المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها - أهداف التربية الإسلامية

[ماجد عرسان الكيلاني]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب:

- ‌الباب الأول: مقدمة أهمية البحث في أهداف التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: دور الأهداف في العملية التربوية:

- ‌الفصل الثاني: أزمة التربية الحديثة في ميدان الأهداف التربوية

- ‌الفصل الثالث: حاجة النظم والمؤسسات التربوية في الأقطار العربية، والإسلامية إلى أهداف تربوية إسلامية

- ‌الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع: معنى "العمل الصالح" في التربية الإسلامية

- ‌الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة للعمل الصالح

- ‌الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل

- ‌الفصل السابع: تربية الفرد على تعشق المثل الأعلى

- ‌أولا: معنى المثل الأعلى:

- ‌ثانيا: أهمية المثل الأعلى:

- ‌ثالثا مستويات المثل الأعلى:

- ‌رابعا: أنواع المثل الأعلى:

- ‌خامسًا: تجديد المثل الأعلى

- ‌سادسًا: مستوى المثل الأعلى، وقيم المعلمين والمتعلمين

- ‌الفصل الثامن: تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية، والكونية عند الفرد

- ‌أولًا: معنى الخبرة وأهميتها

- ‌ثانيا: الخبرات الكونية، والاجتماعية، والدينية

- ‌ثالثا: حدود الخبرة ودوائرها

- ‌رابعًا: الخبرات الكونية، والاجتماعية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة

- ‌خامسًا: الخبرات في التربية الحديثة المعاصرة

- ‌الفصل التاسع: تربية الإرادة عند الفرد

- ‌أولا: معنى الإرادة ووظيفتها

- ‌ثانيا: مستويات الإرادة

- ‌ثالثًا: مستوى الإرادة ونضجها

- ‌رابعا: مستوى الإرادة ومستوى المثل الأعلى

- ‌خامسًا: فقدان الإرادة وضعفها

- ‌الفصل العاشر: إحكام تنمية القدرة التسخيرية

- ‌أولا: معنى القدرة التسخيرية

- ‌ثانيا: درجة القدرة التسخيرية، وحدود الخبرة المربية

- ‌ثالثا: مستويات القدرة التسخيرية

- ‌رابعا: أهمية تنمية القدرات التسخيرية

- ‌الفصل الحادي عشر: إحكام توازن الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية في تربية الفرد

- ‌الفصل الثاني عشر: مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة

- ‌أولا: تضييق مفهوم العمل الصالح وحصره بالإنتاج المادي

- ‌ثانيًا: تدني مستوى "المثل الأعلى" إلى مستوى -تلبية حاجات الجسد البشري

- ‌ثالثًا: حصر الإرادة في مستوى الرغبات والشهوات

- ‌رابعًا: حصر الخبرات بالكونية، والاجتماعية دون الدينية والأخلاقية

- ‌خامسا: حصر القدرات بالعقلية والجسدية دون الأخلاقية

- ‌الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية

- ‌الباب الثالث: إخراج الأمة المسلمة

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة

- ‌الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها

- ‌الفصل السادس عشر: أهمية إخراج الأمة المسلمة

- ‌الباب الرابع: مكونات الأمة المسلمة

- ‌مدخل

- ‌الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون

- ‌أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة

- ‌ثانيا: أهمية الهوية والجنسية والثقافة الإيمانية في العالم المعاصر

- ‌ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في الهوية والجنسية والثقافة

- ‌الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني الهجرة والمهجر

- ‌معنى الهجرة

- ‌أهمية الهجرة:

- ‌دور التربية في بلورة عنصر الهجرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: العنصر الثالث عنصر الجهاد والرسالة

- ‌معنى الجهاد

- ‌مظاهر الجهاد:

- ‌معنى الرسالة:

- ‌أهمية الرسالة في وجود الأمة:

- ‌دور التربية في تعزيز الرسالة:

- ‌الفصل العشرون: العنصر الرابع الإيواء

- ‌معنى الإيواء

- ‌مظاهر الإيواء:

- ‌أهمية الإيواء:

- ‌مسئولية التربية إزاء عنصر الإيواء:

- ‌الفصل الحادي والعشرون: العنصر الخامس النصرة

- ‌معنى النصرة

- ‌مظاهر النصرة:

