الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي عشر: إحكام توازن الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية في تربية الفرد
من الضروري أن تتوازن الإرادات النبيلة العازمة مع القدرات التسخيرية في تربية الفرد، ومن خلال هذا التوازن يتولد "العمل الصالح" بالصورة التي مر عرضها في هذا البحث. ومعنى هذا أن تعمل التربية على تنمية الإرادات العازمة حتى درجة التضحية بالمال، والنفس ثم تعمل بنفس القدر من الجهد، والكفاءة لتنمية القدرات التسخيرية حتى درجة التسخير الكامل للإمكانات المادية، والبشرية المتوفرة.
ومن الخطورة البالغة أن تقصر تنمية إحدى الاثنتين عن الأخرى، فتركز التربية -مثلا- على تنمية الإرادات دون القدرات أو العكس، فلذلك آثاره المدمرة في حياة الأفراد والأمم، ولتوضيح ذلك نستعرض آثار القصور في تنمية القدرات التسخيرية، وآثار القصور في تنمية الإرادات النبيلة الجازمة كما هو حاصل في تطبيقات التربية المعاصرة في الشرق والغرب.
حين تغفل التربية -أو تجهل تنمية القدرات التسخيرية عند المتعلمين إلى المستوى اللازم، الذي تستدعيه حاجات العصر وخبراته في الوقت الذي تجد وتنجح في تنمية الإرادات العازمة النبيلة إلى درجة التضحية بالمال والنفس، فإن
الأفراد في كل عمل يمارسونه ينتهون إلى الفشل والإحباط. وهذه هي حالة
الأفراد الذين تخرجهم مؤسسات التربية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية ومثلها المؤسسات التربوية الموازية كالأحزاب، والجماعات والمساجد وبرامج الإعلام الديني والوطني. فجميع هذه المؤسسات تفصل تفصيلا كافيا في عرض محتويات المثل الأعلى -الديني والوطني، وتنمي
إرادات الأفراد إلى درجة التضحية بالمال والنفس. ولكنها تهمل -إهمالًا يكاد يكون كليا- الخبرات المربية والقدرات العقلية، اللذين ينتج عن تفاعلهما القدرات التسخيرية. ويكون من نتيجة هذا الإهمال قصور القدرات التسخيرية عن الإرادات العازمة، فيحدث الاضطراب في التفكير والعواطف، والمشاعر والسلوك وينشأ التخبط في إصدار الأحكام، واتخاذ القرارات وتنفيذها، وتتكرر مواقف الفشل والإحباط. وتكرار الفشل هذا له نتائج سلبية مدمرة تنعكس اتجاهات الأفراد والجماعات سواء.
فهو -أولًا- يؤدي إلى فقدان الثقة بالمثل الأعلى، فتضعف الإرادة العازمة النبيلة، وتقصر عن مستوى التضحية بالمال، والنفس ويتراجع الفرد إلى إرادات الحفاظ على الجسد أو النوع، ويقعد عن العمل العام، ويتوقف عن المشاركة في الجهاد. وهذه حال كثير من الأفراد والشعوب في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة. فكثير من الأفراد المشتغلين في المبادئ والقضايا الوطنية، والإسلامية انتهى بهم تكرار الفشل، والإحباط إلى التخلي عن هذه المبادئ والقضايا والانسحاب الجزئي أو الانسحاب الكلي، الانسحاب الجزئي للاشتغال بإرادات الطعام، والحفاظ على الجسد والذرية، أو الانسحاب الكلي من المجتمعات العربية، والإسلامية للانضمام إلى مجتمعات غير عربية ولا إسلامية. وهذه -أيضًا- حال كثير من الشعوب العربية والإسلامية التي عجزت قدراتها التسخيرية عن تلبية الحاجات الداخلية، ومواجهة التحديات الخارجية، وانتهت إلى تكرار الفشل والإحباط والهزيمة، فإنها -أيضا- انسحبت انسحابات جزئية لتنكفئ على أمورها الخاصة أو انسحابات كلية لتقطع انتماءاتها، أو تتخلى عن مسئولياتها إزاء القضايا المشتركة ثم تبحث عن انتماءات أخرى تشاركها إرادات البحث عن الطعام، والحفاظ على النوع.
والأثر -الثاني- هو أن كثيرا من الأفراد والجماعات ممن نمت إرادتهم، وقصرت عنها قدراتهم التسخيرية إذا واجهوا المشكلات، فإنهم
يعالجونها بما يشبه التهلكة والانتحار حيث لا يعرفون لمواجهة الأزمات، وحل المشكلات إلا طريقا واحدا هو طريق العنف الانتحاري بالقول والعمل، ويقترفون الحماقة ويجانبون الحكمة. وهذه هي الصفة الغالبة على الأفراد والجماعات، والهيئات الرسمية والشعبية والمنظمات الوطنية العاملة في ميادين البناء الداخلي، أو المقاومة للاحتلال الخارجي.
