيد إن لك قرابة عسى أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من ولي من أمور المسلمين شيئا فأمر عليهم أحد محاباة له بغير حق، فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم. ومن أعطى أحدا من مال أخيه محاباة له، فعليه لعنة الله" أو قال: "برئت منه ذمة الله. إن الله دعا الناس أن يؤمنوا فيكونوا حمى الله! فمن انتهك في حمى الله شيئا بغير حق فعليه لعنة الله". أو قال: "برئت منه ذمة الله عز وجل"4.
1 البيهقي، السنن الكبرى، جـ8 "بيروت: دار صادر، 1354" ص145.
2 البيهقي، نفس المصدر والصفحة.
3 الدارمي، السنن، جـ1، باب الفتيا "دار إحياء السنة النبوية" ص58.
4 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص665 نقلا عن مسند أحمد، وابن أبي شيبة.
6-
نصرة رجال الفكر وجمهور الأمة في مواجهة القوة والسلطان:
يرتبط هذا المظهر بنصرة "أفكار" الرسالة ارتباطا وثيقا. وهو من أهم ميزات الأصول السياسية للتربية الإسلامية. فالقرآن الكريم يحدد دور رجال الفكر، ورجال القوة في أكثر من موضع، من ذلك قوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
ولقد قدم الرازي وابن تيمية عرضا مطولا لتفاسير علماء الصحابة، وتلامذتهم لمعنى "أولي الأمر" وخلصا إلى أن هذه التفاسير تنقسم إلى قسمين: قسم جعل "أولي الأمر" هم العلماء والأمراء وهو رأي الأقلية، وقسم جعلهم العلماء وحدهم وهو رأي الأكثرية1. وعلى كل حال فالعلماء، أو رجال الفكر، موجودون في تعريف كلا الطرفين ولهم الصدارة والأولوية، وهذا هو الذي ينسجم مع "نصرة الرسالة" وضرورة دوران "الأشخاص والأشياء" في فلك "الأفكار" كما مر.
كذلك يقدم القرآن الكريم أمثلة لما يجب أن يكون عليه مكانة رجال الفكر وجمهور الأمة. ولقد ناقش ابن تيمية هذه المكانة وذكر إنها مما يوجه إليه قوله تعالى:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} .
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} .
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .
وفي التشهد:
1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب السلوك، جـ10، ص354.
الرازي، التفسير الكبير، جـ10، ص144-150.
"التحيات لله والصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين".
فالإشارة هنا -لله ورسوله- إشارة إلى القائمين على فقه الكتاب والسنة والتربية عليهما، والإشارة إلى -الذين آمنوا- إشارة إلى جمهور الأمة المسلمة.
ويضيف ابن تيمية أن هذه الأصول هي التي أمر بها عمر بن الخطاب شريح حيث قال: "اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة الله، فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس، وفي رواية فبما قضى به الصالحون.
وكذلك ابن مسعود:
"من سئل عن شيء فليفت بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس.
وكذلك روى نحوه ابن عباس وغيره. ولذلك قال العلماء: الكتاب والسنة والإجماع1، 2. كذلك يقدم القرآن الكريم أمثلة لما يجب أن تكون عليه معادلة العلاقة بين رجال الفكر، وجماهير الأمة ورجال القوة، وتحديد أدوار كل فريق منهم. من ذلك قوله تعالى:
هكذا تتوزع الأدوار إذا واجهت الأمة قضية من قضايا الأمن، أو الخوف أو شأن من شئون الحرب أو السلم، فالحسن الجماهيري هو الأداء
1 ابن تيمية، الفتاوى، أصول الفقه، جـ20، ص498.
2 التربية في العالم الإسلامي الحديث أهملت المصادر الثلاثة كاملة، وأحلت محلها الإرادة المطلقة للحاكم الفرد. أما التربية في الغرب -غير المسلم- فقد أهملت الاثنين الأوليين، وأبقت على الثالث -أي ما اجتمع عليه الناس. ولذلك يتفوق الغرب على الأكداس البشرية في الأقطار الإسلامية بهذه الدرجة من التفوق التربوي.
