المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة - أهداف التربية الإسلامية

[ماجد عرسان الكيلاني]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب:

- ‌الباب الأول: مقدمة أهمية البحث في أهداف التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: دور الأهداف في العملية التربوية:

- ‌الفصل الثاني: أزمة التربية الحديثة في ميدان الأهداف التربوية

- ‌الفصل الثالث: حاجة النظم والمؤسسات التربوية في الأقطار العربية، والإسلامية إلى أهداف تربوية إسلامية

- ‌الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع: معنى "العمل الصالح" في التربية الإسلامية

- ‌الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة للعمل الصالح

- ‌الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل

- ‌الفصل السابع: تربية الفرد على تعشق المثل الأعلى

- ‌أولا: معنى المثل الأعلى:

- ‌ثانيا: أهمية المثل الأعلى:

- ‌ثالثا مستويات المثل الأعلى:

- ‌رابعا: أنواع المثل الأعلى:

- ‌خامسًا: تجديد المثل الأعلى

- ‌سادسًا: مستوى المثل الأعلى، وقيم المعلمين والمتعلمين

- ‌الفصل الثامن: تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية، والكونية عند الفرد

- ‌أولًا: معنى الخبرة وأهميتها

- ‌ثانيا: الخبرات الكونية، والاجتماعية، والدينية

- ‌ثالثا: حدود الخبرة ودوائرها

- ‌رابعًا: الخبرات الكونية، والاجتماعية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة

- ‌خامسًا: الخبرات في التربية الحديثة المعاصرة

- ‌الفصل التاسع: تربية الإرادة عند الفرد

- ‌أولا: معنى الإرادة ووظيفتها

- ‌ثانيا: مستويات الإرادة

- ‌ثالثًا: مستوى الإرادة ونضجها

- ‌رابعا: مستوى الإرادة ومستوى المثل الأعلى

- ‌خامسًا: فقدان الإرادة وضعفها

- ‌الفصل العاشر: إحكام تنمية القدرة التسخيرية

- ‌أولا: معنى القدرة التسخيرية

- ‌ثانيا: درجة القدرة التسخيرية، وحدود الخبرة المربية

- ‌ثالثا: مستويات القدرة التسخيرية

- ‌رابعا: أهمية تنمية القدرات التسخيرية

- ‌الفصل الحادي عشر: إحكام توازن الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية في تربية الفرد

- ‌الفصل الثاني عشر: مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة

- ‌أولا: تضييق مفهوم العمل الصالح وحصره بالإنتاج المادي

- ‌ثانيًا: تدني مستوى "المثل الأعلى" إلى مستوى -تلبية حاجات الجسد البشري

- ‌ثالثًا: حصر الإرادة في مستوى الرغبات والشهوات

- ‌رابعًا: حصر الخبرات بالكونية، والاجتماعية دون الدينية والأخلاقية

- ‌خامسا: حصر القدرات بالعقلية والجسدية دون الأخلاقية

- ‌الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية

- ‌الباب الثالث: إخراج الأمة المسلمة

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة

- ‌الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها

- ‌الفصل السادس عشر: أهمية إخراج الأمة المسلمة

- ‌الباب الرابع: مكونات الأمة المسلمة

- ‌مدخل

- ‌الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون

- ‌أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة

- ‌ثانيا: أهمية الهوية والجنسية والثقافة الإيمانية في العالم المعاصر

- ‌ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في الهوية والجنسية والثقافة

- ‌الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني الهجرة والمهجر

- ‌معنى الهجرة

- ‌أهمية الهجرة:

- ‌دور التربية في بلورة عنصر الهجرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: العنصر الثالث عنصر الجهاد والرسالة

- ‌معنى الجهاد

- ‌مظاهر الجهاد:

- ‌معنى الرسالة:

- ‌أهمية الرسالة في وجود الأمة:

- ‌دور التربية في تعزيز الرسالة:

- ‌الفصل العشرون: العنصر الرابع الإيواء

- ‌معنى الإيواء

- ‌مظاهر الإيواء:

- ‌أهمية الإيواء:

- ‌مسئولية التربية إزاء عنصر الإيواء:

- ‌الفصل الحادي والعشرون: العنصر الخامس النصرة

- ‌معنى النصرة

- ‌مظاهر النصرة:

