الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: توصيات تتعلق بإخراج الأمة المسلمة:
وانطلاقا من الملاحظات التي مرت عن مفهوم الأمة المسلمة يخلص البحث إلى التوصيات التالية:
التوصية الأولى، توجيه -إنسان التربية الإسلامية- إلى وجوب تطبيق مبدأ الانسحاب والعودة، الذي مرت الإشارة إليه، كلما دلفت الأمة إلى مرحلة المرض أو الوفاة. وهذا المبدأ يعني التوقف مؤقتا عن الإسهام في الممارسات الإسلامية المألوفة عن المستوى الفردي والجماعي، ثم اجتماع -الحكماء- من أولي الألباب المستنيرة، والإرادات العازمة النبيلة بغية القيام بمراجعة شاملة عميقة لاستراتيجيات التربية الإسلامية بأهدافها، ومناهجها وأساليبها ومؤسساتها.
ويراعى في اختيار عناصر -الحكماء- المشار إليهم أن يكونوا من العناصر الواعية بأصول الحياة الإسلامية، وبالتغيرات الجارية في قرية الكرة الأرضية، المتحررة من التقليد والآبائية، المزكاة من الولاءات العصبية، المتعالية عن الجاه والتقرب من أصحاب "السلطة والنفوذ"، وأهمية هذا التكوين العقلي والنفسي أن أمثال هذه النماذج الإنسانية هم القادرون على بلورة الطروحات الفكرية التي تخرج الحياة الإسلامية في صيغ جديدة تلبي حاجات المكان والزمان، وتنقيها من مضاعفات الأخطاء التي تسببت بها الممارسات المرتجلة، وفترات الجمود واختراقات محبي الجاه وأصحاب العصبيات.
ويراعى خلال المراجعة المطلوبة أن يقوم -الحكماء الإسلاميون- بأمرين اثنين: الأول، تشخيص دقيق للأوضاع المحلية والعالمية، ثم بلورة الطروحات الفكرية التي تلبي الحاجات وتتصدى للتحديات على المستويين المحلي والعالمي. والثاني، تطوير استراتيجية عمل إسلامي تتطابق مع التوجيهات القرآنية التي تصنف فصول العمل الإسلامي إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال الأحسن.
والاهتداء بهذه البصائر القرآنية الثلاث يتطلب أن يندرج تحت الحكمة شكلان من التخطيط: تخطيط تنظيري، وتخطيط عملي. وأن يندرج تحت -الموعظة الحسنة- بلورة سياسات إعلامية -دعوية تحسن تعبئة الجماهير
المحلية والعالمية لـ"نصرة" تنفيذ التخطيط الذي تفرزه الحكمة النظرية والعملية. وأن يندرج تحت "الجدال الأحسن" يقظة فكرية قادرة على التفاعل مع قيادات ومؤسسات الفكر المحلي، والعالمي بطروحات "أحسن" محتوى"، و"أحسن" بلاغا.
ولا بد لـ"الحكماء الإسلاميين" المنشودين أن يوالي بعضهم بعضا في مجلس دائم ترفده العناصر الذكية -الواعية المتعالية من كل جيل، ويقوم بمسئولياته في توجيه مؤسسات التخطيط، والتنفيذ طبقات لمتطلبات الخلق الجديد في أطوار الزمان وفي المكان.
التوصية الثانية، هي توجيه -إنسان التربية الإسلامية- إلى أهمية التدرج المرحلي الواعي، المحكم، خلال العمل على إخراج الأمة المسلمة، تماما كما تدرج الوحي في التربية، وتدرج الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل حتى اكتمل الإخراج عند خطوة:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
وخلال التدرج المطلوب لا بد من تكامل "الجهاد التربوي" مع كل من "الجهاد التنظيمي" و"الجهاد القتالي"، واستمرار إمداده لهما بالحكمة والفاعلية والتجدد، وهذه وظيفة تقتضي مراعاة أمور ثلاثة هي:
الأول، تربية العدد الكافي من الخامات الإنسانية المؤهلة لتحمل مسئولية العمل الإسلامي ونشر الرسالة. ويراعى أن يتناسب عدد هذه الطليعة مع الكثافة البشرية للمجتمعات التي ستتفاعل معها كتناسب الخميرة مع كمية العجين المراد تخميره. وكل نقص في تربية هذه الطليعة، وعددها سوف ينعكس على درجة صحة الأمة الإسلامية المراد إخراجها.
والثاني، تنظيم محتويات المناهج والتطبيقات التربوية، وصياغة العلوم لتدور جميعها في فلك "الأفكار" الإسلامية، كأن تعاد كتابة التاريخ
الإسلامي وغير الإسلامي ليصبح تاريخا يدور في فلك "الأفكار" بدل الدوران في فلك "الأشخاص والأشياء"، وإحلال الآداب والثقافة والفنون التي تدور في فلك "الأفكار" الإسلامية محل الآداب والثقافة، والفنون التي تدور في فلك "أشخاص" العصبيات التي أسهمت في الرد إلى الصنمية برموز وأصنام جديدة. كذلك تعاد صياغة مفهوم التطور الإنساني، وعلومه ليقاس التقدم بمدى دوران "الأشخاص والأشياء" في فلك "الأفكار"، وليس العكس كما هو قائم في مؤسسات التربية الحديثة القائمة.
