المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية - أهداف التربية الإسلامية

[ماجد عرسان الكيلاني]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب:

- ‌الباب الأول: مقدمة أهمية البحث في أهداف التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: دور الأهداف في العملية التربوية:

- ‌الفصل الثاني: أزمة التربية الحديثة في ميدان الأهداف التربوية

- ‌الفصل الثالث: حاجة النظم والمؤسسات التربوية في الأقطار العربية، والإسلامية إلى أهداف تربوية إسلامية

- ‌الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع: معنى "العمل الصالح" في التربية الإسلامية

- ‌الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة للعمل الصالح

- ‌الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل

- ‌الفصل السابع: تربية الفرد على تعشق المثل الأعلى

- ‌أولا: معنى المثل الأعلى:

- ‌ثانيا: أهمية المثل الأعلى:

- ‌ثالثا مستويات المثل الأعلى:

- ‌رابعا: أنواع المثل الأعلى:

- ‌خامسًا: تجديد المثل الأعلى

- ‌سادسًا: مستوى المثل الأعلى، وقيم المعلمين والمتعلمين

- ‌الفصل الثامن: تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية، والكونية عند الفرد

- ‌أولًا: معنى الخبرة وأهميتها

- ‌ثانيا: الخبرات الكونية، والاجتماعية، والدينية

- ‌ثالثا: حدود الخبرة ودوائرها

- ‌رابعًا: الخبرات الكونية، والاجتماعية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة

- ‌خامسًا: الخبرات في التربية الحديثة المعاصرة

- ‌الفصل التاسع: تربية الإرادة عند الفرد

- ‌أولا: معنى الإرادة ووظيفتها

- ‌ثانيا: مستويات الإرادة

- ‌ثالثًا: مستوى الإرادة ونضجها

- ‌رابعا: مستوى الإرادة ومستوى المثل الأعلى

- ‌خامسًا: فقدان الإرادة وضعفها

- ‌الفصل العاشر: إحكام تنمية القدرة التسخيرية

- ‌أولا: معنى القدرة التسخيرية

- ‌ثانيا: درجة القدرة التسخيرية، وحدود الخبرة المربية

- ‌ثالثا: مستويات القدرة التسخيرية

- ‌رابعا: أهمية تنمية القدرات التسخيرية

- ‌الفصل الحادي عشر: إحكام توازن الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية في تربية الفرد

- ‌الفصل الثاني عشر: مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة

- ‌أولا: تضييق مفهوم العمل الصالح وحصره بالإنتاج المادي

- ‌ثانيًا: تدني مستوى "المثل الأعلى" إلى مستوى -تلبية حاجات الجسد البشري

- ‌ثالثًا: حصر الإرادة في مستوى الرغبات والشهوات

- ‌رابعًا: حصر الخبرات بالكونية، والاجتماعية دون الدينية والأخلاقية

- ‌خامسا: حصر القدرات بالعقلية والجسدية دون الأخلاقية

- ‌الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية

- ‌الباب الثالث: إخراج الأمة المسلمة

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة

- ‌الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها

- ‌الفصل السادس عشر: أهمية إخراج الأمة المسلمة

- ‌الباب الرابع: مكونات الأمة المسلمة

- ‌مدخل

- ‌الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون

- ‌أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة

- ‌ثانيا: أهمية الهوية والجنسية والثقافة الإيمانية في العالم المعاصر

- ‌ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في الهوية والجنسية والثقافة

- ‌الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني الهجرة والمهجر

- ‌معنى الهجرة

- ‌أهمية الهجرة:

- ‌دور التربية في بلورة عنصر الهجرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: العنصر الثالث عنصر الجهاد والرسالة

- ‌معنى الجهاد

- ‌مظاهر الجهاد:

- ‌معنى الرسالة:

- ‌أهمية الرسالة في وجود الأمة:

- ‌دور التربية في تعزيز الرسالة:

- ‌الفصل العشرون: العنصر الرابع الإيواء

- ‌معنى الإيواء

- ‌مظاهر الإيواء:

- ‌أهمية الإيواء:

- ‌مسئولية التربية إزاء عنصر الإيواء:

