الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د-
ملاحظات حول مراحل صحة الأمة ومرضها ووفاتها:
في الفصول التي عالجت صحة الأمة ومرضها، ووفاتها ظهر واضحا أن دوام عافية الأمة يتقرن بدوام الولاء لـ"أفكار" الرسالة الإسلامية، ودوران "الأشخاص والأشياء" في فلكها، وأن الأمة تدخل حالة المرض حين يتحول الولاء لـ"أشخاص" العصبيات القومية والإقليمية والقبلية والعائلية، وتدور كل من "الأفكار والأشياء" في فلك "الأشخاص". وتنتهي الأمة إلى حالة الوفاة حين يتحول الولاء لـ"الأشياء" ويدور في فلكها كل من "الأفكار والأشخاص".
و"إحكام" الوعي بمراحل صحة الأمة ومرضها، ووفاتها شرط رئيس لبلورة استراتيجيات وممارسات التربية الإسلامية والعمل الإسلامي. ففي -مرحلة صحة الأمة- التي لا تخلو من الأخطاء والنواقص في السياسات، والإدارات تقبل وتحترم أساليب النقد الذاتي الصريح، كما حدث في مواقف المعترضين من الصحابة والصحابيات على بعض ممارسات الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. وحين تدخل الأمة مرحلة المرض، فإن "أشخاص" الحاكمين ترفض النقد، وتشيع ثقافة المدح وتقمع حركات الإصلاح كما حدث في عهود ما بعد الخلافة الراشدة. ولذلك تحتاج دعوات الإصلاح إلى إحكام الاستراتيجيات وتقديم التضحيات. أما حين تدخل الأمة مرحلة الوفاة، فإن "إنسان" الأمة المتوفاة -في الوقت الذي يتنكر فيه لجميع تطبيقات الإصلاح- يتحول إلى تاجر "ينفق" أفكار الإصلاح كلها كنوع من الاستثمارات العقائدية التي تدر المال والجاه.
لذلك فإن من متطلبات الصواب في التربية الإسلامية، والعمل الإسلامي أن يكونا قادرين على تشخيص وتمييز المراحل، والدوائر التي ينتهي عندها "ولاء" إنسان التربية الإسلامية -ويتفاعل عليها: إيمانه، وهجرته، وجهاده ورسالته، وإيواؤه، ونصرته، وبين الدوائر التي تقتصر بها علاقة هذا "الإنسان" على مجرد "الانتماء" العاطفي الذي يستثمر لـ"نصرة""محور الولاء" الفاعل الحقيقي، وأن يكونا قادرين على تطوير استراتيجيات: الجهاد التربوي، والجهاد التنظيمي للارتقاء بالجماهير المؤمنة من دوائر
"الولاء" للعصبيات المختلفة إلى دائرة "الولاء" لـ"أفكار" الرسالة الإسلامية.
وتحتاج المؤسسات التربوية أن تتبين الحد الذي ينتهي عنده كل من الجهاد التربوي، والجهاد التنظيمي حتى لا يتحول عملها إلى ممارسات تربوية عقيمة، ويئول لما آلت إليه التربية الصوفية والمذاهب الفقهية التقليدية.
ومراعاة هذين الأمرين السابقين تتطلب بروز علم مختص يمكن بواسطته تقدير المرحلة التي يستمر العمل خلالها في ميدان تحويل "الانتماء" إلى "ولاء" حتى يصل إلى الحد الذي تصبح فيه -الجماهير المؤمنة- كاملة الاستعداد لممارسة عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة بالمحتوى الذي توجه إليه "أفكار" الرسالة الإسلامية وغاياتها1.
ومع أن هذا البحث لا يدعي تقديم -العلم المطلوب- لتنظيم العمل الإسلامي، واستراتيجيات التربية إلا أنه يرى أن تمييز -المرحلة الأولى من العمل الإسلامي- خلال فترات مرض الأمة، ووفاتها بالطابع السلمي والتفرع الكامل إلى تغيير ما بالأنفس من قيم فكرية ونفسية وخبرات ثقافية واجتماعية، وتصويب علاقات "الولاء" السائدة، وتنظيم العلاقات الخمس بين -إنسان التربية الإسلامية- من ناحية وبين كل من الخالق، والإنسان والكون والحياة والآخرة بحيث تصبح علاقات عبودية، وعدل وإحسان، وتسخير، وابتلاء، ومسئولية وجزاء2.
وعلى العمل الإسلامي في هذه المرحلة أن يتجنب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى المصادمات مع "القوم" الذين يعمل في أوساطهم، وأن يتحلى بـ"الصبر الجميل" على أذاهم، و"هجر الرجز" الخاطئ الذي يلون حياتهم،
1 للوقوف على مزيد من تفاصيل -الاستراتيجية المقترحة- راجع باب "قوانين تاريخية وتطبيقات معاصرة" -في كتاب- هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس -للمؤلف. الطبعة الثانية، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
2 للوقوف على تفاصيل -العلاقات الخمس- المذكورة راجع -فلسفة التربية الإسلامية- الطبعة الثانية.