وخلال هذه الجهود التغييرية لا بد من مراعاة القاعدة التربوية الإسلامية التي عبر عنها أمثال -عبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء- حين قالوا:"كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا"1.
والأمر الثالث، الذي يجب مراعاته هو أن للتربية، والتغيير المرادين كتابا مؤجلا وأطوارا زمنية لا بد أن تمر بها الخامات التي يجري تزكيتها تزكية إسلامية. وهذه الأطور هي:
الطور الأول، نقل النماذج البشرية التي يجري تغيير ما بأنفسها من حالة "الغياب" الاجتماعي الذي يبقى قدراتها العقلية، وإراداتها النفسية أسيرة لصنمية "الأشخاص"، ووثنية "الأشياء" إلى حالة "الحضور" الذي يجعلها تستشعر قيمة الإيمان، وأفكار" الإسلام.
والطور الثاني، رفع درجة "الحضور" عند النماذج الإنسانية المذكورة حتى تبلغ قدراتها العقلية درجة "الوعي" المحيط بغايات الحياة وسننها، وتبلغ إراداتها درجة "الحرية" في اختياراتها.
والطور الثالث، رفع كل من درجتي "الوعي" و"الحرية" حتى يبلغا
1 تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، الطبعة الثالثة، ص57، للمؤلف.
درجة "القدرة" على تحويل المدركات العقلية الصائبة، والإرادات المخلصة إلى "أعمال" صالحة -مصلحة.
والقرآن الكريم يسمي عمليات التغيير المشار إليها في الأطوار الثلاثة "إحياء" بعد الموت:
والإحياء الذي توجه الآية إليه هو إحياء عقلي -إرادي يكون من ثمراته حسن المشي في الناس، وحسن التمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والحق والباطل، وحسن التعامل معها كلها. وفي المقابل تلفت الآية أنظار المؤمنين إلى السياسات المعاكسة التي يديرها "أكابر المجرمين" في كل مجتمع، الذين يمكرون -أي يقيمون سياساتهم- على أساس الهبوط بالأتباع "المستضعفين" في الاتجاه المعاكس للأطوار الثلاثة حتى تنتهي بهم إلى حالة -الإماتة الإنسانية- أي إماتة العقول والإرادات وسجنها في غيابة الخرافة، والوهم والأهواء العصبية والشهوات الجسدية إلى أن تئول حياتهم إلى ظلمات العيش، وسوء الأعمال التي يزينها لهم سحرة الفكر والنفس، فلا يستطيعون منها خروجا1.
1 في الماضي قامت سياسات الظلمة من سلاطين المماليك -مثلًا- على تغييب العقل المسلم في أمثال سيرة بني هلال، والزير سالم، و"إلهامات" الدراويش الأحياء. وتغييب إرادات الأمة في البحث عن الكرامة والعطاء، والنجاة من خلال الاستغاثة بالأولياء الأموات، وولاءات العصبيات.
وفي الحاضر يجري تغييب العقل المسلم عن "شهود" الأزمات الداخلية و"حضور" التحديات الخارجية في أمثال قصص، وروايات الغرام وأشعار الحب، وكتب -وقاية الإنسان من الجن والشيطان، و -الصارم البتار في التصدي للسحرة والأشرار. ويجري تغييب إرادات المسلمين في أمثال مباريات الرياضة، ومهرجانات الفنون، وصحافة الأزياء، وإعلانات الاستهلاك، ومسلسلات التلفزيون التي تحرك الحميات البدوية، والعصبيات القروية. وفي كلا الحالتين من "التغييب" كانت النتائج هي عجز القيادات والأنظمة التي تمارسه عن حل المشكلات الداخلية، وهزيمتهم أمام الأخطار الخارجية.
ولعملية "التغيير والإحياء" سنن وقوانين لا بد من التزامها، والتوافق معها الأمر الذي يتطلب البحث في علومها ومناهجها، ومؤسساتها وصفات القائمين عليها والبيئات والأوضاع اللازمة لنجاحها. وهذا يعني العمل على إيجاد مؤسسات تربوية، ومراكز للبحث العلمي لتقوم ببلورة محتويات "الحكمة النظرية" من خلال النشاطات التالية:
1-
القيام بمراجعة -أو "توبة"- تربوية جزئية مستقلة من التأثيرات الآبائية، والأجنبية هدفها تمحيص التراث المتحدر من الآباء، أو تلك الوافدة من الغرباء بغية التعرف على ما كان أصيلًا يتفق مع مفهوم الأمة المسلمة في القرآن والسنة في الحالة الأولى، وما كان متنافرًا مع القرآن والسنة في الحالة الثانية، وما كان -في الحالتين- يحمل في طياته عوامل الخطأ والضعف والجمود.