- ‌الفصل الحادي والعشرون: العنصر الخامس النصرة

- ‌معنى النصرة

- ‌مظاهر النصرة:

- ‌الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء

- ‌معنى الولاية

- ‌درجات الولاية الإيمانية:

- ‌درجات ولاية غير المؤمنين:

- ‌التربية ورباط الولاية:

- ‌الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث

- ‌سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية وعلم النفس الإنساني

- ‌ سلم الحاجات الإنسانية بين التطبيقات الإسلامية، والتطبيقات التي يوجه إليها علم النفس الحديث:

- ‌الباب الخامس: صحة الأمة ومرضها وموتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى مرحلة صحة الأمة وعافيتها مرحلة الدوران في فلك الأفكار

- ‌دوران الأشخاص والأشياء في فلك أفكار الرسالة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الخامس والعشرون: مرحلة مرض الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشخاص

- ‌مدخل

- ‌الطور الأول: طور الولاء للقوم

- ‌الطور الثاني: طور الولاء للقبيلة ونظرائها "كالطائفة أو الحزب أو الإقليم

- ‌الطور الثالث: طور الولاء للأسرة

- ‌الطور الرابع: طور ولاء الفرد لنفسه

- ‌الفصل السادس والعشرون: مرحلة وفاة الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشياء

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أعراض الأمة الميتة

- ‌ثانيا: إعلان الوفاة وإجراءات الدفن

- ‌الفصل السابع والعشرون: مصير الأمة المتوفاة

- ‌الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة

- ‌ملاحظات حول مفهوم الأمة المسلمة

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الماضي

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الحاضر

- ‌ ملاحظات حول مراحل صحة الأمة ومرضها ووفاتها:

- ‌الفصل التاسع والعشرون: مشكلة التناقض بين إعداد الفريد وإخراج الأمة في أهداف التربية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌ أصحاب الرأي الناقد "نظرية التناقض بين الأهداف

- ‌ أصحاب "نظرية التآمر الطبقي في التربية

- ‌الباب السادس: تنمية الإيمان بوحدة البشرية والتآلف بين بني الإنسان

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثلاثون: ضرورة التألف الإنساني كهدف من أهداف التربية المعاصرة

- ‌الفصل الحادي والثلاثون: الوحدة الإنسانية ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة

- ‌الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic

- ‌الفصل الثاني والثلاثون: التربية الإسلامية ووحدة الجنس البشري

- ‌الأصول العقدية والاجتماعي لوحدة الجنس البشري

- ‌ الأساليب والوسائل العملية لتحقيق الوحدة الإنسانية:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون: التناقضات القائمة بين مفاهيم التربية العالمية الإسلامية والتطبيقات الإقليمية الجارية في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الأول عالمية الإسلام في مواجهة الجنسيات الإقليمية والعصبيات المحلية التي يقوم عليها المجتمعات الحديثة في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الثاني: الهجرة والسير في الأرض في مواجهة قيود السفر والتنقل

- ‌التناقض الثالث، الأمن الإسلامي في مواجهة الصراعات الإقليمية

- ‌التناقض الرابع، الحاجة لتكافل المسلمين في مواجهة قوانين الإقامة والعمل

- ‌التناقض الخامس، مكانة الإنسان واحترامه في مواجهة الاعتداء على حرماته، والاستهانة بكرامته

- ‌الفصل الرابع والثلاثون: توصيات

- ‌أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌ثانيا: توصيات تتعلق بإخراج الأمة المسلمة:

- ‌المصارد والمراجع

الفصل: ‌الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية

‌الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية

لا يمثل الفرد الذي تخرجه المؤسسات التربوية الإسلامية النموذج الإسلامي الذي استعرضنا مواصفاته التي مرت. كذلك لا يمثل الفرد -الذي تخرجه المؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية، والإسلامية- النموذج الذي تخرجه مثيلاتها في الأقطار الأوربية والأمريكية.

