الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: إخراج الأمة المسلمة
مقدمة:
إخراج الأمة المسلمة هو الهدف الثاني من أهداف التربية الإسلامية. وما لم توجه العناية إلى بلورة هذا الهدف، وتربية -إنسان التربية الإسلامية- عليه فإن الجهود التي تبذل لتحقيق الهدف الأول: هدف تربية الفرد المسلم لن تكون ذات قيمة؛ لأن الأفراد الصالحين -المصلحين هم عنصر واحد من عناصر تتفاعل لتجسد -الأمة المسلمة- في بناء اجتماعي واقعي يلبي الحاجات والتحديات القائمة. وإلى هذا البناء كانت الإشارة في الحديث النبوي القائل:
"المؤمن للؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا"1.
و"المؤمنون في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى"2.
وكما أن البنيان المرصوص ليس كومة من الحجارة، وإنما هو جدر متينة من الحجارة المصقولة المشدودة بعضها إلى بعض بالإسمنت، والحديد حسب قوانين هندسة البناء، وعدد الأعمدة، والجسور والعقود، وعمق الأساس، وسمك الجدار، ومقدار الارتفاع، وظروف المناخ المحيط.
وكما أن الجسد لا يتداعى أعضاؤه بالسهر، والحمى للعضو المصاب
1 البخاري، الصحيح، كتاب المظالم.
2 مسلم، الصحيح، كتاب البر، جـ16، ص140.
إلا إذا كان يغذي الجسد قلب نابض بالحياة، ويدبر أموره دماغ سليم، وأجهزة معافاة للهضم والتنفس، وشبكة نشطة من الشرايين والأوردة والأعصاب، ويغذيه دم نقي متوازن التركيب والعناصر.
فكذلك الأمة ليست أكواما بشرية -صالحة أو غير صالحة- وإنما هي نسيج اجتماعي تحكمه سنن الله، وقوانينه في بناء الأمم وصحتها ومرضها ووفاتها، وتتلاحم فيه مكونات الأمة، وتعمل متكاملة بحيث يكون حصيلة هذا كله إخراج الأمة المسلمة، وقيامها بوظائفها طبقا لحاجات الزمان والمكان.
وتتكامل المرحلتان -مرحلة تربية الفرد المسلم، ومرحلة إخراج الأمة المسلمة- بحيث تكون الأولى مقدمة للثانية، ولا تغني واحدة دون الأخرى. ولذلك كان التركيز في المرحلة المكية على تربية الفرد المسلم، أن الإنسان الصالح -المصلح، بينما كان إخراج الأمة المسلمة هو محور العملية التربوية في المرحلة المدنية.
غير أن البحث في المصادر الإسلامية يكشف أن لـ"الأمة" في التاريخ الإسلامي مفهومين: مفهوم نظري في القرآن والسنة، وهو مفهوم يقدم النموذج الذي يجب أن تكون عليه الأمة، وقد اخترت في هذا البحث أن أطلق عليه اسم "الأمة المسلمة". ومفهوم عملي يمثله كيان "الأمة" الذي برز عبر العصور الإسلامية ابتداء من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الوقت الحاضر، وقد اخترت أن أطلق عليه اسم "الأمة الإسلامية".
وتبين وقائع التاريخ أن المفهوم العملي للأمة قد تطابق مع المفهوم النظري لزمن معين -هو عصر الرسول، وعصر الخليفتين أبي بكر وعمر- ثم أخذ في الابتعاد تدريجيا، حتى انتهى إلى مخالفته تماما مثبتا بذلك ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال:
- "تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، وأن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما"1.
- "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". "قال عمران راوي الحديث: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة"، "ثم إن بعد قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن"2.