- ‌الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء

- ‌معنى الولاية

- ‌درجات الولاية الإيمانية:

- ‌درجات ولاية غير المؤمنين:

- ‌التربية ورباط الولاية:

- ‌الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث

- ‌سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية وعلم النفس الإنساني

- ‌ سلم الحاجات الإنسانية بين التطبيقات الإسلامية، والتطبيقات التي يوجه إليها علم النفس الحديث:

- ‌الباب الخامس: صحة الأمة ومرضها وموتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى مرحلة صحة الأمة وعافيتها مرحلة الدوران في فلك الأفكار

- ‌دوران الأشخاص والأشياء في فلك أفكار الرسالة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الخامس والعشرون: مرحلة مرض الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشخاص

- ‌مدخل

- ‌الطور الأول: طور الولاء للقوم

- ‌الطور الثاني: طور الولاء للقبيلة ونظرائها "كالطائفة أو الحزب أو الإقليم

- ‌الطور الثالث: طور الولاء للأسرة

- ‌الطور الرابع: طور ولاء الفرد لنفسه

- ‌الفصل السادس والعشرون: مرحلة وفاة الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشياء

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أعراض الأمة الميتة

- ‌ثانيا: إعلان الوفاة وإجراءات الدفن

- ‌الفصل السابع والعشرون: مصير الأمة المتوفاة

- ‌الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة

- ‌ملاحظات حول مفهوم الأمة المسلمة

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الماضي

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الحاضر

- ‌ ملاحظات حول مراحل صحة الأمة ومرضها ووفاتها:

- ‌الفصل التاسع والعشرون: مشكلة التناقض بين إعداد الفريد وإخراج الأمة في أهداف التربية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌ أصحاب الرأي الناقد "نظرية التناقض بين الأهداف

- ‌ أصحاب "نظرية التآمر الطبقي في التربية

- ‌الباب السادس: تنمية الإيمان بوحدة البشرية والتآلف بين بني الإنسان

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثلاثون: ضرورة التألف الإنساني كهدف من أهداف التربية المعاصرة

- ‌الفصل الحادي والثلاثون: الوحدة الإنسانية ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة

- ‌الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic

- ‌الفصل الثاني والثلاثون: التربية الإسلامية ووحدة الجنس البشري

- ‌الأصول العقدية والاجتماعي لوحدة الجنس البشري

- ‌ الأساليب والوسائل العملية لتحقيق الوحدة الإنسانية:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون: التناقضات القائمة بين مفاهيم التربية العالمية الإسلامية والتطبيقات الإقليمية الجارية في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الأول عالمية الإسلام في مواجهة الجنسيات الإقليمية والعصبيات المحلية التي يقوم عليها المجتمعات الحديثة في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الثاني: الهجرة والسير في الأرض في مواجهة قيود السفر والتنقل

- ‌التناقض الثالث، الأمن الإسلامي في مواجهة الصراعات الإقليمية

- ‌التناقض الرابع، الحاجة لتكافل المسلمين في مواجهة قوانين الإقامة والعمل

- ‌التناقض الخامس، مكانة الإنسان واحترامه في مواجهة الاعتداء على حرماته، والاستهانة بكرامته

- ‌الفصل الرابع والثلاثون: توصيات

- ‌أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌ثانيا: توصيات تتعلق بإخراج الأمة المسلمة:

- ‌المصارد والمراجع

الفصل: ‌الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها

‌الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها

بدأ الإعداد لظاهرة "الأمة المسلمة" برسالة إبراهيم الذي وصفه القرآن الكريم {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] .

ولقد جاء مفهوم "الأمة الإسلامية" كحلقة في سلسلة الرسالات السماوية التي توازت مع تطور المجتمعات البشرية. فحين بدأ الاجتماع البشري بطور الأسرة جاءت الرسالة أسرية كرسالة آدم عليه السلام. وحين انتقل الناس إلى طور القبيلة والقرية جاءت الرسالات قبلية وقروية كرسالات صالح وهود. وحين انتقلت المجتمعات إلى طور -القوم- جاءت الرسلات قومية كرسالة نوح عليه السلام.

ومفهوم "القوم" هذا يقابله في اللغة الإنكليزية مصطلح People، وهو مفهوم دموي يستمد محتواه من روابط الدم حين بدأ الإنسان ينتقل من حياة التجوال الفردي إلى طور التجوال الأسري، والقبلي وتكونت نتيجة لذلك ظاهرة "القوم" في الطور الرعوي للبشرية.

