الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية
لا يمثل الفرد الذي تخرجه المؤسسات التربوية الإسلامية النموذج الإسلامي الذي استعرضنا مواصفاته التي مرت. كذلك لا يمثل الفرد -الذي تخرجه المؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية، والإسلامية- النموذج الذي تخرجه مثيلاتها في الأقطار الأوربية والأمريكية.
وهذا يعني أن هناك مشكلة قائمة في كلا النوعين من المؤسسات التربوية. أما مظاهر هذه المشكلة فهي كما يلي:
أ- مظاهر الأزمة في المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية:
من الواضح أن ثمرة التطبيقات التربوية الجارية في المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية -فيما يتعلق بتربية الفرد- تقصر كثيرًا عن المستوى الذي كانت تخرجه مثيلاتها في عصور الازدهار. كذلك ليس لدى هذه المؤسسات صورة واضحة عن -نموذج الإنسان- الذي يجب إخراجه في ضوء المواصفات التي مر شرحها عن شخصية "الفرد الصالح-المصلح".
ويمكن القول أن الأزمة المذكورة تتركز في ما يلي:
1-
انحسار مفهوم "العمل الصالح"، وحصره في ميادين العبادة، والأخلاق الفردية:
صحيح إن هذا الانحسار قد حدث منذ قرون، وهو بعض نتائج الانشقاق الذي حدث بين العلوم الدينية، وبين العلوم الطبيعية والاجتماعية في
الحضارة الإسلامية1. ولكن المؤسسات التربوية الحاضرة تسلمت هذا المفهوم دون مراجعة أو تقويم، وأقامت عليه مناهجها، ونشاطاتها الأمر الذي أفرز عدة نتائج سلبية أهمها:
النتيجة الأولى، إخراج إنسان فاقد المهارات اللازمة للحياة الحديثة عاجزا عن المشاركة فيها إلا ما كان من الوظائف الدينية كالوعظ، والإمامة والتدريس. وحين أحس بهذا العجز وصار جزءا من ثقافته نسبه إلى الإرادة الإلهية مما تسبب في شيوع الجبرية، والكسل وما ينتج عنهما من مضاعفات.
والنتيجة الثانية، حصر المثل العيا في السلوك الفردي دون الجماعي، ولذلك صار الفرد المسلم المعاصر لا يستجيب للنظام، ولا يهتم بشئون الآخرين في الدائرة والشارع وقيادة السيارة، وركوب وسائل المواصلات وغير ذلك. وهو يعيش هذا التناقض بين السلوك الفردي، والعلاقات الاجتماعية وهو يمارس الشعائر الدينية كالصلاة والحج، إذ تراه في الوقت الذي يندفع لممارسة الشعار، فإنه لا يتورع عن مزاحمة الضعفاء، وكبار السن والنساء وإيذائهم. وهذه ظاهرة انسحبت على حياة المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وجعلت منها نموذجا غير صالح للإسلام عند من يتعامل مع هذه المجتمعات من غير المسلمين.
والنتيجة الثالثة، العناية بـ"الأهداف العامة" وإهمال "الأهداف التعليمية"، أو نقول العناية بـ"الغايات" وإهمال "الوسائل". وبذلك صارت الأهداف مثاليات غير قابلة للتطبيق.
والنتيجة الرابعة، تشويه معاني المصطلحات المتعلقة بمظاهر "العمل الصالح" وإخراجها من ميادين الحياة الاجتماعية وعن مدلولاتها الأصلية. فمثلا انقلب معنى "الصبر"، فصار صبرا على المرض والجهل والفقر والظلم
1 راجع تفاصيل هذا الانشقاق في كتاب -تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية- للمؤلف.
والهزيمة والتخلف، بعدا أن كان صبرا على مواجهة التحديثات ومقارعة الشر ورد العدوان، وإرهاق العمل وعلاج الأمراض المختلفة. وانقلب معنى "الزهد" فصار عجزا عن العمل وقعودا عنه، ورضى بالفقر والضعف والهوان بعد أن كان زهد الأغنياء والأقوياء بالثروة والجاه في سبيل المثل الأعلى. وانقلب معنى "التوكل" فصار تبريرا للارتجالية، والفوضى وعدم الإعداد وإضاعة الوقت والمقدرات، بعد أن كان ثباتا وإصرارا بعد استكمال الاستعداد والتخطيط. وانقلب معنى "التسليم للمشيئة الإلهية"، فصار تبريرا للتراخي وعدم الإنجاز، بعد أن كان تصميما على مواجهة المصاعب واستهانة بكافة العقبات ما عدا مشيئة الله.