وهذا يعني -بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "الأمة الإسلامية" لم تكن طوال التاريخ "أمة مسلمة" راشدة، وإنما أخذت -منذ وقت مبكر- بالانحراف عن نموذج الأمة في القرآن والسنة حتى خالفته تماما، وإن مؤسسات التربية الإسلامية في العصور التي تلت عصر النبوة، والخلافة الراشدة تركت -أو أجبرت على ترك- "فقه" إخراج الأمة المسلمة، وما يتطلبه هذا الإخراج من نظم وتشريعات ومؤسسات تقي الأمة من التسلط، وتحميها من عوامل المرض وأخطاء الوفاة. ثم نسيت هذا الهدف، ثم انحسرت لتقتصر على تربية الفرد الصالح -غير المصلح الذي يهيأ منذ الطفولة للانتقال إلى الآخرة دون التدرب على عبور محطة الدنيا. وهذا النموذج في التربية هو الذي ورثته مؤسسات التربية الإسلامية في العصور الحديثة، حيث ما زالت هذه المؤسسات تعمل على أساس أنه:"إذا صلح الفرد صلحت الأمة"، وما زالت مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية، والحركات العاملة في ميدان العمل الإسلامي تتقبل هذه المقولة، وتتعامل معها وكأنها آية من آيات الكتاب، وليس كفرضية من الفرضيات البشرية التي قد تثبت، أو لا تثبت بالاختبار والتجريب في مختبر الآفاق والأنفس. فكانت النتيجة العملية لهذه الممارسات التربوية الخاطئة هي تكدس الأفراد المسلمين في أكوان بشرية ليس لديها علوم محددة عن "فقه" بناء الأمم
1 سنن أبي داود، جـ4، ص98 رقم 4254. مسند أحمد، جـ1، ص290، 292.
2 صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة.
وتنسيق المقدرات البشرية والمادية. ولذلك أصبحت لعبة سهلة بأيدي قوى الاحتلال الخارجي، التي ما زالت تصنع من شظايا الأمة المسلمة المتوفاة مزقًا من الكيانات المهيضة التي تطلق عليها اسم -الأمم الإسلامية- وتحدد لها "جنسياتها" و"ثقافاتها" ومحاور "الولاء" فيها طبقا لنظريات عصبية مختلفة، وتصمم لها تطبيقاتها الخاوية الضعيفة في شئون السياسة، والإدارة والاجتماع.
والمحصلة النهائية لجهل المؤسسات التربوية الإسلامية بإخراج الأمة المسلمة هي أن هذه المؤسسات ما زالت تعمل على إعداد أفراد صالحين -غير مصلحين لتقذف بهم إلى بيئات غير صالحة حيث تدخل فضائلهم الفردية في صراع مع علاقات اجتماعية غير فاضلة، إلى أن ينتهي بهم الأمر إلى الازدواجية في السلوك وإلى التلاؤم، والتآكل ثم الوقوع ضحية والانفعالات، والانفجارات التلقائية، والجهاد المرتجل أو المصطنع الذي كثيرا ما ينتهي إلى الانتحار الاجتماعي1، أو السحق تحت ضغط الإحباطات والنكسات دون أن ينتبه أحد إلى أن المطلوب هو "فقه" جديد -أو علم جديد- يتكامل فيه علم إخراج الأمة المسلمة، وعوامل صحتها ومرضها وموتها، وبعثها إلى آخر ما يتعلق بها.
لكل ذلك أصبحت الحاجة ماسة وشديدة إلى استكشاف -فقه إخراج الأمة المسلمة- وبلورة أصوله، وتنبيه الباحثين الإسلاميين إلى دخول ميدانه في ضوء الغايات العليا التي ترشد إليها توجيهات القرآن الكريم، والسنة الشريفة والشئون المتجددة في الآفاق والأنفس. وهذا ما هدفت إلى الإسهام فيه الفصول التالية من هذا الباب.
1 حين يفشل الفرد في الغرب ينتحر جسديا. أما في العالم الإسلامي، فالفرد الفاشل ينتحر اجتماعيا حيث ينسحب من الحياة، وتتعطل فاعليته الاجتماعية بانتظار الموت والعدل الأخروي. ثم تكون من ثمرات هذا الانتحار أن تزخر المجتمعات الإسلامية بالأفواج المنتحرة العاجزة عن مجابهة التحديات الداخلية، ومقاومة العدوان الخارجي، وتتحول إلى "غثاء" ينخر به الوهن، والعجز وكراهية التضحية.