أما مفهوم "الشعب" فيقابله في اللغة الإنكليزية مصطلح Natiom. وهو مفهوم جغرافي يستمد محتواه من الروابط الجغرافية حين بدأت القبائل، والأقوام تنتقل من طور الرعي إلى طور الزراعة، والاستقرار في رقعة الأرض التي تحددها قوة الأقوام المتجمعة.

وانتقال المجتمعات البشري من طور إلى طور كان يتسم لفترات طويلة جدا بالتناقض والاضطراب، والتمزق بين قيم ومفاهيم الطور السابق المنحدرة

ص: 187

من "الآباء" وبين قيم ومفاهيم الطور الجديد الذي يدلف إليه "الأبناء". ولذلك كان عمل الرسالات هو القضاء على التناقض والاضطراب، والتمزق المذكور ثم تسهيل الانتقال إلى الطور الجديد وتنظيمه.

ثم جاء طور "الأمة" حينما بدأت الحدود الإقليمية تتهدم، وبدأ انسياح الأقوام والشعوب بعضهم على بعض. ولكنه انسياح سلبي مدمر اتخذ طابع الغزو والعدوان على الأبدان والنفوس، والعقول والممتلكات كما تمثل في الفراعنة والأشوريين، والكلدانيين وغيرهم. فجاءت الرسالات الموازية لهذا الطور ابتداء من -إبراهيم الكلداني- بمفهوم "الأمة"، وهو مفهوم فكري -نفسي يستمد محتواه من روابط الفكر والعقيدة، ويتخطى روابط الدم والأرض السابقة.

ولقد سبق اختيار إبراهيم عليه السلام للبدء بالإعداد لإخراج الأمة المسلمة اختبار لقدرته على القيام بهذه المهمة، ومدى استعداده لتقديم تكاليفها ومتطلباتها. وإلى هذا الاختبار يشير القرآن الكريم بقوله تعالى:

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] .

والكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام هي الحوادث التي اختبره الله بواسطتها وهي:

أولا، استعداده للتضحية بنفسه.

والثانية، استعداده للهجرة والتخلي عن روابط الأسرة والدم والوطن.

والثالثة: استعداده لمحاربة العقائد القائمة ورموز الثقافة المعاصرة المتخلفة.

والرابعة، استعداده للتضحية بولده وأسرته.

وتشير الآيات القرآنية إلى أن إبراهيم عليه السلام اجتاز هذه

ص: 188

الاختبارات بنجاح وأنه استحق رتبة الإمامة للناس، وأنه سألها لذريته من بعده، فجاءه الجواب بالموافقة مع الاشتراط إلى أن هذه الإمامة عهد لا يناله الظالمون المقصرون من ذريته الذين لا يقومون بتكاليفها، ويفشلون باختباراتها.

ثم مضى إبراهيم مصحوبا بأبنائه وأسرته في التمهيد لإخراج "الأمة المسلمة"، فابتدأ بتحديد مواطنها، ومؤسساتها حيث اختار لها موطنا منطقة وسطا تقع في ملتقى المواصلات العالمية، وتفاعل الحضارات وهي منطقة تمتد من بلاد الشام عبر دلتا مصر والحجاز. كذلك أقام مؤسستين تربويتين: الأولى، للتربية والتزكية وهي الكعبة والمسجد الحرام، والثانية، للدعوة والنشر وهي المسجد الأقصى. ثم انقسمت الأسرة إلى جوار المسجدين ليقوم كل فريق بالإشراف على المهمة الموكلة إليه في منطقته، وإعداد الأجواء لفكرة "الأمة" الجديدة. وإلى هذا الإعداد الإبراهيمي كانت الإشارة القرآنية التالية:

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] .

ثم كانت الانطلاقة الأولى لإخراج "أمة الرسالة" برسالة موسى التي جرى التمهيد لها برحيل يوسف، وأسرة يعقوب إلى مصر وإشاعة جو من الثقافة الملائمة للأمة التي يراد إخراجها. وكان الخروج -أو الهجرة- بالمؤمنين بالرسالة الجديدة مرورا بشمالي منطقة المسجد الحرام، والتوجه إلى منطقة المسجد الأقصى لتطهير أرض "أمة الرسالة" التي رسم حدودها إبراهيم، ولبدء الدعوة والنشر فيها.