والقيام بهذه المراجعة -أو التوبة- يضع الأمة على الصراط المستقيم الذي يتوافق مع سنن الحياة، وقوانين التغيير القرآنية التي تقرر أن الله لا يغير ما بقوم من أزمات سياسية أو اجتماعية، أو اقتصادية إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من محتويات فكرية وثقافية وقيم وعادات، وتقاليد وممارسات تتعلق بميادين الأزمات المذكورة.
2-
ممارسة الاجتهاد الذي يؤدي إلى ظهور علوم سياسية وإدارية، واقتصادية واجتماعية تبلور مفهوم الأمة المسلمة، ومحتويات عناصرها في الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، حسب ما توجه إليه أصولها في القرآن والسنة، وتتطلبه حاجات الأزمنة والأمكنة، والتحديات في الداخل والخارج.
3-
تحويل ثمار الاجتهاد المقترح إلى خطط ومناهج، وتطبيقات تربوية يستطيع -إنسان التربية الإسلامية- من خلالها أن يعيش مضامين العناصر المكونة للأمة المسلمة فكرًا وعملًا، ويكون من ثمارها تنمية الولاء للأمة المسلمة وحدها، والعمل على إخراجها من جديد، والقضاء على الولاءات العصبية التي تتعارض مع هذا الولاء وتضعفه.
4-
تقويم الاجتهادات النظرية والتطبيقات العملية الخاصة بمفهوم الأمة المسلمة تقويما مستمرا في ضوء الحاجات المتجددة، والتغيرات الحاصلة في الزمان والمكان.
التوصية الثالثة، أن تقوم مؤسسات التربية الإسلامية بدورها كاملا لبلورة مفاهيم "الجهاد التنظيمي" وأشكاله. ويراعى في هذه العملية تطوير المؤسسات اللازمة للقيام بمسئولية تنفيذ المشروعات المقترحة في التوصية الأولى -أي القيام بـ"الحكمة العملية". ويراعى تزويد هذه المؤسسات بأعلى المؤهلات، وأدق الأجهزة والأدوات ومتابعة جهودها بالتقويم المستمر. ويراعي تنوع هذه المؤسسات إلى أقسام تتطابق مع مسئوليات الأمة المسلمة، كأن تكون كما يلي:
أ- مؤسسات تمارس الاجتهاد والنظر في آيات الوحي بغية بلورة نموذج "المثل الأعلى"، الذي تتطلبه حاجات الزمان والمكان.
ب- مؤسسات تنظر في "الخبرات الاجتماعية والكونية" في العالم كله بما في ذلك دراسة الثقافات العالمية المختلفة، وأنماط التفكير السائدة فيه لبلورة "وسائل" تحقيق المثل الأعلى.
جـ- مؤسسات وظيفتها رسم الاستراتيجيات اللازمة للتفاعل مع المجتمعات العالمية في ضوء معطيات "المثل الأعلى" الذي تفرزه المؤسسات رقم "أ" ونتائج شهود "الخبرات الاجتماعية والكونية" التي
تفرزها المؤسسات رقم "ب"1.
والواقع إن -الأزمة الرئيسية في العمل الإسلامي، وفي الحضارة الإسلامية- خلال التاريخ الإسلامي كله هي عدم تقدير دور -المؤسسات- وعدم إعطائها ما تستحقه من عناية -خاصة في ميدان السياسة، والاقتصاد- وترك المشروعات والإدارات للجهود والمبادرات الفردية، وتوقع قيام الفرد القائد بدور النبي المرسل المؤيد بوحي السماء، ونصرته سواء على مستوى الدول أو الجماعات. لذلك كانت -وما زالت- حركات اليقظة، ومشروعات الإصلاح حركات فردية موقوتة تعتمد على كفاءات الفرد القائد، أو الفرد المصلح،
وعلى قدراته الشخصية خلال حياته، وغياب الفرد عن مسرح الحياة يشكل نكسة حاسمة في اليقظات، والمشروعات قد ترد الأمة إلى نقطة الصفر أو تحولها
للسير في الاتجاه المعاكس. وهذا القول ينطبق على جميع حركات الإصلاح التي قادها مصلحون دينيون، أو سياسيون في الماضي والحاضر.
والتوصية الرابعة، ضرورة تكامل "التعليم ومؤسساته مع التنظيم ومؤسساته" أو نقول -تكامل عمل المدارس والجماعات مع الأحزاب، والمؤسسات والجماعات. فلقد دأبت الحركات الإسلامية العاملة للإصلاح والوحدة -منذ مطلع هذا القرن- على اعتماد الوعظ الجماهيري بدل التعليم المنظم تاركة "التعليم والتربية" للمدارس والمعاهد، والجماعات التقليدية التي انحدرت من عصور الجمود والانحطاط، أو تلك التي أنشأتها البعثات التبشيرية، أو تلك التي أنشأتها الحكومات الرسمية بتوجيه خبراء التعليم الأجانب. ولقد كان لهذه الظاهرة آثارها السلبية القاتلة إذ إن المؤسسات التربوية المشار إليها كانت -وما زالت- ترفد المجتمعات الإسلامية والحركات، والأحزاب بخليط متنافر التفكير والثقافات، كل يحمل معه
1 للوقوف على محتوى "المثل الأعلى" و"الخبرات" يراجع باب -تربية الفرد المسلم.
