الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون
أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة
…
الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون
لا يهدف البحث هنا إلى استعراض -الأفراد المؤمنين- كفئة تحمل "معتقدات" معينة عن الخالق والمنشأ، والحياة والمصير كما هو في مقررات العقيدة في المعاهد والكليات الشرعية. وإنما الهدف هو تقديم الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة المسلمة الملائمة للطور الحاضر: طور العالمية الذي جاءت الرسالة الإسلامية على أبوابه لتزود أهله بالقيم، وشبكة العلاقات الاجتماعية التي تساعد على بقاء النوع البشري ورقيه.
وانطلاقا من هذا الهدف يركز البحث على ثلاثة موضوعات: الأول، أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة. والثاني، أهمية "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة" الإيمانية في العالم المعاصر. والثالث، دور التربية في بلورة محتوى الثقافة الإيمانية وتنشئة إنسان التربية الإسلامية عليها.
أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة
تبدو أهمية -الأفراد المؤمنين- في أن هذا النوع من البشر هو الذي يحقق للأمة التوازن الاجتماعي والصحة النفسية. ذلك إن طبيعة الإنسان -كما يعرضها القرآن الكريم، ويثبت ذلك ممارسات الإنسان على الأرض- تشير إلى تكوينه النفسي شبيه بتكوينه الجسدي، أي يتكون من عناصر تتحد حسب نسب معينة، وتفرز تركيبا معينا يمثل حالة الصحة، فإذا اضطربت نسب هذا التركيب ارتفاعا أو هبوطا دخل حالة المرض. والحالات التي يمر بها التكوين النفسي للإنسان هي حالات: الوسطية، والطغيان، والهوان، وتمثل الحالة الأولى مظهر الصحة الذي يضمن للإنسان السلام،
بينما تمثل الحالتان الثانية والثالثة مظهر المرض الذي يهدد سلامة الإنسان نفسه. وإلى هذه القابلية المرضية يشير قوله تعالى:
{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
والإيمان بالله -بمفهومه الإسلامي- هو العامل الحاسم في تقرير حالات الصحة أو المرض المشار إليها. إذ إن إحساس الإنسان بالمسئولية أمام الله يبقيه في منزلة -الوسطية- فيمنعه من "الطغيان"، وتجاوز الحدود والاعتداء على وجود الآخرين إذا كان في حالة القوة والغنى، ويقيه من "الهوان" والسكوت على استباحة الطاغين لحرماته إذا كان في حالة الضعف والفقر.
فإذا غاب -الإيمان بالله- من وجود الإنسان تذبذب بين مرضي الطغيان والهوان، وتراءى له -عند المرض الأول- أنه مستغن بنفسه لا حاجة له لغيره، وأنه قادر على الإمساك بسنن الوجود وأحداثه وضربه الفرح، والفخر والبطر وادعى القدرة والعلم. أما في حالة -المرض الثاني- فإن الإنسان يصاب بالكفر واليأس والهبوط عن المنزلة الإنسانية بين المخلوقات. ويتكرر الحديث الإلهي عن حالات المرض هذه ومضاعفاتها، من ذلك قوله تعالى:
- {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا} [الإسراء: 83] .
- {كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] .
- {قُتِلَ الْإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] .
- {إِنَّ الْإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] .
ولقد أثبت تاريخ الإنسان على الأرض هذه التقريرات القرآنية، فالأمم التي تكونت من أفراد ينقصهم عنصر الإيمان ضربتها المضاعفات المرضية المشار إليها. ففي حالة القوة والغنى انتشر بينها سرطان الطغيان وأفرز مضاعفات: عنصرية الدم الأزرق الملوكي، والرجل الأبيض، وشعب الله المختار، والطبقية الهندية، والعالم المتقدم، والارستقراطية، والسادة، والنازية، والفاشستية، والدارونية الاجتماعية، والاستعمار.
أما في حالة الضعف والفقر، فقد انتشر سرطان الاستضعاف والهوان، وأفرز مضاعفات: البرابرة، والعالم المتخلف، والبروليتاريا العمالية، والعبيد والرقيق، والرجل الملون، والشودرا المنبوذين، والعائلة الوضيعة،
…
وهكذا.