وكانت جماعة المهاجرين هذه تحمل في تشكليها صفة العالمية وتعدد الأجناس. وليس صحيحًا أنها اقتصرت على جنس واحد هو سلالة إسرائيل الدموية. فالقرآن يشير إلى أن أتباع موسى كان فيهم "رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه"، وأنه قال في اجتماع يرأسه فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ

ص: 189

يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} ، وأن فرعون رد على هذا الرجل:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 27-29] ويروي القرآن كذلك قصة السحرة -أو الإعلاميين عند فرعون- الذين، حين رأوا الآيات البينات، تحدوا فرعون حين هددهم بالصلب وتقطيع الأعضاء وقالوا له:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] .

ويذكر القرآن أيضًا أن دعوة موسى دخلت دوائر القصر الفرعوني حتى ضمت زوجة فرعون، التي ضحت بنعيم القصر ودعت الله أن يعوضها قصرًا بدله في الجنة.

وفي المقابل يروي القرآن الكريم إن عصابة فرعون التي عارضت دعوة موسى قد ضمت في قيادتها مترفا عاتيا من قوم موسى، ومن سلالة إسرائيل الدموية هي قارون الذي وقف مع فرعون وهامان صفا واحدا:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 23، 24] . ويضيف القرآن تفاصيل دقيقة عن قارون هذا فيقول: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} وإن كان لديه {مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} وإن قومه قالوا له حين أظهر البطر والطغيان: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} . فرد عليهم بصفاقة وصلف: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أي خبرة بأعمال التجارة والاستثمار، وأنه استمر في طغيانه حتى نزل به عقاب الله وخسفه، فدمرت قصوره وهلكت نفسه [القصص: 76-82] .

وإذا كان القرآن يسمي الخارجين مع موسى بني إسرائيل؛ فلأن المدلول القرآني لـ"بنو" و"آل" يعني أتباع المعتقد لا سلالة الدم كما ذكر ذلك الطبري

ص: 190

في تفسيره نقلا عن الصحابة والتابعين الذين قالوا: إن آل الرجل هم أتباعه، وقومه هم من على دينه. ونقل الطبري عن ابن عباس إنه قال: في الآية هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران وآل ياسين وآل محمد. يقول الله عز وجل:"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"1.

ولقد ذكر القرآن الكريم المنهج الذي زود الله به المهاجرين مع موسى، ليعيشوا طبقا لتوجياته في -منطقة الأمة المسلمة. من ذلك قوله تعالى:

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58] .

والدخول سجدا إشارة إلى الثقافة والممارسات، ونمط العيش الذي يجب أن يكونوا عليه في أرض "أمة الرسالة" -أرض ما حول الأقصى، وهي أن تكون الممارسات كلها مستوحاة من معاني السجود. وهو هنا طاعة الله والتواضع للخلق. أما {وَقُولُوا حِطَّةٌ} فهو إشارة إلى الثقافة، والقيم المتجددة التي تتميز بالنقد الذاتي -أو التوبة حسب التعبير القرآني- والاستعداد الدائم؛ لأن "تحط" الأمة عنها أغلال الموروثات الاجتماعية، وأصارها التي تعيق التكيف مع الشئون المتجددة، والخلق الجديد الذي تبرزه المشيئة الإلهية باستمرار. ولذلك قال الطبري في تفسيره - {وَقُولُوا حِطَّةٌ} - أي: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم وهو قول: لا إله إلا الله وتطبيقاتها. ومعنى {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} لا نؤاخذ الذين يجنبون طريق السجود إذا استغفروا. {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} : أي نزيد الذين يحسنون القيام بوظيفة -أمة الرسالة- نعمة واستقرارا.

ولكن آثار البيئة التي نشأ فيها أتباع موسى -بيئة الثقافة الفرعونية- فعلت فعلها في هذه الانطلاقة الأولى لأمة الرسالة. ومن هذه الآثار أن أتباع موسى حين كانوا في طريقهم لأرض أمة الرسالة تأثروا بالتراث الديني

1 الطبري، التفسيرن جـ2، ص234.