بصمات المدرسة أو المعهد أو الجامعة التي تخرج منها. ولذلك ضمت الحركات الإسلامية أفرادا يؤمنون بمثل عليا مختلفة متنافرة بينما يقفون تحت شعارات، وعموميات ضبابية غامضة دون أن يكون لديهم استراتيجيات صائبة
للتعليم أو التنظيم.
ولعله من الموضوعية والرجوع إلى الحق أن أنبه -هنا- إلى ما ورد في كتابي -هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادات القدس- في الصفحات 288-295 من الطبعة الأولى حول اعتبار الأحزاب، والجماعات استراتيجية ضارة خاسرة. والواقع أنني بعد تحليل الظاهرة بعمق أكثر، وشمول أوفر أقرر أن الأسباب العشرة التي دللت بها على ضرر الجماعات، والأحزاب هي -في الحقيقة- أسباب لعدم التكامل بين المؤسسات التعليمية، والفكرية التي تمثلها المدارس والجامعات، والمؤسسات التنظيمية التي تمثلها الأحزاب، والجماعات ذلك أن ترك التعليم في أيد مؤسسات أجنبية ومحلية بنت فلسفاتها، وأهدافها ونظمت مناهجها، وتطبيقاتها حول قيم العصبيات القبلية والطائفية والإقليمية، أفرز أحزابا، وجماعات متأثرة بهذه القيم مما أشاع التنافر، والتباغض في علاقاتها وجعلها في ولاءاتها قبائل من لا قبيلة له وطائفة له.
والتوصية الخامسة، تنظيم علاقات "الأفراد المؤمنين" الذين تخرجهم مؤسسات التعليم، وينتمون إلى مؤسسات التنظيم في شبكة علاقات اجتماعية يكون العامود الفقري فيها هو عناصر الأمة الستة، أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية حسب التفصيلات التي مرت في هذا البحث.
ويراعى أن يتم بناء هذه الشبكة على مستويين اثنين: المستوى المحلي الذي ينظم علاقات "الأمة الصغرى" أي أفراد الجماعة أو الحزب، أو الأقلية الإسلامية. ثم المستوى العالمي الذي ينسق نشاطات الأشكال المحلية من -الأمم الصغرى- في تنظيم عالمي فعال غايته النهائية "إخراج الأمة المسلمة
الكبرى" في أرض ما حول الأقصى، والمسجد الحرام التي أراداها الله قاعدة للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والإيمان بالله، والتي خطط حدودها إبراهيم عليه السلام واكتملت وظيفتها في انطلاقة محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه كما مر في فصل سابق.
فإذا اكتمل إخراج هذه "الأمة المسلمة الكبرى"، أصبح فرضا على "الأمم المسلمة الصغرى" الموقوتة أن تهاجر هجرتها الحسية إلى أرض "الأمة المسلمة الكبرى"، لتتلاحم وتتوالى وتتظافر لاستئناف حمل رسالة الإسلام إلى العالم كله.
والتوصية السادسة، بلورة مفهوم "رسالة إسلامية عالمية" تتصدى للأزمتين المستعصيتين في مجتمعات العالم المعاصر كله.
والأزمة الأولى -أزمة اجتماعية- تتمثل في فقدان المناعة الاجتماعية -أو انتشار "الإيذر الاجتماعي" في الأقطار غير الإسلامية- خاصة الأقطار الغربية المتقدمة علميا وتكنولوجيا. ولقد قوض هذا المرض أسس الحياة الاجتماعية في الأقطار المذكورة، وهيأها للانهيار من داخل. ومحور هذه الأزمة كامن في التصور الخاطئ عن "هوية الإنسان" و"موقعه في الوجود" و"المثل الأعلى" الذي يجسد هذا التصور في واقع الحياة.
والسبب الرئيس في هذه الأزمة هو الانشقاق بين أدوات المعرفة الثلاث: بين الوحي من ناحية والعقل، والحواس من ناحية أخرى. إذ إن غياب بصائر الوحي الصحيح عن ثقافة هذه المجتمعات يدفع "العقل والحواس" إلى استعمال "وسائل الحياة"، التي يكتشفها العقل وتطورها الحواس، استعمالا جاهلا بـ"أهداف الحياة وغاياتها"، وينتهي بنظم التربية ومؤسساتها إلى إخراج إنسان يبدد قدراته العقلية، والنفسية والجسدية في خدمة "مثل سوء" و"هوية" حيوانية و"ثقافة" خاطئة.