وظهرت لكل حالة مؤسساتها ونواديها، وثقافاتها المزودجة المتناقضة، والإنسان في كل الحالتين خاسر مهدد البقاء، محروم الحب والاطمئنان، إلا في الفترات التي تسلح -خلالها- بالإيمان بالله، وعمل بهذا الإيمان، وتواصى بالحفاظ عليه، والصبر على تكاليفه، ومجابهة الأخطار التي تهدده. وإلى هذه الفترات يشير قوله تعالى:
ولكن الإيمان بالله لا يمد الإنسان بعافية "الوسطية"، ويقيه من مرضي "الطغيان" و"الهوان" إلا إذا استمد محتواه من الاجتماع البشري، وتجسدت تطبيقاته في قلب الاجتماع الإنساني. وأبرز هذه التطبيقات هي:
بلورة "هوية" الإنسان الحقيقية.
ومنحه "جنسية" إيمانية واحدة.
وتزويده بـ"ثقافة" واحدة ذات مؤسسات واحدة.
أما عن بلورة "هوية" الإنسان الأصلية فإن -آيات الله في الكتاب- تمد العاملين في مجال التربية بإطار عام لهذه الهوية يبين أن الإنسان مفطور على الصلاح والخير. ولكن فطرته هذه رقيقة ضعيفة يضربها المرض فيفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكن التربية الإيمانية تحصنه من قابلية المرض ومضاعفاته في الإفساد والشر.
ولقد عانى علم النفس الحديث كثيرًا حتى استشرف هذه الحقيقة عن طبيعة الإنسان، وهو استشراف ما زال في مراحل الحديث النظري، ولما يأخذ طريقة إلى ميادين التطبيق العملي في التربية والسياسة، والاجتماع والاقتصاد. ولقد قام -أبراهام ماسلو Abraham Maslow- رائد علم النفس الإنساني بأبحاث واسعة في ميدان البحث في الطبيعة الإنسانية، وخلص إلى تعديلات كبيرة في معارف علم النفس عن الإنسان، وانتهى إلى الإطار الذي يرسمه القرآن في هذا المجال. ومما قاله في هذا الشأن:
"إن غلطة فرويد Frued الكبيرة، والتي نحاول تصحيحها الآن، هي إنه اعتقد أن العقل الباطن مجرد شر غير مرغوب به. ولكن العقل الباطني يحمل معه أيضا جذور الإبداع ومتع السعادة، والخير، وقواعد الأخلاق، والقيم الإنسانية، فنحن الآن نعلم أن هناك عقلًا باطنيا صحيحا وسليما مثلما إن هناك عقلا باطني سيئا وسقيما. وتقوم مدارس علم النفس الحديثة بدراسة هذا بطريقة كاملة، كما إن المعالجين النفسيين بدأوا يضعون هذا
المفهوم موضع التطبيق
…
"1.
ويحدد -ماسلو- الإطار الحديث الذي توصل إليه علم النفس عن الطبيعة الإنسانية في الخطوط العريضة التالية:
- في داخل كل فرد طبيعة بيولوجية أساسية هي إلى درجة معينة طبيعية وجوهرية، وهي غير قابلة للتغير.
- كل طبيعة داخلية هي جزء متميز في كل فرد من ناحية، ومن ناحية أخرى هي مشتركة في الجنس الإنساني كله.
- يمكن دراسة هذه الطبيعة علميا، واكتشافها والتعرف عليها.
- لا تبدو هذه الطبيعة الإنسانية شريرة بالأصل، وإنما الحاجات الأساسية لها والعواطف الإنسانية الأساسية، والطاقات الإنسانية الأساسية هي بالأصل محايدة وإيجابية وخيرة. أما النزعة للتخريب و"السادية" والقسوة والحقد وأمثال ذلك، فيبدو أنها ليست أساسية، وإنما هي ردود فعل عنيفة ضد الإحباطات والفشل في تحقيق الحاجات الأساسية.
- بما إن هذه الطبيعة الإنسانية الداخلية محايدة، وخيرة فمن الأفضل استخراجها وتشجيعها أكثر من كبتها والضغط عليها، وإذا سمح لها أن توجه حياتنا فسوف نعيش أصحاء ومنتجين وسعداء.
- وإذا تعرض جوهر الإنسان هذا للضغط أو الرفض فسوف يعتريه المرض بطريقة واضحة أحيانا، وبطرق ملتوية أحيانا أخرى، وأحيانا في الحال، وأحيانا فيما بعد.
- هذه الطبيعة الإنسانية ليست قوية وصلبة، وليست معصومة من الخطأ وإنما هي ضعيفة ورقيقة، ومن السهل أن تتغلب عليها العادة والضغط الثقافي والاتجاهات الخاطئة2.