وأن يتجنب الاشتراك في سياسات ترميم الأمة المريضة، أو المتوفاة من خلال المشاركة في المجالس النيابية والإدارات والحكومات، وأن يتجنب الاشتراك في عمليات الصراع، والمجابهة خلال فترات الفتن التي لا ينفك باعثوها، وقادتها عن استثمار شعارات "الانتماء" الديني، والقومي، والإقليمي، والقبلي، والأسري، وغيرها.
ولا بد من الانتباه -هنا- إلى أهمية "فقه" أحاديث الفتن التي تزخر بها مصنفات الحديث النبوية فقها صائبا يزيل آثار الشروح الخاطئة التي تناولت هذه الأحاديث، وانتهت بأجيال المسلمين إلى العزلة السلبية، والقعود عن الإصلاح بانتظار المهدي ونزول المسيح أو قيام الساعة. والصواب أن الأحاديث المذكورة توجه إلى صيانة طاقات المؤمنين من التبديد، وإلى التزام -التربية فقط- كمنهج للإصلاح خلال الفتن التي تصاحب مرحلتي مرض الأمة ووفاتها.
ولعله من المناسب هنا أن نقول: أن الأستاذ جودت سعيد قد "أحس" في كتابه -مذهب ابن آدم الأول- بأهمية التفرغ للعمل التربوي، الذي أسماه العمل السلمي، وتجنب العنف. ولكنه إحساس لم يصل إلى درجة "الوعي" الذي يميز حلقة العمل السلمي في منهاج العمل الإسلامي، ويحصرها في -الجهاد التربوي- خلال مرحلتي مرض الأمة ووفاتها، لإخراج جيل الإصلاح، ثم الانتقال إلى مرحلة -الجهاد التنظيمي- الذي يوفر بيئة المهجر الحاضنة، ويحسن تعبئة الموارد المادية والمعنوية، وإعداد ما يستطيعه مجتمع المؤمنين من قوة ورباط تؤهله للنوع الثالث من -الجهاد- الذي يرهبون به عدو الله وعدوهم، وآخرين من دونهم لا يعلمونهم من أهل الفتنة والنفاق1.
1 راجع فصل -الجهاد والرسالة- في هذا البحث للوقوف على تفاصيل أنواع الجهاد ومراحله.
إن عدم بروز علوم إسلامية توضح -مراحل العمل الإسلامي، واستراتيجياته أدى إلى تخبط مؤسسات التربية وحركات التجديد، والإصلاح سواء في تنظيماتها الداخلية أو نشاطاتها الدعوية في الخارج. فهي لم تدرك الفارق بين "الولاء" للعصبيات التي توجه سلوك -إنسان الأقطار الإسلامية- في حياته الفعلية، وبين علاقات "الانتساب والانتماء" التي يستثمرها و"ينفقها" هذا الإنسان لـ"نصرة" ولاءاته العصبية حين تتعرض الأخيرة للخطر، تماما كالسلوك الذي يصفه قوله تعالى:
فكثيرا ما ظن الإسلاميون أن حماس جماهير الأمة المتوفاة لخطبائهم في المساجد وترديدها لهتافهم: "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"! هو دلالة على استعداد هذه الجماهير لـ"الجهاد" وبذل النفس والمال لـ"نصرة" أفكار الرسالة، ثم إذا دعيت هذه الجماهير لتجسيد هذا الحماس في واقع حي تثاقلت إلى الأرض، واكتفت في أحسن حالاتها بالحوقلة والتحسر، ثم كانت مواقفها الفعلية تطبيقا كاملا للمثل الشعبي المستمد من ثقافتها القبلية القائل:"من يتزوج أمي هو عمي"1.
وفي المقابل كثيرا ما انقلب بعض من أسلمتهم حركات الإصلاح، والتجديد قيادتها، أو دفعت بهم إلى "مجالس النواب" لتمثيلها ولـ"نصرة" الإسلام، و"إيواء" المؤمنين، إلى زعماء "متسوزرين" يركزون "جهادهم" لـ"إيواء" قبائلهم وأسرهم و"نصرة" عصبياتهم ومصالحهم في الجاه والتملك!!
1 مثل شعبي شائع معناه الإذعان والطاعة لكل غالب مهما كانت جنسيته، أو دينه أو أخلاقه أو سياسته، والتخلي عن طاعة المغلوب مهما كانت درجة قرابته، أو رفعة أهدافه، أو عدالة مطلبه، أو صدقه وإخلاصه.
ولعله من المناسب -هنا- أن نشير إلى حكمة التخطيط، والتنفيذ التي اعتمدتها استراتيجيات الدول المستعمرة في "مزق" الأمة الإسلامية المتوفاة حيث كانت، وما زالت هذه الاستراتيجيات تستثمر -بصبر ووعي- المؤسسات التربوية والإدارية والعسكرية والإعلامية، والبعثات الدراسية والعلاقات الإقليمية وشئون السفر والإقامة، وقوانين العمل للارتداد بمحاور "الولاء" من دوائر الولاء لـ"الأفكار" الإسلامية إلى دائرة "الولاء الأسري" و"الولاء الفردي" متدرجة عبر دوائر القوم والإقليم والقبيلة، حتى إذا جاءت أجيال تتناثر "ولاءاتها" على دوائر القبيلة والأسرة والأنانية الفردية، أطلقت أزمة التناقضات وأعنة الصراعات بين العصبيات المذكورة حتى تنتهي مشروعات التنيمة إلى الإفلاس، والأمة إلى الوفاة!!