والأزمة الثانية -أزمة سياسية- يجسدها مرض -الإيذر السياسي- المستشري في أقطار العالم الثالث -خاصة الأقطار الإسلامية والعربية.
وهذا مرض أفقد هذه المجتمعات المناعة السياسية، وهيأها للانهيار والتمزق أمام التحديات الخارجية، وأفرز مضاعفات خطيرة في القيم وشبكة العلاقات الاجتماعية.
ومحور هذه الأمة كامن في التصور الخاطئ لـ"مفهوم الأمة" و"المثل الأعلى" الذي يجسد هذا المفهوم في واقع الحياة، ويبقى إنسان تلك الأقطار حبيس الولاء للعصبيات الضيقة، وينتهي بنظم التربية، ومؤسساتها إلى إخراج إنسان عاجز عن التكيف مع الخلق الجديد والتطور، وعاجز عن دخول عصر العالمية الذي جاءت الرسالة الإسلامية لتسهل للبشرية تخطي أعتابه، وعبور مسالكه والسعي في مناكبه.
والسبب الرئيس في هذه الأزمة هو -أيضًا- الانشقاق بين أدوات المعرفة الثلاثة -أي الوحي والعقل والحواس- مع اختلاف مظهر الانشقاق. إذ إن قيود العصبيات الدموية الضيقة تحول دون توفر الحرية -أو أوكسجين القدرات العقلية- ولذلك لا تنمو هذه القدرات ولا تنضج وظيفة العقل، فيظل إنسان تلك المناطق -خاصة الإنسان المسلم- عاجزا عن الانتفاع ببصائر الوحي المخزونة في الأسفار التي يحملها، ويتباهى بوراثتها عن آبائه، ويريد من الآخرين -بناء على هذا الإرث- أن يعترفوا له بدور "السادن" الذي يتلقى الجوائز وطقوس التبجيل.
فالأزمتان مختلفتان، ولكنهما متعادلتا التأثير والمصير. وسوف تنتهي كل منهما بمجتمعاتها إلى الانهيار: انهيار الأولى من الداخل، وانهيار الثانية أمام تحديات الخارج.
والخروج من هاتين الأزمتين يتطلب "فقها تربويا جديدا" يتخطى أصول الفقه التقليدية الشائعة بين الفريقين من مجتمعات العالم، ويبتكر أصولا جديدة -أو ما يسمى بالإنكليزية New Paradigms- كما يتطلب مربين جددا قادرين على النظر في المصادر الأصلية للتربية الإسلامية، وبناء نظم تربوية جديدة، وإقامة مؤسسات تربوية مجددة تتكامل فيها أدوات
المعرفة الثلاث: أي أدوات الوحي والعقل، والحواس لبلورة نموذج "مثل أعلى" جديد تتكامل فيه "غايات" الحياة مع "وسائلها".
والتوصية السابعة، هي أن التربية الإسلامية المنشودة تحتاج أن تتعمق في فقه "المظهر الاجتماعي للعبادة في الإسلام"1، ثم تتمحور حول الدعوة إليه وتتوسع في تطبيقه ليشمل العالم كله دون التزام بقومية من القوميات، أو جنس من الأجناس.
إن جانب القوة الذي مكن للشيوعية حوالي سبعين عاما هو تمحورها الإيدولوجي حول المظهر الاجتماعي للإصلاح، كما إن تنكرها لتطبيق هذه المظهر بعد التمكين، وقيام المعسكر الشيوعي قد أسهم في انفضاض أتباعها وانهيار مؤسساتها. وفي المقابل فإن انتباه الأقطار الرأسمالية للمظهر الاجتماعي، ومعالجته بقوانين الضمان الاجتماعي، وتشريعات العمل قد حال دون انتشار الشيوعية فيها، وأسهم في انتصارها في الحرب البادرة التي دارت بين المعسكرين.
لقد أهملت كل من مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية، وحركات الإصلاح والتجديد المظهر الاجتماعي للعبادة، فحصرت الأولى عملها في المظهر الديني، وتربية "فرد" يهيأ لعبور الآخرة منذ الولادة دون عبور بمحطة الدنيا. وتمحورت نشاطات الثانية حول إفراز "قومية دينية" سياسية تدافع عن "قابلية الاستعمار" في مزق الأمة الإسلامية المتوفاة، فكانت "عاقبة" الاثنين أن لم تنجح التربية التقليدية في الحفاظ على "أفرادها"، ولم تفلح حركات الإصلاح في تحقيق أهدافها.
ولكن يجب الانتباه إلى أن التصور الشيوعي لـ"المظهر الاجتماعي" قد حمل في طياته عوامل هدمه وإفشاله، وذلك من خلال مظهري الضعف التاليين:
1 للوقوف على تفاصيل -المظهر الاجتماعي للعبادة- راجع كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- للمؤلف.