ص: 191

الفرعوني الذي كان يقوم على عبادة العجل "أبيس"1. كذلك تأثروا بأخلاق أهل الزراعة فحنوا إلى الراحة، وإلى تقاليد الطعام المصري من البقل والقثاء والبصل والثوم والعدس. وظهرت فيهم أيضا آثار بيئة الاستبداد الفرعوني، وما تفرزه في أخلاق المحكومين من ضعف الإرادة ونكوص عن التضحية وضجر من المسئولية.

ولكن أخطر هذه الآثار التي ظلوا يعانون منها حتى الوقت الحاضر هي تأثرهم بـ"العنصرية" الفرعونية وتطوير "عنصرية" خاصة بهم، وقفت حائلا بينهم وبين الخروج إلى روابط أخوة الرسالة التي يقتضيها الطور الجديد، ثم أبقتهم حبيسي روابط الدم التي تعود إلى الأطوار الماضية بعد أن طلوها بطلاء ديني تحت اسم جديد هو "شعب الله المختار"، ولقد نتج عن ذلك إغلاق باب الانتماء إلى الأمة الجديدة أمام غير ذرياتهم، وتعطيل وظيفة المؤسسات التربوية في الأرض المباركة.

ثم جاء عيسى عليه السلام لإصلاح ما أصاب نواة الأمة الوليدة، ولإخراجها من مفهوم "القوم People" إلى مفهوم "عالمية أمة الرسالة" فاستخلص نفر من الحواريين الذين تخلوا عن مفهوم "شعب الله المختار"، ومضوا في الدعوة إلى -العالمية- بشكل أفراد لا بشكل "أمة". أما بقية الجماعات الإسرائيلية فقد ظلت حبيسة الأغلال، والآثار الاجتماعية والفكرية التي ورثتها عن بيئة الفراعنة وطورها الأحبار الإسرائيليون بعد أن البسوها لباسا توارثيا. ولذلك ناصبوا دعوة عيسى عليه السلام العداء، وتسببوا في مزيد من تمزيق "الأمة" الوليد وانقسامها إلى قسمين رئيسيين أطلقوا عليهما اسم "اليهود"، واسم "النصارى".

وكما فعلت آثار البيئة الفرعونية فعلها في دعوة موسى، كذلك فعلت

1 د. أحمد فخري، مصر الفرعونية، ط3 "القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1971"، ص433.

ص: 192

آثار البيئة الرومانية فعلها في -النصرانية. وأخطر هذه الآثار ما قام به مترفو المجتمعات الرومانية من تحويل محور الدعوة الجديدة من الولاء لـ"الرسالة" إلى الولاء لـ"شخص" الذي جاء بالرسالة بعد أن أسبغوا عليه الصفات التي كان الرومان يسبغونها على آلهتهم التثليثية، وبذلك أخرجوا الدعوة الجديدة من ميدان الاجتماع البشري ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى هامش تصورات غيبية لا صلة لها بالوجود القائم.

أما الفرع الثاني من أسرة إبراهيم -فرع إسماعيل- فقد عملت بهم أيضا عوامل البيئة المحلية القاحلة، فتحولوا من "أمة رسالة وتربية" تضحي بالنفس والمال لتربية الوافدين، وتزكيتهم إلى "أمة سدنة" حولت الرسالة إلى نوع من الاستثمار السياحي الذي يدر عليهم المال، ويوفر لهم الجاه.

ثم كانت الانطلاقة العملية الثانية التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم في الفرع الثاني من أسرة إبراهيم، والمقيمة في منطقة المسجد الحرام. فبلورت مفهوم "الأمة"، وأصبح الشعار المميز لرسالتها، ولما يزل مصطلحا متميزا لا يقابله في اللغات الأخرى مصطلح مواز. كذلك أصبح اسم "الأمة" مصدرا اشتقت منه أسماء مؤسسات الرسالة الجديدة، والعاملين فيها والممارسات الجارية مثل:"الإمامة" و"الإمام" للصلاة أو الحكم، و"آمين البيت الحرام" أي الحج. و"آمين" أي مقتدين. لذلك كانت ترجمة هذا المصطلح تشويها لمحتواه ومن الواجب أن يبقى كما هو في أصله العربي في أية ترجمة كانت.