- ‌الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء

- ‌معنى الولاية

- ‌درجات الولاية الإيمانية:

- ‌درجات ولاية غير المؤمنين:

- ‌التربية ورباط الولاية:

- ‌الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث

- ‌سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية وعلم النفس الإنساني

- ‌ سلم الحاجات الإنسانية بين التطبيقات الإسلامية، والتطبيقات التي يوجه إليها علم النفس الحديث:

- ‌الباب الخامس: صحة الأمة ومرضها وموتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى مرحلة صحة الأمة وعافيتها مرحلة الدوران في فلك الأفكار

- ‌دوران الأشخاص والأشياء في فلك أفكار الرسالة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الخامس والعشرون: مرحلة مرض الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشخاص

- ‌مدخل

- ‌الطور الأول: طور الولاء للقوم

- ‌الطور الثاني: طور الولاء للقبيلة ونظرائها "كالطائفة أو الحزب أو الإقليم

- ‌الطور الثالث: طور الولاء للأسرة

- ‌الطور الرابع: طور ولاء الفرد لنفسه

- ‌الفصل السادس والعشرون: مرحلة وفاة الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشياء

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أعراض الأمة الميتة

- ‌ثانيا: إعلان الوفاة وإجراءات الدفن

- ‌الفصل السابع والعشرون: مصير الأمة المتوفاة

- ‌الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة

- ‌ملاحظات حول مفهوم الأمة المسلمة

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الماضي

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الحاضر

- ‌ ملاحظات حول مراحل صحة الأمة ومرضها ووفاتها:

- ‌الفصل التاسع والعشرون: مشكلة التناقض بين إعداد الفريد وإخراج الأمة في أهداف التربية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌ أصحاب الرأي الناقد "نظرية التناقض بين الأهداف

- ‌ أصحاب "نظرية التآمر الطبقي في التربية

- ‌الباب السادس: تنمية الإيمان بوحدة البشرية والتآلف بين بني الإنسان

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثلاثون: ضرورة التألف الإنساني كهدف من أهداف التربية المعاصرة

- ‌الفصل الحادي والثلاثون: الوحدة الإنسانية ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة

- ‌الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic

- ‌الفصل الثاني والثلاثون: التربية الإسلامية ووحدة الجنس البشري

- ‌الأصول العقدية والاجتماعي لوحدة الجنس البشري

- ‌ الأساليب والوسائل العملية لتحقيق الوحدة الإنسانية:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون: التناقضات القائمة بين مفاهيم التربية العالمية الإسلامية والتطبيقات الإقليمية الجارية في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الأول عالمية الإسلام في مواجهة الجنسيات الإقليمية والعصبيات المحلية التي يقوم عليها المجتمعات الحديثة في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الثاني: الهجرة والسير في الأرض في مواجهة قيود السفر والتنقل

- ‌التناقض الثالث، الأمن الإسلامي في مواجهة الصراعات الإقليمية

- ‌التناقض الرابع، الحاجة لتكافل المسلمين في مواجهة قوانين الإقامة والعمل

- ‌التناقض الخامس، مكانة الإنسان واحترامه في مواجهة الاعتداء على حرماته، والاستهانة بكرامته

- ‌الفصل الرابع والثلاثون: توصيات

- ‌أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌ثانيا: توصيات تتعلق بإخراج الأمة المسلمة:

- ‌المصارد والمراجع

الفصل: ‌أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة

‌الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون

‌أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة

الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون

لا يهدف البحث هنا إلى استعراض -الأفراد المؤمنين- كفئة تحمل "معتقدات" معينة عن الخالق والمنشأ، والحياة والمصير كما هو في مقررات العقيدة في المعاهد والكليات الشرعية. وإنما الهدف هو تقديم الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة المسلمة الملائمة للطور الحاضر: طور العالمية الذي جاءت الرسالة الإسلامية على أبوابه لتزود أهله بالقيم، وشبكة العلاقات الاجتماعية التي تساعد على بقاء النوع البشري ورقيه.

وانطلاقا من هذا الهدف يركز البحث على ثلاثة موضوعات: الأول، أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة. والثاني، أهمية "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة" الإيمانية في العالم المعاصر. والثالث، دور التربية في بلورة محتوى الثقافة الإيمانية وتنشئة إنسان التربية الإسلامية عليها.

أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة

تبدو أهمية -الأفراد المؤمنين- في أن هذا النوع من البشر هو الذي يحقق للأمة التوازن الاجتماعي والصحة النفسية. ذلك إن طبيعة الإنسان -كما يعرضها القرآن الكريم، ويثبت ذلك ممارسات الإنسان على الأرض- تشير إلى تكوينه النفسي شبيه بتكوينه الجسدي، أي يتكون من عناصر تتحد حسب نسب معينة، وتفرز تركيبا معينا يمثل حالة الصحة، فإذا اضطربت نسب هذا التركيب ارتفاعا أو هبوطا دخل حالة المرض. والحالات التي يمر بها التكوين النفسي للإنسان هي حالات: الوسطية، والطغيان، والهوان، وتمثل الحالة الأولى مظهر الصحة الذي يضمن للإنسان السلام،

ص: 213

بينما تمثل الحالتان الثانية والثالثة مظهر المرض الذي يهدد سلامة الإنسان نفسه. وإلى هذه القابلية المرضية يشير قوله تعالى:

{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .

والإيمان بالله -بمفهومه الإسلامي- هو العامل الحاسم في تقرير حالات الصحة أو المرض المشار إليها. إذ إن إحساس الإنسان بالمسئولية أمام الله يبقيه في منزلة -الوسطية- فيمنعه من "الطغيان"، وتجاوز الحدود والاعتداء على وجود الآخرين إذا كان في حالة القوة والغنى، ويقيه من "الهوان" والسكوت على استباحة الطاغين لحرماته إذا كان في حالة الضعف والفقر.

فإذا غاب -الإيمان بالله- من وجود الإنسان تذبذب بين مرضي الطغيان والهوان، وتراءى له -عند المرض الأول- أنه مستغن بنفسه لا حاجة له لغيره، وأنه قادر على الإمساك بسنن الوجود وأحداثه وضربه الفرح، والفخر والبطر وادعى القدرة والعلم. أما في حالة -المرض الثاني- فإن الإنسان يصاب بالكفر واليأس والهبوط عن المنزلة الإنسانية بين المخلوقات. ويتكرر الحديث الإلهي عن حالات المرض هذه ومضاعفاتها، من ذلك قوله تعالى:

- {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9، 10] .

- {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] .

- {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا} [الإسراء: 83] .

ص: 214

- {فَإِذَا مَسَّ الْإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] .

- {كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] .

- {قُتِلَ الْإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] .

- {إِنَّ الْإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] .

ولقد أثبت تاريخ الإنسان على الأرض هذه التقريرات القرآنية، فالأمم التي تكونت من أفراد ينقصهم عنصر الإيمان ضربتها المضاعفات المرضية المشار إليها. ففي حالة القوة والغنى انتشر بينها سرطان الطغيان وأفرز مضاعفات: عنصرية الدم الأزرق الملوكي، والرجل الأبيض، وشعب الله المختار، والطبقية الهندية، والعالم المتقدم، والارستقراطية، والسادة، والنازية، والفاشستية، والدارونية الاجتماعية، والاستعمار.

أما في حالة الضعف والفقر، فقد انتشر سرطان الاستضعاف والهوان، وأفرز مضاعفات: البرابرة، والعالم المتخلف، والبروليتاريا العمالية، والعبيد والرقيق، والرجل الملون، والشودرا المنبوذين، والعائلة الوضيعة،

وهكذا.

وظهرت لكل حالة مؤسساتها ونواديها، وثقافاتها المزودجة المتناقضة، والإنسان في كل الحالتين خاسر مهدد البقاء، محروم الحب والاطمئنان، إلا في الفترات التي تسلح -خلالها- بالإيمان بالله، وعمل بهذا الإيمان، وتواصى بالحفاظ عليه، والصبر على تكاليفه، ومجابهة الأخطار التي تهدده. وإلى هذه الفترات يشير قوله تعالى:

{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .

ص: 215

ولكن الإيمان بالله لا يمد الإنسان بعافية "الوسطية"، ويقيه من مرضي "الطغيان" و"الهوان" إلا إذا استمد محتواه من الاجتماع البشري، وتجسدت تطبيقاته في قلب الاجتماع الإنساني. وأبرز هذه التطبيقات هي:

بلورة "هوية" الإنسان الحقيقية.