وهذا يعني أن هناك مشكلة قائمة في كلا النوعين من المؤسسات التربوية. أما مظاهر هذه المشكلة فهي كما يلي:

أ- مظاهر الأزمة في المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية:

من الواضح أن ثمرة التطبيقات التربوية الجارية في المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية -فيما يتعلق بتربية الفرد- تقصر كثيرًا عن المستوى الذي كانت تخرجه مثيلاتها في عصور الازدهار. كذلك ليس لدى هذه المؤسسات صورة واضحة عن -نموذج الإنسان- الذي يجب إخراجه في ضوء المواصفات التي مر شرحها عن شخصية "الفرد الصالح-المصلح".

ويمكن القول أن الأزمة المذكورة تتركز في ما يلي:

1-

انحسار مفهوم "العمل الصالح"، وحصره في ميادين العبادة، والأخلاق الفردية:

صحيح إن هذا الانحسار قد حدث منذ قرون، وهو بعض نتائج الانشقاق الذي حدث بين العلوم الدينية، وبين العلوم الطبيعية والاجتماعية في

ص: 167

الحضارة الإسلامية1. ولكن المؤسسات التربوية الحاضرة تسلمت هذا المفهوم دون مراجعة أو تقويم، وأقامت عليه مناهجها، ونشاطاتها الأمر الذي أفرز عدة نتائج سلبية أهمها:

النتيجة الأولى، إخراج إنسان فاقد المهارات اللازمة للحياة الحديثة عاجزا عن المشاركة فيها إلا ما كان من الوظائف الدينية كالوعظ، والإمامة والتدريس. وحين أحس بهذا العجز وصار جزءا من ثقافته نسبه إلى الإرادة الإلهية مما تسبب في شيوع الجبرية، والكسل وما ينتج عنهما من مضاعفات.

والنتيجة الثانية، حصر المثل العيا في السلوك الفردي دون الجماعي، ولذلك صار الفرد المسلم المعاصر لا يستجيب للنظام، ولا يهتم بشئون الآخرين في الدائرة والشارع وقيادة السيارة، وركوب وسائل المواصلات وغير ذلك. وهو يعيش هذا التناقض بين السلوك الفردي، والعلاقات الاجتماعية وهو يمارس الشعائر الدينية كالصلاة والحج، إذ تراه في الوقت الذي يندفع لممارسة الشعار، فإنه لا يتورع عن مزاحمة الضعفاء، وكبار السن والنساء وإيذائهم. وهذه ظاهرة انسحبت على حياة المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وجعلت منها نموذجا غير صالح للإسلام عند من يتعامل مع هذه المجتمعات من غير المسلمين.

والنتيجة الثالثة، العناية بـ"الأهداف العامة" وإهمال "الأهداف التعليمية"، أو نقول العناية بـ"الغايات" وإهمال "الوسائل". وبذلك صارت الأهداف مثاليات غير قابلة للتطبيق.

والنتيجة الرابعة، تشويه معاني المصطلحات المتعلقة بمظاهر "العمل الصالح" وإخراجها من ميادين الحياة الاجتماعية وعن مدلولاتها الأصلية. فمثلا انقلب معنى "الصبر"، فصار صبرا على المرض والجهل والفقر والظلم

1 راجع تفاصيل هذا الانشقاق في كتاب -تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية- للمؤلف.

ص: 168

والهزيمة والتخلف، بعدا أن كان صبرا على مواجهة التحديثات ومقارعة الشر ورد العدوان، وإرهاق العمل وعلاج الأمراض المختلفة. وانقلب معنى "الزهد" فصار عجزا عن العمل وقعودا عنه، ورضى بالفقر والضعف والهوان بعد أن كان زهد الأغنياء والأقوياء بالثروة والجاه في سبيل المثل الأعلى. وانقلب معنى "التوكل" فصار تبريرا للارتجالية، والفوضى وعدم الإعداد وإضاعة الوقت والمقدرات، بعد أن كان ثباتا وإصرارا بعد استكمال الاستعداد والتخطيط. وانقلب معنى "التسليم للمشيئة الإلهية"، فصار تبريرا للتراخي وعدم الإنجاز، بعد أن كان تصميما على مواجهة المصاعب واستهانة بكافة العقبات ما عدا مشيئة الله.