الضعف الأول، هو خطأ النظر إلى -موقع الإنسان في سلم الوجود- فالشيوعية التي أنكرت الخالق، وتبنت الإلحاد كرد فعل لوقوف الكنيسة إلى جانب معسكر "المترفين"، وليس كنتيجة من نتائج البحث العلمي والنظر الموضوعي في الوجود، وضعت الإنسان في الموقع الأول في الوجود -وليس المركز الوسط. فكان من نتائج ذلك الفهم أن الشيوعية هدمت إحساس الإنسان بمسئوليته أمام الخالق الذي يحاسبه على أعماله الخيرة والشريرة. وبذلك جعلت "إنسانها العامل" أكثر عرضة لمرض -الطغيان والاستضعاف- اللذين نهضت الشيوعية أصلا لمجابهتهما. فعندما تراءى لـ"الحزب الشيوعي" أنه استغنى، طغى وانقلب إلى طبقة أرستقراطية أبشع من أرستقراطية الرأسمالية. وهبطت تطبيقات اللينية ونظائرها بـ"العمال" إلى قطعان بشرية مسلوبة التفكير والإرادة. وبذلك تنكرت الشيوعية -من الناحية العلمية- لقيمها ومبادئها مبرهنة قوله تعالى:{إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} .
والضعف الثاني، هو مفهوم الشيوعية عن "طبيعة الإنسان" الذي نقلته عن "الدارونية الاجتماعية"، والتي نقلها -دارون بطريقة غير مباشرة- عن الخطيئة الأصلية في المسيحية. فهذه الفكرة أصلت الشر في طبيعة الإنسان، وبررت نظرية الصراع الطبقي التي طرحتها الماركسية، وبذلك بذرت بذور الصراع، والتفكك بين أعتابها وفي مجتمعاتها نفسها.
والخلاصة أن التربية الإسلامية المنشودة، والمرشحة لإخراج أمة إسلامية جديدة تتصدى لمعالجة أزمات حارات قرية الكرية الأرضية تحتاج أن يتمحور عملها حول المظهر الاجتماعي للعبادة مع مراعاة الاختلافات الفكرية الحاسمة التي تميز الإسلام عما سواه خاصة مفهوم الإسلام عن "هوية الإنسان" الذي يضع الإنسان في المركز الوسط من سلم الوجود، ومفهومه عن "طبيعة الإنسان" الذي يقرر أن الإنسان خير في الأصل، والشر طارئ عليه، وليس العكس كما قررت المسيحية وتطبيقاتها في الشيوعية والرأسمالية.
وأهمية هذا التصور أن حركات الإصلاح، والتجديد التي تفرزها التربية الإسلامية المنشودة سوف لا تقف إلى جانب فريق من بني الإنسان ضد الفريق الآخر، وإنما سوف تعمل على إنقاذ جميع الفرقاء من مضاعفات مرض الانقطاع عن الله، والإسراف في حب الدنيا. فهذا المرض الذي ضربت مضاعفاته ميادين الحياة -خاصة الميادين الاجتماعية والاقتصادية- فأصابت "المترفين" الرأسماليين بسرطان "الطغيان" حين أبطرتهم القوة والثروة، فتخطوا حدود الوسطية، وقوضوا التوازن في الاجتماع الإنساني، وتحولوا إلى مترفين متسلطين سلبوا الآخرين حقوقهم في الحرية والعيش الكريم، وسلبوا أنفسهم محبة الله والناس من حولهم، وأحاطوها ببيئات الحقد ومجتمعات الكراهية وفقدان الأمن.
كذلك أصاب المرض المذكور العمال "المستضعفين" بسرطان "الهوان" حين أيأسهم فقدان القوة، والثروة والعدل فتحولوا إلى كافرين بالخير معادين للدين والأخلاق والإنسان.
ووضوح هذا التصور لإنسان التربية الإسلامية المنشودة يجعل هدف -إخراج الأمة المسلمة- أن تكون المرشد الأعظم Supreme Guide، وليس القوة العظمى Super Power، وهذا هو المنصب الذي ترمز إليه -قصة ذي القرنين- في سورة الكهف من القرآن الكريم: فإذا توجهت -الأمة المسلمة- شرفا ووجدت شعوبا معرضة لهجمات همجية يأجوجية ومأجوجية، فإنها لا تستغل ضعف هذه الشعوب، ولا تجعل منها سوقا دولية للسلاح. وإذا توجهت غربا ووجدت شعوبا جاهلة متخلفة، فإنها لا تستغل جهلها وتخلفها لابتزاز ثرواتها ومصادر عيشها، وإنما تدافع عن المعتدي عليه، وتأخذ بيد الجاهل المتخلف قائلة لكلا الطرفين إذا عرضوا عليها أجرا:"ما مكنني به الله خير!! ".