ومنحه "جنسية" إيمانية واحدة.

وتزويده بـ"ثقافة" واحدة ذات مؤسسات واحدة.

أما عن بلورة "هوية" الإنسان الأصلية فإن -آيات الله في الكتاب- تمد العاملين في مجال التربية بإطار عام لهذه الهوية يبين أن الإنسان مفطور على الصلاح والخير. ولكن فطرته هذه رقيقة ضعيفة يضربها المرض فيفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكن التربية الإيمانية تحصنه من قابلية المرض ومضاعفاته في الإفساد والشر.

ولقد عانى علم النفس الحديث كثيرًا حتى استشرف هذه الحقيقة عن طبيعة الإنسان، وهو استشراف ما زال في مراحل الحديث النظري، ولما يأخذ طريقة إلى ميادين التطبيق العملي في التربية والسياسة، والاجتماع والاقتصاد. ولقد قام -أبراهام ماسلو Abraham Maslow- رائد علم النفس الإنساني بأبحاث واسعة في ميدان البحث في الطبيعة الإنسانية، وخلص إلى تعديلات كبيرة في معارف علم النفس عن الإنسان، وانتهى إلى الإطار الذي يرسمه القرآن في هذا المجال. ومما قاله في هذا الشأن:

"إن غلطة فرويد Frued الكبيرة، والتي نحاول تصحيحها الآن، هي إنه اعتقد أن العقل الباطن مجرد شر غير مرغوب به. ولكن العقل الباطني يحمل معه أيضا جذور الإبداع ومتع السعادة، والخير، وقواعد الأخلاق، والقيم الإنسانية، فنحن الآن نعلم أن هناك عقلًا باطنيا صحيحا وسليما مثلما إن هناك عقلا باطني سيئا وسقيما. وتقوم مدارس علم النفس الحديثة بدراسة هذا بطريقة كاملة، كما إن المعالجين النفسيين بدأوا يضعون هذا

ص: 216

المفهوم موضع التطبيق

"1.

ويحدد -ماسلو- الإطار الحديث الذي توصل إليه علم النفس عن الطبيعة الإنسانية في الخطوط العريضة التالية:

- في داخل كل فرد طبيعة بيولوجية أساسية هي إلى درجة معينة طبيعية وجوهرية، وهي غير قابلة للتغير.

- كل طبيعة داخلية هي جزء متميز في كل فرد من ناحية، ومن ناحية أخرى هي مشتركة في الجنس الإنساني كله.

- يمكن دراسة هذه الطبيعة علميا، واكتشافها والتعرف عليها.

- لا تبدو هذه الطبيعة الإنسانية شريرة بالأصل، وإنما الحاجات الأساسية لها والعواطف الإنسانية الأساسية، والطاقات الإنسانية الأساسية هي بالأصل محايدة وإيجابية وخيرة. أما النزعة للتخريب و"السادية" والقسوة والحقد وأمثال ذلك، فيبدو أنها ليست أساسية، وإنما هي ردود فعل عنيفة ضد الإحباطات والفشل في تحقيق الحاجات الأساسية.

- بما إن هذه الطبيعة الإنسانية الداخلية محايدة، وخيرة فمن الأفضل استخراجها وتشجيعها أكثر من كبتها والضغط عليها، وإذا سمح لها أن توجه حياتنا فسوف نعيش أصحاء ومنتجين وسعداء.

- وإذا تعرض جوهر الإنسان هذا للضغط أو الرفض فسوف يعتريه المرض بطريقة واضحة أحيانا، وبطرق ملتوية أحيانا أخرى، وأحيانا في الحال، وأحيانا فيما بعد.

- هذه الطبيعة الإنسانية ليست قوية وصلبة، وليست معصومة من الخطأ وإنما هي ضعيفة ورقيقة، ومن السهل أن تتغلب عليها العادة والضغط الثقافي والاتجاهات الخاطئة2.

1 Abraham Maslow، The Farther Reaches of Human Nature، P. 167.

2 Abraham Maslow، Toward a Psychology of Being، PP. 3-4.

ص: 217

ولقد أثبت تاريخ الإنسان على الأرض إن هذه الطبيعة الخيرة في الإنسان لا يستخرجها إلا الإيمان بالله، وما يقتضيه هذا الإيمان من أعمال وتطبيقات.