والنتيجة الخامسة، أن حصر مفهوم "العمل الصالح" في الميادين الدينية أدى إلى إهمال المؤسسات التربوية للقدرات التسخيرية، والخبرات المربية مما أفرز أفرادا يفتقرون إلى القدرات، والمهارات التي يتطلبها العصر.

2-

غموض نموذج "المثل الأعلى":

لا تقدم المؤسسات والنظم التربوية الإسلامية التقليدية نموذج المثل الأعلى الذي يتفق مع الأصول الأولى في القرآن، والسنة ويلائم حاجات الحاضر وتحدياته. ولكنها تكتفي بعرض صور منتقاة من "المثل العليا" التي أفرزها "فقه الآباء" في العصور المختلفة، وأحيانا تكتفي بمدح هذه النماذج دون عرض لتفاصيلها أو إيصال الدارس بمصادرها. ويصاحب هذا العرض انتقاص مما تراه وتعتبره "مثل سوء" تقوم خارج المنطقة الإسلامية في الحاضر. وتكون النتيجة لذلك عزل المتعلم عن الحاضر، وإحساسه بالنقص إزاء الماضي مما يورثه العجز والاغتراب.

ويزيد في حدة المشكلة المشار إليها أن البيئات المحلية الخانقة للحرية المثقلة بـ"آصار" الموروثات الاجتماعية والآبائية الثقافية، المكبلة بـ"أغلال" القيم السياسية والإدارية السلطوية تفرز قدرات عقلية قاصرة، مشوهة التكوين.

ص: 169

ويعزز هذه الآثار السلبية أساليب التربية القائمة على إلقاء التعميمات النظرية من وجهة نظر واحدة يقتصر إلقاء المعلومات، وتلقين المعتقدات المختلفة من وجهة نظرة واحدة قائمة -على التعضية والانتفاء والتبرير والإلزام- دون أن يسهم المتعلم بشيء من التحليل أو المناقشة1.

لذلك كله يكون نمط الشخصية التي تخرجها هذه المؤسسات هي -الشخصية المقبولة، أي التي تصب في قالب جامد م التفكير والسلوك، ولا تخرج عن هذا القالب إلا في حالات نادرة يكون سببها تعرض صاحبها لتأثيرات ثقافية تهزه هزا عنيفا، وحين يكون لديه القدرات العقلية العالية التي تمكنه من تحطيم قوالب الجمود والآبائية.

ب- مظاهر الأزمة في المؤسسات التربوية الحديثة:

تعاني المؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية، والإسلامية من نفس المشكلة التي تعاني منها المؤسسات الإسلامية التقليدية، ولكن مع اختلاف في الأعراض والمضاعفات، ويمكن القول أن الأزمة المذكورة تتركز فيما يلي:

1-

حصر مفهوم "العمل الصالح" في القدرات والمهارات المادية:

قامت المؤسسات التربوية الحديثة -في الأصل- لتعالج النقص الذي تعاني منه المؤسسات الإسلامية التقليدية، وهو العجز في ميدان -القدرات التسخيرية، غير أن قيامها بهذا الشكل لم تصحبه دراسات تشخيصية لعلاج الوضع التربوي برمته، وإنما كان قيامها رد فعل انفعاليا أحدثه الإحساس

1 التعضية: مشتقة من قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال ابن عباس: أي قسموه أجزاء كأعضاء الجزور. وهو أسلوب يقوم على تجزئة العبارات، وتشويه الجمل بغية اختراع المثالب وطمس المعاني الصحيحة وإلصاق الشبهات، وبرهنة الاتهامات.

ص: 170

بالنقص في ميدان العلوم الطبيعية والإدارية والعسكرية. لذلك قفزت هذه المؤسسات إلى الطرف المقابل للمؤسسات الإسلامية واعتنت بـ -القدرات التسخيرية- عناية أهملت بسببها -الإرادة العازمة النبيلة- التي تتولد من تزاوج القدرات العقلية مع المثل الأعلى. فإذا كانت المؤسسات الإسلامية التقليدية قد حصرت مفهوم -العمل الصالح- في الأخلاق الفردية، فإن مؤسسات التربية الحديثة قد حصرته بـ -القدرات والمهارات- المادية. ولذلك جاء الطابع العام لشخصية الخريج من هذه المؤسسات نموا في جانب القدرات، والمهارات وعجزا في الجانب الإرادي أي بعكس ما هو قائم في المؤسسات التربوية الإسلامية.