ولقد كان جوهر هذه الانطلاقة الجديدة تصحيح الاعوجاج الذي لحق بالمنهج الذي مهد له إبراهيم وبدأه موسى وعيسى، ثم استئناف المسيرة المستقيمة لهذا المنهج نحو غاياته العليا. ولذلك ركزت توجيهات الرسالة الجديدة على ما يلي:

1-

إصلاح ما انحرف من منهاج إبراهيم عليه السلام. وذلك بدعوة فرع ذرية إسماعيل من قريش، وفروعها إلى التخلص من طابع "أمة السدنة"

ص: 193

ونوزاع التكسب بالمقدسات، وأما أدخلته حمية العصبيات القبلية من مظاهر الشرك والوثنية. ثم دعوة فرع ذرية إسحاق من اليهود، والنصارى للتخلص من طابع "شعب الله المختار"، وما رافقه من تشويهات لأصول العقيدة والرسالة لصالح المترفين، وأرباب الجاه والسلطان والكهانة. ثم دعوة الفريقين للاجتماع في صفوف "أمة الرسالة" الجديدة لاستئناف المهمة الأساسية مهمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله بين الناس كافة.

2-

القضاء على الانشقاقات التي حدثت في ذرية إبراهيم، وتسببت في تقسيم نواة "الأمة المسلمة" إلى يهود ونصارى، وما تلا هذا الانشقاق من انشقاقات أخرى تتنافى مع الغاية الكبرى التي بدأها -إبراهيم- لإخراج "أمة الرسالة" التي تعمل على جمع البشرية كلها على منهاج واحد في الفكر والاجتماع فتتوثق روابطها، ويرقى نوعها وتعود إلى سابق عهدها أمة واحدة وربا واحدا.

ولتحقيق هذا الهدف تكررت الدعوة في القرآن إلى أهل الكتاب للإقبال إلى -كلمة سواء- أي منهج موحد مستقيم أساسه "ملة إبراهيم الحنيف":

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 64-68] .

ص: 194

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ، قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 135-141] .

3-

اتخاذ الخطوات العملية التي تسهل هذه الوحدة المنشودة بين الانشقاقات التي أصابت مفهوم الرسالة بعد إبراهيم عليه السلام. ومن أجل هذه الوحدة كانت قبلة الصلاة نحو أول بيت بناه إبراهيم، وكان الحج إليه ليكون مؤسسة للتربية العالمية، وكانت حادثة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لإعادة الربط بين رسالة المسجدين، وتكامل دورهما في التربية والدعوة والتعليم.

ولترسيخ هذه المعاني كان الحديث عن تجربة قوم موسى في منطقة المسجد الأقصى -في مطلع سورة الإسراء- ليكون هذا الحديث تحذيرا لـ"أمة الرسالة" الجديدة، لئلا تقترف ما اقترفته سابقتها من -أمة موسى- التي أغفلت عن الوظيفة الأساسية للمقيمين حول المسجد الأقصى، وانحرفت لاستغلال بركات المنطقة الجغرافية والطبيعية في الترف، والشهوات والمفاسد والصراعات، وبذلك استحقوا أن يبعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار ودمروا مؤسسات اللهو الدنيوي التي ألهتهم عن وظيفة

ص: 195

الدعوة وتبليغ الرسالة. وهذا ما فهمه أبو بكر الصديق حين حذر جيوش الفتح الإسلامي، التي وجهها إلى منطقة ما حول الأقصى من الانحراف عن أهداف الرسالة الإسلامية فقال:

"إنكم تقدمون الشام وهي أرض شبيعة، وإن الله ممكنكم حتى تتخذوا فيها مساجد، فلا يعلم أنكم إنما تأتونها تلهيا، وإياكم والأشر"1.

4-

تقديم التفاصيل الكاملة لما يجب أن يكون عليه تنظيم -أمة الرسالة- ومؤسساتها، وقيمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ونشاطاتها المختلفة في الداخل، ثم تنظيم علاقاتها بالجماعات البشرية في الخارج.

أثر ثقافة العصبية العربية في تشويه مفهوم -الأمة- بعد العصر الراشدي:

من الإنصاف أن نقول: أنه كما كان للبيئة المصرية أثرها في انطلاقة موسى عليه السلام، فإن كان للبيئة العربية أثرها في انطلاقة محمد صلى الله عليه وسلم. وهو أثر له جانبان: جانب إيجابي، وآخر سلبي.

أما عن الجانب الإيجابي، فإن البيئة العربية سهلت نجاح الرسول -صلى الله عليه

وسلم- في تربية الإنسان المسلم على تعشق المثل الأعلى، والتضحية في سبيله.

