الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التناقض الخامس، مكانة الإنسان واحترامه في مواجهة الاعتداء على حرماته، والاستهانة بكرامته
في الوقت الذي لا ينقطع الحديث وتفيض الكتابات في المساجد، والمحافل والكتب والصحافة، والإعلام عن منزلة الإنسان في الإسلام وقدسيته وصيانة حرماته، فإن التطبيقات الجارية في ميادين الإدارة الرسمية، والتعامل الشعبي ما زالت تمتهن هذه الحرمات، وتعبث بهذه القدسية.
ولا يقتصر هذا التناقض على ما يجري في ميدان الصراعات السياسية، وما تفرزه من مضاعفات الاعتقال والسجن، والنفي والتجريد من الحقوق، وإنما يمتد إلى ميادين التعامل اليومي الجاري بين الأفراد والجماعات، وما يتخللها من مظاهر الانتقاص والعصبية والإقليمية، والعائلية في ميادين الحياة المختلفة.
وتتحمل نظم التربية، ومؤسساتها في العالم الإسلامي المعاصر المسئولية الأولى في هذا التخلف البشري في ميدان -كرامة الإنسان وقدسيته. فما زالت هذه النظم التربوية تشيع القيم القديمة -قيم عصور ما قبل الإسلام- التي تقسم الناس إلى أقارب وأغراب، ومواطنين وأجانب، إلى غير ذلك من التقسيمات القائمة على روابط العصبية الإقليمية والعرقية والقبلية. وينتج عن ذلك كله مضاعفات خطيرة في التطبيق السلبي لما تنهى عنه الآية الكريمة:
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1-3] .
ومضاعفات أخطر في امتهان كرامة الإنسان وحرماته، كالاستغلال في البيع والشراء، والإيجار والتنقل، والاستضعاف، وأكل الحقوق، ووضع المقيمين في الموضع الأسمى، والقادمين "الأجانب" في الموضع الأدنى إلى غير ذلك من مضاعفات ومشكلات.
ولكن النظر الدقيق في طبيعة التحديات التي يواجهها المسلمون المعاصرون، يكشف عن أنه لم يعد في صالح أحد التغاضي عن هذا التناقض السلبي المتخلف. فالمجتمعات الحديثة أصبحت تحتاج بعضها بعضًا. والعدو الطامع لا يخلق التناقضات خلقًا، وإنما يستغل ما هو قائم وموجود. والإنسان -كما قلنا: أصبح بدويا جديدا- لا يكاد يمر عليه يوم أو أيام قليلة إلا ويجد نفسه راحلا
أو مقيما. وهو حين يرحل يدخل في مواقف الضعف والحاجة إلى الإيواء
والنصرة، ومواقف العدل والإنصاف والموضوعية. وهو حين يقيم يدخل في مواقف القوة والدعم، والتمكن من مقدرات الآخرين. فهو دائم التردد -بشكل ليس له سابقة في التاريخ- بين حالتين اثنتين: حالة المقيم العزيز، وحالة ابن السبيل القابل للاستضعاف. وهو في كلا الحالتين يتلقى آثار الخبرات
الحسنة، والمعاملة الحسنة، وما يتفرع عنها من مضاعفات الترحيب، ويسر التعامل الرسمي والشعبي، أو يتلقى آثار الخبرات السيئة، والمعاملة السيئة وما يتفرع عنهما من مضاعفات الإهانة وعسر التعامل الرسمي والشعبي، والديان لا ينسى وكما تدين تدان.
وليس هناك من حل لهذا التناقض الذي يعرض كرامة الإنسان للامتهان، وينغص عليه سعادته ويفسد معيشته إلا بتصدي نظم التربية -أولًا- لمعالجة هذه السلبيات ثم التركيز على إخراج ناشئة، ومتعلمين يؤمنون بـ -عنصر الإيواء، وعنصر النصرة -بالمفهوم والمحتويات التي تطرحها أصول التربية الإسلامية في القرآن والسنة.
والخلاصة، إن آيات الله في الآفاق، والأنفس التي أسهم العلم الحديث والتكنولوجيا الحديثة في إظهارها وتسهيل شهودها، تكشف بوضوح
أهمية آيات الوحي التي توجه إلى تربية الإنسان الصالح -المصلح، وإخراج الأمة المسلمة المكونة من عناصر الإيمان، والهجرة والمهجر، والرسالة والجهاد، والإيواء، والنصرة، والولاية، وتنمية الإيمان بالوحدة الإنسانية والتربية العالمية بالمضامين التي مرت في هذا البحث، وهي توضح -بما لا يدع للشك مجالًا- أن هذه الأهداف التربوية الإسلامية أصبحت ضرورة معيشية للمسلم المعاصر، إذا أراد الخروج من دوامة التناقضات، والمشكلات الجارية. وليس من المعقول أن تستمر أجهزة الأمن ودوائر البوليس العالمي بإدانة ضحايا هذه التناقضات، ووصمهم بوصمات الإرهاب والجريمة، والانحراف دون أن تتحرك نظم التربية، والتوجيه ومؤسساتها لتصحيح المفاهيم الخاطئة التي أفرزتها الردة إلى العصبيات وكان من مضاعفاتها اقتراف العالم الإسلامي للكبيرة السابعة التي يشير الحديث النبوي عن الكبائر السبع بعبارة:"التعرب بعد الهجرة" و"المرتد أعرابيا بعد الهجرة" كما مر في صفات سابقة. وتتحمل مؤسسات التربية الوزر الأكبر في هذه الردة؛ لأنها نمتها -وما زالت تنميها، من خلال التركيز على أمثال شعر المعلقات، وتاريخ العصبيات والقوميات، والاكتفاء من الدين بفقه العبادات والطهارة، والحيض والنفاس وزكاة الجمال والبقر والماعز، دون أن تتصدى لقضايا الإنسان الكبرى في العيش والاجتماع، والتوعية بالظروف العالمية الجديدة التي تستدعي إعادة تخطيط العلاقات القائمة بين بني الإنسان في الطور الجديد -طور "قرية الكرة الأرضية The Global Villaga".