والنتيجة الخامسة، أن حصر مفهوم "العمل الصالح" في الميادين الدينية أدى إلى إهمال المؤسسات التربوية للقدرات التسخيرية، والخبرات المربية مما أفرز أفرادا يفتقرون إلى القدرات، والمهارات التي يتطلبها العصر.
2-
غموض نموذج "المثل الأعلى":
لا تقدم المؤسسات والنظم التربوية الإسلامية التقليدية نموذج المثل الأعلى الذي يتفق مع الأصول الأولى في القرآن، والسنة ويلائم حاجات الحاضر وتحدياته. ولكنها تكتفي بعرض صور منتقاة من "المثل العليا" التي أفرزها "فقه الآباء" في العصور المختلفة، وأحيانا تكتفي بمدح هذه النماذج دون عرض لتفاصيلها أو إيصال الدارس بمصادرها. ويصاحب هذا العرض انتقاص مما تراه وتعتبره "مثل سوء" تقوم خارج المنطقة الإسلامية في الحاضر. وتكون النتيجة لذلك عزل المتعلم عن الحاضر، وإحساسه بالنقص إزاء الماضي مما يورثه العجز والاغتراب.
ويزيد في حدة المشكلة المشار إليها أن البيئات المحلية الخانقة للحرية المثقلة بـ"آصار" الموروثات الاجتماعية والآبائية الثقافية، المكبلة بـ"أغلال" القيم السياسية والإدارية السلطوية تفرز قدرات عقلية قاصرة، مشوهة التكوين.
ويعزز هذه الآثار السلبية أساليب التربية القائمة على إلقاء التعميمات النظرية من وجهة نظر واحدة يقتصر إلقاء المعلومات، وتلقين المعتقدات المختلفة من وجهة نظرة واحدة قائمة -على التعضية والانتفاء والتبرير والإلزام- دون أن يسهم المتعلم بشيء من التحليل أو المناقشة1.
لذلك كله يكون نمط الشخصية التي تخرجها هذه المؤسسات هي -الشخصية المقبولة، أي التي تصب في قالب جامد م التفكير والسلوك، ولا تخرج عن هذا القالب إلا في حالات نادرة يكون سببها تعرض صاحبها لتأثيرات ثقافية تهزه هزا عنيفا، وحين يكون لديه القدرات العقلية العالية التي تمكنه من تحطيم قوالب الجمود والآبائية.
ب- مظاهر الأزمة في المؤسسات التربوية الحديثة:
تعاني المؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية، والإسلامية من نفس المشكلة التي تعاني منها المؤسسات الإسلامية التقليدية، ولكن مع اختلاف في الأعراض والمضاعفات، ويمكن القول أن الأزمة المذكورة تتركز فيما يلي:
1-
حصر مفهوم "العمل الصالح" في القدرات والمهارات المادية:
قامت المؤسسات التربوية الحديثة -في الأصل- لتعالج النقص الذي تعاني منه المؤسسات الإسلامية التقليدية، وهو العجز في ميدان -القدرات التسخيرية، غير أن قيامها بهذا الشكل لم تصحبه دراسات تشخيصية لعلاج الوضع التربوي برمته، وإنما كان قيامها رد فعل انفعاليا أحدثه الإحساس
1 التعضية: مشتقة من قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال ابن عباس: أي قسموه أجزاء كأعضاء الجزور. وهو أسلوب يقوم على تجزئة العبارات، وتشويه الجمل بغية اختراع المثالب وطمس المعاني الصحيحة وإلصاق الشبهات، وبرهنة الاتهامات.
بالنقص في ميدان العلوم الطبيعية والإدارية والعسكرية. لذلك قفزت هذه المؤسسات إلى الطرف المقابل للمؤسسات الإسلامية واعتنت بـ -القدرات التسخيرية- عناية أهملت بسببها -الإرادة العازمة النبيلة- التي تتولد من تزاوج القدرات العقلية مع المثل الأعلى. فإذا كانت المؤسسات الإسلامية التقليدية قد حصرت مفهوم -العمل الصالح- في الأخلاق الفردية، فإن مؤسسات التربية الحديثة قد حصرته بـ -القدرات والمهارات- المادية. ولذلك جاء الطابع العام لشخصية الخريج من هذه المؤسسات نموا في جانب القدرات، والمهارات وعجزا في الجانب الإرادي أي بعكس ما هو قائم في المؤسسات التربوية الإسلامية.