ولقد ترتب على هذه الجزئية في مفهوم "العمل الصالح" عدة نتائج سلبية أهمها: النتيجة الأولى، إن حصر "العمل الصالح" في المؤسسات الحديثة بالقدرات، والمهارات وانحساره من ميادين الإرادة العازمة النبيلة أدى إلى انفلات الخريجين الأخلاق ومعايير القيم، وما ينتج عن ذلك من مضاعفات.

والنتيجة الثانية، إن حصر "العمل الصالح" -وهو هنا "العمل الناجح" في المهارات والقدرات المادية، وانحساره من ميادين الأخلاق والقيم والعقيدة أدى إلى ضعف انتماء الخريج الحديث لتاريخه وحضارته. وصار يبحث عن "مثل أعلى" من خارج أصوله وثقافته. ولقد فتح هذا البحث الباب لنماذج عديدة من "المثل السوء"، التي كانت تشيع في عقود مختلفة في الساحة الأوربية من أمثال القومية، والوطنية والشيوعية وغيرها.

والنتيجة الثالثة، إن حصر "العمل الصالح" في القدرات والمهارات المادية أدى إلى العناية "بالأهداف التعليمية" وإهمال "الأهداف العامة". أو نقول أدى إلى العناية "بالوسائل" وإهمال "الغايات"ز وبذلك صارت الوسائل بدون غايات إلا ما تمليه الأهواء الموقوتة، والعصبيات المحلية والأيديولوجيات الوافدة، ونماذج القدوة المستوردة.

ص: 171

2-

اضطراب مفهوم "المثل الأعلى":

لا يوجد للمؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية والإسلامية مصدر محدد للمثل الأعلى. ومعنى المصدر المحدد أنها ليس لها التزام واضح واع بالعقيدة الإسلامية، ولا بمدرسة فكرية عميقة التصور للحياة المعاصرة. وإنما هي تقلد في هذا المجال طبقا لأماكن دراسة العاملين فيها، أو طبقا للتيار العام الذي تزجيه -في فترات مختلفة- الأنظمة السياسية والمؤسسات الإعلامية على المستوى المحلي والعالمي. ففي فترة ما بشرت بـ"القومية" و"الوطنية" وفي فترة أخرى بشرت بـ"التقدمية" و"الاشتراكية" مع خليط مضطرب من "مثل" الجاهلية العربية القديمة، ومثل "الإقليمية" و"إشباع رغبات الفرد". وغير ذلك.

وساعد على هذا الاضطراب المذكور إن المؤثرات الاجتماعية، والثقافية في البيئة الحاضرة تؤثر نفس التاثير الذي ذكرناه عن المؤسسات الإسلامية التقليدية، كما إن الأساليب القائمة على الإلقاء، والإلزام هي نفس الأساليب التي أشرنا إليها كذلك، والتي تحول دون حرية الفكر وتعدد الخبرات.

لذلك يكون نمط الشخصية التي تخرجها هذه المؤسسات هي مزيج من "الشخصية البوهيمية" و"الشخصية المقولبة" التي تعاني من العجز وفقدان الهوية.

ويقوم إلى جانب النظم والمؤسسات التربوية التقليدية، والحديثة مؤسسات وجماعات، وفئات تمارس أدوارًا من التربية الموازية كالسينما والتلفزيون والصحافة، والأحزاب والجمعيات، والمساجد والزوايا الصوفية والأسر والعائلات العشائرية، وهي تعاني من نفس المشكلات التي مر ذكرها، وتزيد في

الارتجالية والعشوائية والآبائية، والتربية فيها تقدم نماذج مفككة غير مترابطة، مختلفة غير متجانسة.

ولقد أفرز هذا الوضع التربوي المختلط اختلاطا في اتجاهات الأجيال، وأفرز مضاعفات الانقسام، والاضطراب الذي يميز الحياة المعاصرة في الأقطار العربية والإسلامية.

ص: 172