أما عن آثار القصور في ميادين الإرادات النبيلة العازمة، فإن الظاهرة البارزة لآثار هذا القصور هو فقدان الإنسان للسعادة، وفقدان لذة الاستمتاع بثمرات النجاح الذي توصله إليه القدرات التسخيرية.
وهذه هي حال التربية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار المتقدمة خاصة في أوربا وأمريكا. فلا شك أن هذه المؤسسات قد حققت نجاحات هائلة في ميادين الخبرات المربية، والقدرات العقلية التي تزاوجت لإنجاب أفراد ذوي قدرات تسخيرية عالية في ميادين الكشف، والاختراع وتطوير التكنولوجيا والإدارة والسياسة وغيرها. ولكن المشكلة التي أفرزتها المؤسسات التربوية هناك هي الأزمة في الإرادات النبيلة العازمة. فهذه المؤسسات تعاني من قصور شديد في مجال تربية الإرادة، حيث تقف مستويات هذه الإرادة التي تنميها المؤسسات التربوية المذكورة عند مستوى إرادات الطعام، وإرادات الحفاظ على النوع ولا تتخطاها إلى مستوى إرادة الارتقاء بالجنس البشري، والسبب في ذلك هو غياب -المثل الأعلى- وقصور مستويات -المثل السوء- الذي تعرضه الفلسفات التربوية الموجودة هناك. مما أفرز -وما زال يفرز- سلاسل متلاحقة من الأزمات الأخلاقية، والاجتماعية. وتكرار هذه الأزمات له نتائجه السلبية المدمرة في اتجاهات الأفراد والجماعات سواء.
فهو -أولًا- يؤدي إلى فقدان الثقة بالعلم، وخيبة الآمال التي ترتبت عليه -كما يقول إدجار فور، وزملاؤه في تقريرهم التربوي. ذلك إن التفاوت الهائل بين التكنولوجيا المتقدمة التي أفرزها العلم، وبين القيم الإنسانية المتخلفة بسبب غياب المثل الأعلى قد قلب ثمرات العلم والتقدم إلى عكس الغايات التي نشأ العلم بسببها. فالإنسان أصبح يعاني -أكثر من
قبل- من حالات الاضطراب النفسي والقلق الفردي والجماعي.
والأثر -الثاني- هو ظهور ظاهرة -الاغتراب alienatiom- التي يعاني منها الإنسان المعاصر، وشدة الحاجة إلى معرفة الذات الإنسانية، وهوية الإنسان ومكانته، وعلاقاته بنفسه وبالآخرين من حوله.
والأثر -الثالث- هو إحساس إنسان التربية الحديثة -بالعجز Powerlessnss. وحقيقة هذا المرض هو شعور الإنسان المعاصر بالعجز عن التأثير في مجريات حياته. فبرز رق الآلة ورق مكان العمل، ورق وسائل الإعلام، الأمر الذي أفقد الإنسان حريته في الاختيار والتفكير، وانتهى به إلى الاستسلام لعوامل البيئة المحيطة في تلبية الحاجات، ومواجهة المشكلات. ولقد ناقش هذا المرض النفسي مربون وعلماء اجتماع، وعلم نفس من أمثال: ثيودور روزاك وديفيد مارتن، ومايكل لبرنر وسماه الأخير -فائض العجز1.
والأثر -الرابع- هو شعور إنسان التربية الحديثة بانتقاص الذات بسبب انحسار المثل الأعلى عند التربية الحديثة إلى مستوى الحفاظ على الجسد البشري، الذي ابتكرت له الشعارات من أمثال:"الكفاح من أجل المعيشة" و"البقاء للأقوى". وخلال الكفاح من أجل البقاء أفرزت أمراض الطغيان والاستضعاف، وجملت الرذيلة والفساد، وقبحت الفضيلة والصلاح، والجري المتواصل وراء الغرائز والشهوات.
والأثر -الخامس- هو فقدان إنسان التربية الحديثة الانتماء affilation، وصار الإنسان رقمًا في ركام البشر المتدفق في شوارع المدن الكبرى حيث يعيش الناس سجناء في سجون مساكنهم، وشققهم وراء أبواب مصفدة بالأقفال والأزراد والخوف من الجريمة والاغتصاب. فصارت مساكن الناس المتجاورة ماديا متباعدة نفسيا واجتماعيا، وكأنهم يعيشون في حديقة حيوانات!! تتطلع الضارية منها لافتراس الضعيفة.
1 Michael Lerner، Surplus Powlerlessness، New Jersey: Humanities Press، 1991.