وهذا النموذج لـ"الأمة المسلمة" عامل رئيس في تحديد صورة -المثل الأعلى الجديد- الذي يجب أن تطرحه مؤسسات التربية الإسلامية للعالم
كله ليكون علاجًا حاسمًا لمرضى "الطغيان" و"الاستضعاف"، ومضاعفاتهما في الاستكبار والاستعباد، وليكون واقيا من استفحال عقلية "الطغيان" التي تنسى الله الخالق، وتغفل عن سننه في الاجتماع الإنساني والتاريخ، وتضع "الإنسان المترف" في المقام الأول في الوجود، وتهبط بـ"الإنسان المستضعف" إلى أسفل سلم المخلوقات. فعقلية الطغيان هذه عقلية خطيرة مدمرة تحمل في تلافيفها تدمير الإنسان وانهيار الحضارة. فقوة الله القيوم قائمة في التاريخ، فاعلة مهيمنة في الاجتماع الإنساني، وسوف نرى عملها فلا تستعجلوه!! وعلى التربية الإسلامية الجديدة، ومؤسساتها التنفيذة أن تقنع العالم بالبينة، وسلطان البرهان والعلم أن سنن الله لا يعلو عليها "الإنسان المترف" الذي يطغى أن رآه استغنى، فإن إلى ربنا الرجعي!!
والتوصية الثامنة، إن التربية الإسلامية المنشودة تحتاج أن تضع في قمة أساليبها بناء "مؤسسات القراءة"، والانطلاق -من القراءة- في كل عمل أو نشاط. والمقصود بالقراءة قراءة كل ما يتعلق بالأمم التي تسكن قرية الكرة الأرضية، ونشاطاتها وثقافاتها، وأنماط تفكيرها. ولا بد من توفير وسائل القراءة التي تبتكرها تكنولوجيا العصر، وتيسر الإحاطة بكل لغات العصر وفلسفات العصر وشئون العصر. ولا بد من توفير "القراء" المتخصصين المتفرعين الذين يتوزعون، ويتكاملون حسب موضوعات القراءة وميادينها ووسائلها؛ لأن "القراءة" المطلوبة يجب أن "تحيط" بكل ما يجري في قرية الكرة الأرضية، و"ترسخ" في التفاصيل الدقيقة قبل أن تقدم على أي تخطيط أو تنفيذ. وهذا هو اللائق بالأمة التي تنهض للعمل باسم دين بدأ الوحي فيه بكلمة "اقرأ"، ولم يبدأ بـ"صل" أو "زك" أو "حدج" أو "جاهد" أو
…
أو
…
لأن كل صلاة أو زكاة أو حج أو جهاد، أو عمل لا تسبقه قراءة راسخة محيطة بأهداف العمل وميادنيه ومناهجه، وطرقه ووسائله وأدواته وطبيعة عصره، وبيئته سوف يكون عملا فاشلا خاسرا.
إن آفة -المسلم التقليدي- الموجود أنه يناصر، ويخاصم بدون قراءة،
وهو إن قرأ فقراءته سطحية لا تتصف بالإحاطة والرسوخ. يناصر الإسلام ولا يقرأه، أو هو يقرأ شعارات عامة وملصقات ذهنية غانمة. ويخاصم الفلسفات والأيدولوجيات -كالشيوعية أو الرأسمالية- ولا يقرأ كتبها الأصلية وأصولها الفكرية، وإنما يررد ما تنتشره الصحف، أو تبثه إذاعات المعسكرات الممثلة لها والمتنافسة لقولبة الأذهان، وتعبئة المشاعر وتشكيل الاتجاهات، ولذلك يقع المسلم التقليدي في أخطاء قاتلة، وينتهي إلى إحباطات مدمرة!!
والتوصية التاسعة، أن التربية الإسلامية المنشودة تحتاج إلى شجاعة ووعي لفك الارتباط القائم بينها وبين "أزمات العصبيات القبلية والإقليمية" المتتالية في "مزق" الأمة الإسلامية. أي بحاجة أن تتخذ طابعا عالميا -إنسانيا في الطروحات الفكرية والولاءات العملية، وأن تتوجه في استراتيجيتها الكبرى إلى حشد "المؤمنين" الأقوياء من حارات قرية الكرية الأرضية، وإخراج الأمة الإسلامية الجديدة التي تملأ الفراغ في الأرض المباركة التي حدد حدودها، وأقام مؤسساتها الرسل الكرام ابتداء من إبراهيم حتى محمد صلوات الله وسلامه عليهم.
وعلى التربية الإسلامية أن تحذر من الطابع القومي الذي أفرزته مناهج التربية التقليدية، والتربية المستوردة وأدت إلى وضع العمل الإسلامي في خدمة المضاعفات التي يتسبب بها "حران"1 العربي المعاصر، والباكستاني المعاصر، والإيراني المعاصر ونظائرهم، وأقرانهم في مزق الإسلامية المتوفاة عن دخول عصر التكتلات العالمية التي تلغي الحدود الإقليمية، وتطلق الولاءات العصبية، وترتقي إلى دائرة الولاء لـ"الأفكار" الإسلامية العالمية، وعناصرها المكونة للأمة المسلمة الحقة.