القادر على استشعار القضايا أو المشكلات؛ لأن الجماهير هي التي تتفاعل على مسرح الحياة الاجتماعية، ولها حق التعبير والإعلان عنها، ولكن ليس باللغو وإذاعة الإشاعات، وإنما بآداء دورها في دائرة فاعلة دائمة الجريان حيث تبدأ الجماهير برد القضايا، والمشكلات إلى أولي الأمر من العلماء -الأمراء "وهم هنا خلفاء الرسول" ليردوها بدورهم إلى المختصصين القادرين على عملها، واستنباط معالجتها. ويمكن أن نمثل لهذه الدائرة الفاعلة في معالجة المشكلات
والقضايا بالشكل التالي:
ولقد أدرك ابن تيمية هذه العلاقة التي تنظم أدوار رجال الفكر، ورجال القوة وأسهب في وصف تطبيقاتها، وتطوراتها في الأمة الإسلامية. ومما قاله في هذا الشأن:
"قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1 فقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} .
ودين الإسلام: أن يكون السيف تابعا للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الإسلام قائما
…
وأما إذا كان العلم
بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب، وتارة يخالفه، كان دين من هو كذلك بحسب ذلك"2.
1 سورة الحديد: الآية 25.
2 ابن تيمية، الفتاوى، أصول الفقه، جـ20، ص393.
فابن تيمية يرمز لرجال القوة بـ"السيف" تمشيا مع وسائل تكنولوجيا القوة في عصره، بينما يشير القرآن لها بـ"الحديد" المادة الأساسية لتكنولوجيا القوة في كل عصر.
ولقد كان عصر النبوة والخلافة الراشدة تطبيقا للمعادلة القرآنية بين رجال الفكر، وجمهور الأمة ورجال القوة. فقد كان "فقهاء الرسالة" يتصدرون مواقع الإمامة في الأمة ابتداء من إمامة الصلاة، حتى إمامة المجتمع كله. ومن المعروف جيدا أن الخلفاء الراشدين كانوا أعظم فقهاء الرسالة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم لولا انشغالهم بشئون السياسة، وتسيير جيوش الفتح الإسلامي لتركوا مجلدات مبتكرة في أصول الفكر الإسلامي بميادينه المختلفة.
كذلك تحددت منازل الأفراد طبقا لدرجة دورانهم في فلك "أفكار" الرسالة الإسلامية. ففي المجتمع النبوي، والراشدي ترقى أشخاص من منازل "رعاة صغار الغنم في شعاب مكة"، و"الخدم في بيوت مترفيها" ليصبحوا "فقهاء الرسالة" ورجال التربية، وقادة الجيوش، وولاة الأقاليم والناطقين الإعلاميين كما حدث لأمثال عبد الله بن مسعود، وزيد بن حارثة، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، بينما هوت "أشخاص" أشراف رفضوا الدوران في فلك "أفكار" الرسالة إلى مدافن النفايات البشرية كما حدث لأمثال عمرو بن هشام، وأبي بن خلف في بدر، وتراجعت منازل "أشخاص" زعماء تأخروا عن الدوران في فلك الرسالة حتى فتح مكة ليصبحوا أشخاصا عاديين كما حصل لأمثال أبي سفيان.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم دائم التحذير من اختلال المعادلة التي أرساها بين رجال العلم، وجمهور الأمة ورجال القوة، ومن خطورة هذا الاختلال في مستقبل الأمة المسلمة من ذلك قوله:
"خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة في الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه، يمنعكم الفقر والحاجة. ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا
مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم. قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى بن مريم، نشروا بالمناشير، وحملوا على الخشب. موت في طاعة خير من حياة في معصية الله"1.
ومن الموضوعية أن نقول: أنه بعد مجتمع الخلفاء الراشدين اضطربت معادلة العلاقة بين رجال الفكر والتربية، وبين رجال القوة ودخل الطرفان في صراع طويل انتهى بتغلب رجال القوة والسلطان. ولكن الحديث في تفاصيل هذا الموضوع يقع في دائرة البحث في تاريخ التربية الإسلامية، وهو موضوع خارج عن نطاق هذا البحث.