1 Abraham Maslow، The Farther Reaches of Human Nature، P. 167.
2 Abraham Maslow، Toward a Psychology of Being، PP. 3-4.
ولقد أثبت تاريخ الإنسان على الأرض إن هذه الطبيعة الخيرة في الإنسان لا يستخرجها إلا الإيمان بالله، وما يقتضيه هذا الإيمان من أعمال وتطبيقات.
وأما عن "الجنسية" فالقرآن واضح وصريح في اشتقاق جنسية الإنسان من "الأفكار" التي يدور في فلكها. فالدين يدورون في فلك -الأفكار- الرسالة الإسلامية أسماهم "المؤمنين"، والذين يكفرون -أي يحجبون، ويخفون- أفكار الرسالة ويقفون عند "أفكار" خاطئة تقتصر على معالجة الرغبات العاجلة في محطة -الحياة الدنيا- يطلق عليهم اسم "الكافرين"، والذين ينفقون "الأفكار" من أجل تعزيز ولاءاتهم لـ"الأشخاص" و"الأشياء" يطلق عليهم اسم "المنافقين".
والنموذج الأول -نموذج المؤمنين- هو الذي تشتق "جنسية" الإنسان المسلم منه، وتتطلع التربية الإسلامية إلى تنشئته. ويشدد القرآن الكريم على هذه الجنسية، ويربط بينها وبين الغاية من إخراج الأمة المسلمة والوظيفة التي أخرجت من أجلها. من ذلك قوله تعالى:
ويلحق بـ"جنسية" الإنسان المؤمن "طبقته" داخل الأمة المسلمة. وتقرر هذه الطبقة طبقا لدرجة -اتقائه- من الإصابة بمرض الطغيان أو الهوان، وإلى هذا المقياس يشير قوله تعالى:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .
وبهذا المقياس تحددت في مجتمع النبوة طبقات الأمة المسلمة، فظهرت طبقة "المهاجرين" و"طبقة الأنصار" و"طبقة الطلقاء" و"طبقة
المنافقين". وهذا مقياس لا اعتبار فيه لعامل القوة الذي يدور في فلك "الأشخاص"، ولا لعامل الثروة الذي يدور في فلك "الأشياء"، وإنما يقوم على أساس اتقاء مرضي الطغيان، والهوان الذي يدور في فلك "أفكار" الرسالة الإسلامية".
ولقد أثبت تاريخ الحضارة الإسلامية أنه طالما ظلت "جنسية" الإنسان المسلم تستمد من "هو سماكم المسلمين"، فإن الأمة المسلمة ظلت تعيش لحمل الرسالة إلى الناس في الخارج، وظلت "الطبقة العليا" مفتوحة لكل من "اتقى" مرضي الطغيان، والهوان مهما كان أصله ولونه وغناه أو فقره. وحين تحولت لتشتق "الجنسية" من الولاء لـ"أشخاص" الحاكمين و"أشيائهم" و"أقاليمهم" توقفت عن حمل الرسالة، واشتغلت بغيرها من أشياء الدنيا، ومالكي هذه الأشياء وظهر فيها الأشراف والموالي والسادة، والمستخدمين والممالك.
وأما عن "ثقافة" الإنسان المؤمن فهي تعني -هنا: القيم ونظم الحياة، والإدارة والعادات والتقاليد، والأخلاق، والفنون التي تجسد الإيمان في تطبيقات عملية تميز حياة المؤمنين عما سواها، وتحتل التفصيلات المتعلقة بهذه الثقافة جزءا كبيرا من القرآن الكريم. من ذلك قوله تعالى:
ومنها قوله تعالى:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا
سَلامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 63-76] .
الحديث النبوي وتطبيقاته السنة يحددان للثقافة، والقيم الإسلامية قوائم سلوكية تصل إلى بضع وستين شعبة أو بضع وسبعين تتكون منها مجتمعة "ثقافة" إيمانية فعالة توجه النشاطات، والممارسات وتقيم شبكة علاقات اجتماعية تبلغ بالأمة المسلمة مرتبة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى1. كذلك قام لهذه "الثقافة" الإيمانية حدود مميزة منعتها من التداخل مع "الجنسيات"، و"الثقافات" المستمدة من الانتماءات العرقية والإقليمية والمصالح المادية. والتوجيهات القرآنية في هذا الشأن كثيرة صارمة منها قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا
1 للاطلاع على شعب الإيمان راجع كتاب -شعب الإيمان- للبيهقي. أو كتاب -الإيمان- لابن مندة.