وأما عن "الجنسية" فالقرآن واضح وصريح في اشتقاق جنسية الإنسان من "الأفكار" التي يدور في فلكها. فالدين يدورون في فلك -الأفكار- الرسالة الإسلامية أسماهم "المؤمنين"، والذين يكفرون -أي يحجبون، ويخفون- أفكار الرسالة ويقفون عند "أفكار" خاطئة تقتصر على معالجة الرغبات العاجلة في محطة -الحياة الدنيا- يطلق عليهم اسم "الكافرين"، والذين ينفقون "الأفكار" من أجل تعزيز ولاءاتهم لـ"الأشخاص" و"الأشياء" يطلق عليهم اسم "المنافقين".

والنموذج الأول -نموذج المؤمنين- هو الذي تشتق "جنسية" الإنسان المسلم منه، وتتطلع التربية الإسلامية إلى تنشئته. ويشدد القرآن الكريم على هذه الجنسية، ويربط بينها وبين الغاية من إخراج الأمة المسلمة والوظيفة التي أخرجت من أجلها. من ذلك قوله تعالى:

{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] .

ويلحق بـ"جنسية" الإنسان المؤمن "طبقته" داخل الأمة المسلمة. وتقرر هذه الطبقة طبقا لدرجة -اتقائه- من الإصابة بمرض الطغيان أو الهوان، وإلى هذا المقياس يشير قوله تعالى:

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .

وبهذا المقياس تحددت في مجتمع النبوة طبقات الأمة المسلمة، فظهرت طبقة "المهاجرين" و"طبقة الأنصار" و"طبقة الطلقاء" و"طبقة

ص: 218

المنافقين". وهذا مقياس لا اعتبار فيه لعامل القوة الذي يدور في فلك "الأشخاص"، ولا لعامل الثروة الذي يدور في فلك "الأشياء"، وإنما يقوم على أساس اتقاء مرضي الطغيان، والهوان الذي يدور في فلك "أفكار" الرسالة الإسلامية".

ولقد أثبت تاريخ الحضارة الإسلامية أنه طالما ظلت "جنسية" الإنسان المسلم تستمد من "هو سماكم المسلمين"، فإن الأمة المسلمة ظلت تعيش لحمل الرسالة إلى الناس في الخارج، وظلت "الطبقة العليا" مفتوحة لكل من "اتقى" مرضي الطغيان، والهوان مهما كان أصله ولونه وغناه أو فقره. وحين تحولت لتشتق "الجنسية" من الولاء لـ"أشخاص" الحاكمين و"أشيائهم" و"أقاليمهم" توقفت عن حمل الرسالة، واشتغلت بغيرها من أشياء الدنيا، ومالكي هذه الأشياء وظهر فيها الأشراف والموالي والسادة، والمستخدمين والممالك.

وأما عن "ثقافة" الإنسان المؤمن فهي تعني -هنا: القيم ونظم الحياة، والإدارة والعادات والتقاليد، والأخلاق، والفنون التي تجسد الإيمان في تطبيقات عملية تميز حياة المؤمنين عما سواها، وتحتل التفصيلات المتعلقة بهذه الثقافة جزءا كبيرا من القرآن الكريم. من ذلك قوله تعالى:

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1-11] .

ومنها قوله تعالى:

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا

ص: 219

سَلامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 63-76] .

الحديث النبوي وتطبيقاته السنة يحددان للثقافة، والقيم الإسلامية قوائم سلوكية تصل إلى بضع وستين شعبة أو بضع وسبعين تتكون منها مجتمعة "ثقافة" إيمانية فعالة توجه النشاطات، والممارسات وتقيم شبكة علاقات اجتماعية تبلغ بالأمة المسلمة مرتبة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى1. كذلك قام لهذه "الثقافة" الإيمانية حدود مميزة منعتها من التداخل مع "الجنسيات"، و"الثقافات" المستمدة من الانتماءات العرقية والإقليمية والمصالح المادية. والتوجيهات القرآنية في هذا الشأن كثيرة صارمة منها قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا

1 للاطلاع على شعب الإيمان راجع كتاب -شعب الإيمان- للبيهقي. أو كتاب -الإيمان- لابن مندة.

ص: 220