وفي العصر الحديث تدرب مؤسسات التربية في العالم الإسلامي الحديث على أن شخصا واحدا هو شخص المعلم -الذي يتقمص فيما بعد شخص الحاكم من أولي القوة- هو القادر على استشعار المشكلات، والقضايا كلها وعلى إصدار الحلول الفاصلة القاطعة التي لا مراء فيها. فالدائرة الاجتماعية -هنا- مقطوعة ممنوعة، والتنسيق بين رجال الفكر، وجمهور الأمة ورجال القوة غير قائم. وحملة الشهادات وذوي الاختصاص ودور العلم، والجامعات مجرد زينة و"ديكور" وطني يتباهى به رجال القوة ذوي الهيمنة المطلقة أمام الأقطار الأخرى تماما كالمكتبات في بيوت العالم الإسلامي تزين بها البيوت كقطع الأثاث، وأدوات الزينة دون أن يقرأ منها صاحبها صفحة واحدة.
وفي المقابل نجد إن نظم التربية في الغرب -غير المسلم- قد نسقت أدوار كل من رجال الفكر، ورجال القوة وهيئات المجتمع بما يتطابق مع
1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ20 "بغداد: وزارة الأوقاف والشئون الدينية، 1982"، ص90، رقم 172.
التوجيهات القرآنية التي مرت. فالمشكلات وقضايا الأمن أو الخوف تبدأ في الساحة الجماهيرية، ولكنها لا تترك للغو والإشاعات وإنما تنقل لأولي الأمر بالاستفتاءات، وجمع المعلومات والبيانات والمقابلات ثم ترد إلى مراكز البحوث المتخصصة حيث ينكب عليها المؤهلون القادرون على تحليلها واستنباط الحلول لها، ثم يردونها إلى أولي الأمر من صانعي القرار ثم إلى أجهزة التنفيذ ثم تقوم بمتابعتها أجهزة القياس، والتقويم لجمع ثمرات التطبيق، وتقويم النتائج وتبدأ الدائرة من جديد.
7-
نصرة الأمة المسلمة في مواجهة العدوان الخارجي:
وأساس هذا المظهر أن الأمة التي يوجهها روح النصرة لا تسمح للعدو الخارجي أن ينال منها، أو من أفرادها ومقدراتها. ولتحقيق هذا المظهر لا بد للتربية الإسلامية أن تركز على خمسة اتجاهات رئيسية هي:
الأول، تربية الأمة على الروح العسكرية وتعشق الجهاد. والتوجيهات النبوية حازمة وراسخة في هذا الاتجاه. فهي تحث على تدريب الناشئة مبكرًا على الحاملات الحربية، وأدوات القتال التي رمزت لها بأدوات عصر النبوة المتمثلة في ركوب الخيل ورمي النبال، واستعمال السيف وفنون الفروسية مع مراعاة الاستمرار في هذه الأهلية وتعشق الجهاد.
ولكن لا بد من الانتباه الشديد إلى أن تربية الأمة على الروح العسكرية يجب أن يضبطها ضابط الرسالة الإسلامية التي استعرضنا تفاصيلها في فصل -الجهاد والرسالة- حتى لا تطغى الروح العسكرية على الغايات التي هي وسيلة لتحقيقها. ومعنى ذلك إن الفكرة يجب أن توجه القوة، أو نقول: إن القوة في خدمة الشريعة. وهذا من الفوارق الرئيسية بين الحضارات الإنسانية الراقية، والحضارات الاستعمارية المتخلفة. فالحضارة الإنسانية التي تستهدف إشاعة الأمن والسلام هي التي تلجم القوة بالشريعة، أو القانون وتجعلها وسيلة لنصرة المبادئ، والأفكار بينما تعكس حضارات العدوان
والاستعمار المعادلة فتجعل الأفكار أداة لتبرير طغيان القوة، وممسحة لتنظيف قاذوراتها وآثار همجيتها في الأرض.