ولقد ترتب على هذه الجزئية في مفهوم "العمل الصالح" عدة نتائج سلبية أهمها: النتيجة الأولى، إن حصر "العمل الصالح" في المؤسسات الحديثة بالقدرات، والمهارات وانحساره من ميادين الإرادة العازمة النبيلة أدى إلى انفلات الخريجين الأخلاق ومعايير القيم، وما ينتج عن ذلك من مضاعفات.
والنتيجة الثانية، إن حصر "العمل الصالح" -وهو هنا "العمل الناجح" في المهارات والقدرات المادية، وانحساره من ميادين الأخلاق والقيم والعقيدة أدى إلى ضعف انتماء الخريج الحديث لتاريخه وحضارته. وصار يبحث عن "مثل أعلى" من خارج أصوله وثقافته. ولقد فتح هذا البحث الباب لنماذج عديدة من "المثل السوء"، التي كانت تشيع في عقود مختلفة في الساحة الأوربية من أمثال القومية، والوطنية والشيوعية وغيرها.
والنتيجة الثالثة، إن حصر "العمل الصالح" في القدرات والمهارات المادية أدى إلى العناية "بالأهداف التعليمية" وإهمال "الأهداف العامة". أو نقول أدى إلى العناية "بالوسائل" وإهمال "الغايات"ز وبذلك صارت الوسائل بدون غايات إلا ما تمليه الأهواء الموقوتة، والعصبيات المحلية والأيديولوجيات الوافدة، ونماذج القدوة المستوردة.
2-
اضطراب مفهوم "المثل الأعلى":
لا يوجد للمؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية والإسلامية مصدر محدد للمثل الأعلى. ومعنى المصدر المحدد أنها ليس لها التزام واضح واع بالعقيدة الإسلامية، ولا بمدرسة فكرية عميقة التصور للحياة المعاصرة. وإنما هي تقلد في هذا المجال طبقا لأماكن دراسة العاملين فيها، أو طبقا للتيار العام الذي تزجيه -في فترات مختلفة- الأنظمة السياسية والمؤسسات الإعلامية على المستوى المحلي والعالمي. ففي فترة ما بشرت بـ"القومية" و"الوطنية" وفي فترة أخرى بشرت بـ"التقدمية" و"الاشتراكية" مع خليط مضطرب من "مثل" الجاهلية العربية القديمة، ومثل "الإقليمية" و"إشباع رغبات الفرد". وغير ذلك.
وساعد على هذا الاضطراب المذكور إن المؤثرات الاجتماعية، والثقافية في البيئة الحاضرة تؤثر نفس التاثير الذي ذكرناه عن المؤسسات الإسلامية التقليدية، كما إن الأساليب القائمة على الإلقاء، والإلزام هي نفس الأساليب التي أشرنا إليها كذلك، والتي تحول دون حرية الفكر وتعدد الخبرات.
لذلك يكون نمط الشخصية التي تخرجها هذه المؤسسات هي مزيج من "الشخصية البوهيمية" و"الشخصية المقولبة" التي تعاني من العجز وفقدان الهوية.
ويقوم إلى جانب النظم والمؤسسات التربوية التقليدية، والحديثة مؤسسات وجماعات، وفئات تمارس أدوارًا من التربية الموازية كالسينما والتلفزيون والصحافة، والأحزاب والجمعيات، والمساجد والزوايا الصوفية والأسر والعائلات العشائرية، وهي تعاني من نفس المشكلات التي مر ذكرها، وتزيد في
الارتجالية والعشوائية والآبائية، والتربية فيها تقدم نماذج مفككة غير مترابطة، مختلفة غير متجانسة.
ولقد أفرز هذا الوضع التربوي المختلط اختلاطا في اتجاهات الأجيال، وأفرز مضاعفات الانقسام، والاضطراب الذي يميز الحياة المعاصرة في الأقطار العربية والإسلامية.