ذلك أنها خلت من كثير مما كان في البيئة المصرية من ركام العقائد والثقافة،

والقيم التي كبلت أفهام أتباع موسى عليه السلام، ولم يكن في الجزيرة العربية استقرار زراعي، وازدهار اقتصادي مما يفرز حياة الترف والتثقاقل إلى الأرض، وإنما فرضت البيئة الصحراوية القاسية نوعا من حياة الطوارئ والاستعداد الدائم للتحضية أمام الصعوبات، والأخطار الطبيعية والبشرية القائمة.

1 عبد الله بن المبارك المروزي، كتاب الزهد والرقائق، تحقيق عبد الرحمن الأعظمي، "بيروت: مؤسسة الرسالة، بلا تاريخ" ص141.

شبيعة: مشبعة بالخيرات. الأشر: البطر.

ص: 196

أما عن الجانب السلبي، فإن قيم العصبية العربية ومحاور الولاء التي تفرزها لم تكن تصلح بحال للانتقال مع المسلم الجديد إلى المجتمع العالمي الجديد؛ لأن هذه القيم والولاءات لا تسمح أبدًا بتوسيع شبكة العلاقات الاجتماعية إلى ما وراء دائرة الولاء القبلي، وتعتبر أولئك الذين يقيمون خارج الدائرة القبلية "أجانب" لا وراء يربطهم بمجتمع القبيلة. ولذلك شكلت هذه القيم، والولاءات العصبية عقبات ضخمة أمام تطبيق روابط الدائرة العالمية، التي اتصف بها المجتمع الإسلامي الجديد، وأثرت تأثيرا سلبيًّا في مستقبل الأمة المسلمة، وحالت دون تطورها ونضج مؤسساتها. وحين كانت قيم العصبية القبلية هذه تضطر إلى التعايش مع قيم الإسلام العالمية كانت تركز على "الأشكال" دون "الأعمال"، وعلى الشعائر الفردية دون المظهر الاجتماعي للعبادة، و"تنفق" القيم الإسلامية لدعم ولاءاتها العصبية. ولذلك وصف القرآن الكريم أصحاب هذه القيم العصبية بأنه:{أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، أي هم غير مؤهلين لـ"فقه" القيم التي أنزلها الله، وإفراز النظم اللازمة للطور العالمي الذي وقفت البشرية على أعتابه، وجاءت قيم الإسلام لترشدهم إلى عبوره.

ولذلك كان التحدي الأكبر الذي واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، وشروعه في بناء أمة عالمية يتعايش فيها مختلف الأجناس، والأعراق هو -قيم العصبية القبلية- ولقد اتخذت جهوده لمجابهة هذا التحدي مظاهر عدة منها:

المظهر الأول، هو تزكية أعضاء الأمة المسلمة الجديدة من قيم العصبية القبلية باعتبارها قيما نتنة بالية لا تصلح لهم بحال، وتنظيم علاقاتهم طبقا لقيم التقوى الملائمة لطور العالمية الجديد.

والثاني، هو الجهاد ضد رءوس العصبية القبلية، وحماة ثقافتها ورموزها الصنمية.

ص: 197

والثالث، هو التحذير من الردة إلى قيم العصبية القبلية، وإدراج هذه الردة في قائمة الكبائر المخلدة في النار1.

والرابع، التنبيه إلى دور قيم العصبية في فن المستقبل وما ستجره على الأمة المسلمة من كوارث ومذابح ودمار، وهو ما تقدم تفصيلاته الأحاديث النبوية الواردة تحت -كتاب الفتن- في مصنفات الحديث المختلفة.

ولذلك كانت تزكية المجتمع المدني من قيم العصبية القبلية، والانتقال به إلى -قيم التقوى- العالمية محورا أساسيا من محاور التربية في صدر الإسلام. ولقد ظل التحذير من قيم العصبية أحد العناصر الرئيسية في منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن لخص جهاده ضد الجاهلية العربية في خطبة فتح مكة فقال:

"إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب"2.

ولكن "ثقافة" العصبية وقيمها عادت الإمساك بدفة المجتمع بعد الخلافة الراشدة: أي بعد انقضاء جيل الصحابة الذي رباه الرسول، الأمر الذي أدى إلى ظهور التناقض بين المبادئ الإسلامية الداعية إلى مساواة الشعوب والأجناس، وبين التطبيقات السياسية، والاجتماعية التي قسمت المسلمين إلى عرب وموالي، وفتحت باب الانقسامات في الأمة المسلمة

1 صحيح البخاري، باب الفتن. صحيح مسلم، باب الإمارة.