والثاني، إقامة الصناعات الحربية وتطوير العلوم العسكرية بما يكفل للأمة الإسلامية التفوق الرادع للأعداء، والرهبة والهيبة أمام الخصوم، وتحقيق النصرة أمام التحديات والأخطار. وهذا مما يوجه إليه -بصراحة- قوله تعالى:
والثالث، إقامة مراكز الدراسات المتخصصة -أو مراكز شهود العالم حسب التعبير القرآني- وذلك لتحقيق الأهداف التالية:
الهدف الأول هو دراسة ما يجري في العالم من تيارات وأحداث في صالح الأمة المسلمة أو ضدها؛ وذلك لتحديد سياسات التعامل مع هذا العالم وإيصال الرسالة إليه. وهذا مما يوجه إليه قوله تعالى:
وهو أيضا ما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم:
"رحم الله من حفظ لسانه، وعرف زمانه، فاستقامت طريقته"1.
والرسول كان يشهد الأحداث الجارية بوسائل المعرفة الثلاثة: الوحي والعقل والحس. أما وقع انقطع الوحي فإن على -مراكز البحوث والدراسات- أن تضاعف من عمل أداتي العقل والحس في شهود ما يجري
1 السيوطي، الجامع الصغير، جـ2 "بيروت: دار الفكر"، ص13 رقم 4440.
في العالم، وبدون ذلك لا تكون هناك استراتيجيات صائبة، ولا سياسات حكيمة1.
والهدف الثاني هو تشخيص الشئون المتجددة، والنظر في وسائل التكيف معها، ومجابهة التحديات التي ترافقها.
والهدف الثالث هو دراسة المجتمعات غير الإسلامة للتعرف على أصولها الاجتماعية، والثقافية الموجهة لسياساتها وعلاقاتها، وتحديد أساليب التعامل معها. ويقدم القرآن توجيهات واسعة لـ"قراءة عقول غير المؤمنين" و"إرادتهم" مما يشكل أصولا لتطوير علوم سياسية إسلامية، وعلم اجتماع إسلامي، وعلم إنسان إسلامي "أنثروبولوجيا"، وعلوم تتطلب الحاجات المتجددة ابتكارها إذ بدون العلم لا يمكن تحقيق أي مظهر من مظاهر -النصرة- التي قدمنا نماذج لها.
والهدف الرابع هو بلورة أصول العلاقات الخارجية مع المجتمعات غير الإسلامية، وتحديد الميادين التي يباح فيها التعاون، والصداقة مع هذه المجتمعات، والمدى الذي يصلان إليه وينتهيان عنده.
8-
أهمية النصرة:
النصرة عامل هام وحاسم في توفير البيئة الصحية التي تنمو فيها الفضائل، والصفات التي تجسد رقي الأمة وعافيتها، وتوفير المناعة الواقعة من الرذائل الاجتماعية، والأمراض الفكرية التي تسهم في مرض الأمة أو وفاتها. ويمكن القول أن أهمية النصرة تتجسد فيما يلي:
1 تحتاج -مراكز شهود العالم- المقترحة إلى تركيز النظر في -استراتيجيات الغربيين في أوربا وأمريكا- بغية حل الإشكالية القائمة بين هذه المجتمعات وبين العمل الإسلامي، حيث أثبتت أحداث الماضي، والحاضر أن الغرب أشد الناس على المسلمين. وهذا ما يوجه إليه قوله صلى الله عليه وسلم:"أشد الناس عليكم الروم، وإنما هلكتهم مع الساعة". مسند أحمد "تصنيف الساعاتي" جـ24، رقم 158، ص56.
الأهمية الأولى، إن "نصرة الإنسان" واحترام إنسانيته يشيعان في الأمة روح العزة، والإرادات النبيلة العازمة، ويهيئان لنمو فضائل الصراحة والاستقامة واحترام العهود والمواثيق، ولتوفير المناعة ضد أمراض النفاق والخيانة والذل. وهذا ما وجه إليه الخليفة عمر حين كان يوصي عماله:"ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم"!!
والأهمية الثانية، إن "نصرة العدل" تشيع في الأمة الإيمان بالله وتطبيقاته، وتهيئ لتذوق "المثل الأعلى" وتقبله، وتوفر المناعة ضد أمراض الكفر والزندقة والجريمة، والانحلال. وهذا أيضا ما وجه إليه الخليفة عمر حين أضاف: "
…
ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم"!!
