الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذه كلها إرادات يريدها الإنسان الذي تقف إرادته الرئيسية عند إرادة الطعام وإرادة النكاح، وهي كلها تؤدي إلى هبوط النوع الإنساني. ولذلك جعلها الإسلام إرادات فاسدة كالروائح النتنة. ولهذا لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أتباعه "يريدون" الولاء للعصبية ويصيحون: يا لآل فلاون! قال لهم: "دعوها فإنها منتنة"1.
وإيراد هذه الأمثلة والنماذج القرآنية للإرادات لا يعني أن نقف عند ما ورد في القرآن والحديث، وإنما معناه أن نسترشد بهذا الإطار العام لمفهوم الإرادة، ثم نمضي قدما في تصنيف تفاصيل الإرادات الفرعية في ضوء الخبرات، والحالجات القائمة. أي أن المطلوب أن يبرز "فقه تربوي" في كل زمان ومكان، تكون مهمته بلورة نماذج الإرادات التي يراد من التربية والمؤسسات التربوية أن تنميها في ضوء التوجيهات الإلهية في آيات الكتاب، وفي ضوء التطور الجاري والحاجات المتجددة، والتحديات القائمة في ميادين الآفاق والأنفس. ونجاح التربية في هذه المهمة يحقق صفة "الإخلاص" في العمل التي هي أحد الشرطين الرئيسين لبروز العمل الصالح.
ومن الطبيعي أن بلورة مثل هذه النماذج من الإرادات يجب أن يسبقها بلورة نماذج مطابقة من المثل الأعلى، الذي يمثل حاجات المرحلة والمكان كذلك. وحين تنجح التربية في ذلك كله وتشيعه، وترسخه تكون قد عملت على إيجاد ما يسمى بـ"روح الأمة"!!
1 صحيح مسلم، كتاب البر، ص64.
ثالثًا: مستوى الإرادة ونضجها
تنمو -الإرادة- عند الفرد حين يعرض عليه -المثل الأعلى- الذي يجد فيه الأدلة، والشواهد التي تقنعه بصحة هذا المثل الأعلى وتمثيله لتطلعاته وآماله. وتبلغ الإرادة درجة النضج حين يصبح الفرد مستعدا لبذل النفس، والمال في سبيل المثل الأعلى. ويشير القرآن إلى هذه الحالة من
الاستعداد في مواضع كثيرة جدا، كذلك تدل وقائع التربية النبوية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشترطها ويجعلها شارة الإيمان وصدقه.
والإنسان عنده ميل فطري إلى أن يضحي بنفسه، وماله في سبيل المثل الأعلى، بل إن هذه التضحية هي أمر راسخ في فطرة الإنسان وجزء من وجوده، وما تعظيم الشجاعة عند البشر إلا تقدير لقيمة التضحية في سبيل المثل الأعلى، ولذلك جعل الجهاد أفضل الأعمال.
والتربية الإسلامية لا تجيز هذه التضحية في سبيل -مثل سوء- يحط بالنوع الإنساني ويثقل ميزان الشر. ومن هنا كان التنديد بالقتال في سبيل مثل الجاهلية، وميتات العصبية والانتحار. ومثله التنديد بالذين يفقدون إرادة التضحية في سبيل المثل الأعلى، ويحرصون على أية حياة ولو كانت حياة الهوان
والاستضعاف.
ولكن نمو الإرادة ونضجها يحتاجان إلى شروط معينة. وأي خلل في هذه الشروط ينعكس آثاره سلبيا على الإرادة التي يراد تنميتها. أما هذه الشروط فهي:
أولا: أن تنمو لدى الفرد القدرات العقلية، وتزكو أساليب التفكير وخطواته التي عرضت في تربية وظيفة والعقل.
ثانيا: توفير البيئة التي تسهل للفرد أن يعيش تطبيقات المثل الأعلى ويمارسها.
ثالثا: الاستمرار في عرض المثل الأعلى على الفرد حتى درجة الرسوخ، والإحاطة بالكليات والجزئيات.
رابعًا: اقتناع الفرد بحاجته إلى المثل الأعلى المعروف، وبأضرار "مثل السوء" الذي يعارضه ويتنافى معه.
خامسا: تحرير الفرد من الموروثات الاجتماعية والثقافية التي تخالف المثل الأعلى المعروض.