مسند أحمد، جـ1، ص409، 430.

سنن النسائي، كتاب البيعة، وكتاب الزينة.

راجع ص237 للاطلاع على نص الحديث الذي ورد فيه أن الكبائر سبع آخرها: "التعرب بعد الهجرة". وعند النسائي: "آكل الربا، وموكله، وكاتبه وشاهداه، -إذا علموا ذلك- والواشمة، والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد يوم القيامة". الجامع الصغير للسيوطي، رقم 13.

2 ابن هشام، السيرة، جـ4 "القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، بلا تاريخ"، ص41.

ص: 198

بنسبة التراجع الذي توالى من القيم الإسلامية العالمية إلى القيم الشعوبية والقبلية.

ولقد ابتدأت هذه الردة العصبية في الثقافة، والقيم ابتداء من إمساك الأمويين بقيادة الدولة الإسلامية، وحلول الملك محل الخلافة -كما يرى ابن تيمية1. ثم تولت مضاعفات هذه الردة حتى أفرغت مفهوم "الأمة" من محتواه الإسلامي وأحلت محله محتوى العصبيات القبلية، والشعوبية مما نال من وحدة الأمة المسلمة، وفتح أمامها أبواب الفتن والانقسامات المتتالية.

كذلك حالت هذه الردة للثقافة القبلية، والقيم العصبية دون تطور المؤسسات السياسية والإدارية، والتشريعية الملائمة لطور العالمية، فحالت دون رسوخ قيم الشورى، والقيادة الجماعية ومسئولية الحاكم أمام المحكومين، وأنعشت الحكم المطلق والملكية الاقتصادية المطلقة، والفردية والارتجال ولونت أشكال الإعلام، والممارسات السياسية على جميع المستويات.

ولقد كان لهذه الردة العصبية آثارها في الشكل الذي اتخذته مؤسسات التربية الإسلامية، إذ انحرفت هذه المؤسسات عن هدف "إخراج الأمة المسلمة" وتطويرها، والارتقاء بمفهومها، ومؤسساتها طبقات للحاجات والتحديات، وحل محل ذلك ظاهرتان: الأولى، عدم توجه مؤسسات التربية الإسلامية لتوليد العلوم، والمعارف اللازمة لتنظيم شبكة العلاقات الاجتماعية، وتطوير مؤسساتها بما يتفق مع الأصول الإسلامية في القرآن والسنة. وإنما زاغت بتأثير قيم العصبيات القبلية لتركز في مناهجها على "ثقافة" القبلية التي توجه للدوران في فلك "الأشخاص" الأقوياء، وتبرير ممارساتهم والإشادة بالمنجزات المنسوبة إليهم.

والظاهرة الثانية، تقلص وظيفة المؤسسات التربوية التي لا تدور في فلك الدولة لتقتصر على "تربية" فرد معطل الفاعلية ينسحب من تيار الحياة

1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب قتال أهل البغي، جـ35، ص19، 20.

ص: 199

الجارية، ويجسد صورة "الناسك السلبي" الذي يقف موقفا سلبيا من وقائع الاجتماع البشري الجارية حوله، ويظل طوال عمره يعاني من الظلم، والفاقة منتظرا الرحيل إلى العدل والنعيم الأخرويين!!

وكانت المحصلة لذلك كله هي حصر عمل المؤسسات التربوية، والعلمية في "فقه العبادات"، وتكرار نسخه واستظهاره جيلا بعد جيل مما أفرز آلاف المجلدات في "فقه الطهارة"، والحيض والنفاس والطلاق، والعدة بينما لم يزد "الفقه" المتعلق بـ"العلوم السياسية" و"فقه الاجتماع البشري" و"النظم الإدارية والتشريعية"، و"صلات الحاكم بالمحكوم" و"توزيع الثروات العامة" و"العمل الجماعي" عن أصابع اليدين. ومن أمثلتها -الأحكام السلطانية- للماوردي مع ما فيه من المآخذ، والانتقادات المتعلقة بمحتوياتها التي تبرر إطلاق أيدي أصحاب السلطان، وتعدد القيادات، والاستيلاء على القيادة والمراكز بالقوة وغير القوة.

ص: 200