والأهمية الثالثة، إن اجتهاد مؤسسات الإدارة والأمن، والجيش لـ"نصرة الأمة" في مواجهة طغيان "أشخاص" الحاكمين أو تسلط المترفين أو الأقليات الأسرية والقبلية والطائفية، يشيع في -الأمة روح المسئولية العامة، والوحدة، وفضائل البذل والموالاة للصالح العام، ويوفر المناعة ضد أمراض الأنانية، والتحلل من المسئولية العامة، والفتن ومضاعفاتها في الشح والبخل والاغتراب، والجبن والنكوص أمام التحديات.
والأهمية الرابعة، أن الأمة التي توجه علاقاتها "نصرة الحرية" تشيع فيها اتجاهات العمل الجماعي، وتنمو فيها القدرات العقلية العليا، وتشيع الحكمة والإبداعات العلمية والإنجازات الحضارية.
والأهمية الخامسة، أن "نصرة أفكار الرسالة" في مواجهة طغيان "الأشخاص" وزخرف "الأشياء" تشيع في الأمة والرقي الثقافي، والعطاء الإنساني وتزين الحياة فيها قيم المثابرة، والجد والتسامح مع الغير والانفتاح على الآخرين.
والأهمية السادسة، أن الأمة التي توجهها روح "النصرة أمام العدوان الخارجي" يشيع فيها فضائل الشجاعة، والإقدام والتضحية والطموح، والثقة بالنفس في مجابهة التحديات، والقدرة على تحقيق الانتصارات.
4-
التربية ورباط النصرة:
تتحمل التربية مسئولية كبيرة في تربية الناشئة، والمتعلمين على مظاهر النصرة التي مر ذكرها. ويمكن القول أن هذه المسئولية تتمثل في ما يلي:
المسئولية الأولى، هي بلورة مضامين النصرة، ومظاهرها التي يتطلبها تطور الحياة في المكان والزمان، ثم تطوير هذه المضامين والمظاهر إلى علوم، ومناهج دراسية
وقيم اجتماعية، وثقافية وإدارية يؤمن بها المتعلم ويعيها، ويدرك منافع وجودها ومضار غيابها.
والمسئولية الثانية، هي إفراز الأنشطة التربوية، والاجتماعية التي يتدرب الناشئة والمتعلمون -من خلالها- على ممارسة تطبيقات النصرة المراد إشاعتها، وتهيئتهم
للمشاركة المستقبلية في مؤسساتها. وهذا هو محور التربية النبوية خلال الوقائع، والأحداث في أوقات السلم والحرب سواء.
والمسئولية الثالثة، هي صبغ العلاقات التربوية والاجتماعية بالاتجاهات، والقيم التي توجه إليها مظاهر النصرة المشار إليها، وتعميق الغيرة عليها، واحترامها والاستعداد للدفاع عنها في الداخل والخارج.
ولعله من الموضوعية أن نقول: إن المؤسسات التربوية -من المدارس والجامعات والأندية، والأحزاب والجمعيا- في أمريكا وأوربا الغربية قد نجحت نجاحا كبيرا في تنمية الولاء للديموقراطية -العنصر المقابل لعنصر "النصرة"- ونجحت في بلورة مضامينها، وإخراج مؤسساتها وإدارتها التي تقتضيها تطورات الزمان والمكان. كذلك نجحت في تضمينها مناهجها، وتدريب الناشئة والمتعلمين على
ممارساتها، وعلى صبغ العلاقات القائمة بين المؤسسات والجماعات باتجاهاتها، الأمر الذي جعل هذه الديموقراطية صفة تميز تلك المجتمعات، ومظاهر الحياة فيها، في حين وقفت مؤسسات التربية الإسلامية عند الوعظ بالفضائل التي تفرزها "النصرة" بينما غفلت إداراتها، وأساليبها عن توفير بيئة النصرة التي تساعد على نمو الفضائل المشار إليها.
وما زالت هذه المؤسسات لا تعي أن بذور الفضائل موجودة -أصلا- في فطرة الإنسان، وما تحتاجه التربية هي تزكية البيئة من "أغلال" و"آصار" العصبيات، التي تحول دون نمو هذه الفضائل وينعها.