فسرطان المسلم التقليدي الذي يهيؤه، لأن يستبدله الله بأقوام لا
1 الحران: من الفرس أو البغل الحرون. أي الذي يتوقف ويرفس، ويرفض السير أو الجري.
يكونون أمثاله، هو هذا الحران العنيد الذي يصر على البقاء في طور العصبيات الإقليمية، والقبلية ويرفض الانتقال إلى طور "الأمة العالمية" الدائرة في فلك "الأفكار" الإسلامية، ويتحايل على دائرة الانتماء الإسلامي بمنظمات صورية تعمل كمقابر لمشكلات "مزق" الأمة الإسلامية المتوفاة!! الأمر الذي خرج به عن صراط الإيمان والإسلام، وأركسه في تعرجات النفاق الذي بدأ صغيرا ثم تطور إلى نفاق أكبر أركسه في الدرك الأسفل من هوان الدنيا، ويؤهله للدرك الأسفل من نار الآخرة!
ولا يقتصر هذا الحران العنيد، الذي يفرض الانتقال من "ثقافة العصبية القبلية" وتطبيقاتها، على الأنظمة السياسية والإدارية القائمة في "مزق" الأمة الإسلامية، المتوفاة!! بل إن الحركات الإسلامية القائمة لم "تتزك" من ثقافة العصبية القبلية، وإنما بقيت غارقة في حمأتها حتى الأذن. فالمرشد العام للجماعة، أو المراقب العام، أو الأمين العام للجبهة أو الحزب يبقى مرشدًا "راشدا"، وأمينا "أمينا" مدى الحياة محاطا بـ"العصمة" التي تحيط بشيخ القبيلة، ولا يطوله النقد الذي طال الخليفة عمر بن الخطاب. وحين يشيخ "معاوية"، أو يموت يرثه في منصب المرشد أو المراقب، أو الأمين العام أو المجلس النيابي ولده "يزيد". والمجموعة المتعاونة معه لا يجري اختيارها طبقا لمقاييس الدوران في فلك "أفكار" الجماعة أو الحزب، وإنما طبقا للدوران في فلك "أشخاص" القربى والمصاهرة، والشراكة التجارية والصدقات الشخصية، والانتماء الإقليمي أو طبقا لمستوى امتلاكهم لـ"أشياء" الدنيا وأمثال ذلك.
والدعوة ليس لها استراتيجية ولا خطط ولا مؤسسات، وإنما هي ارتجال وردود فعل لما يطرحه الإعلام المحلي والعالمي، واستجابات إشراطية منفعلة كاستجابات الحمية القبلية. وأساليب الدعوة تقتصر على -الخطابة والموعظة غير الحسنة- القائمة على الانفعال والارتجال، الجاهلة بالنفس البشرية ومفاتيحها. وليس هناك مؤسسات لإخراج من يدعو
بـ"الحكمة" والإعداد الموازين لمتطلبات العصر. وليس هناك مؤسسات لإعداد المفكرين المختصين بـ"الجدال الأحسن" الذين يخاطبون الفكر الإنساني كله بـ"أحسن" مما عنده. وليس هناك مؤسسات لـ"شهود" ما يجري في قرية الكرة الأرضية، و"قراءته" قراءة راسخة محيطة تمهد لـ"حكمة" التخطيط والتنفيذ. ليس هناك شيء من هذه المؤسسات والاستراتيجيات، بل الأمر متروك للكر والفر الخطابي، وللجهود الفردية. فإذا أفرزت الصدقة مفكرا فردا فظهر أمره، وشاع استثمرت الجماعة أو الحزب أفكاره، ومجهوداته -ما دامت توصف بالصواب وتحظى بالقبول، وإذا تناول النقد أفكار الفرد المذكور، أو أصاب التطرف تطبيقاتها تبرت الجماعة من المفكر، وأفكاره وألقت المسئولية عليه وحده.
والتوصية العاشرة الأخيرة، أن يتم التنسيق بين كافة المؤسسات المقترحة لتكون دائرة عمل فاعلة -متجددة بتحدد الحياة واستمرارها. ومثلما كان الطائر والسمكة هما النموذج الذي اهتدى به مصممو الطائرة والسفينة، فكذلك يجب أن يكون جسد الإنسان هو النموذج الذي يهتدي به تنسيق العمل الإسلامي ودائرة التنظيم المقترحة. فكما تحتل غدد الإفراز الموجهة -كالقلب والدماغ والرئتين والكلى، والبنكرياس -أحصن المواقع في الجسد وأخفاها حتى عن بصر صاحب الجسد نفسه، وتقوم بوظائف بعث الحياة في الجسد وتوجيه أنشطته وتنقيته مما يؤذيه، كذلك يجب أن يحل العمل الإسلامي -علماءه ومفكريه، أو "أولو الأمر" فيه- أحصن المواقع وأخفاها حتى عن عناصر العمل الإسلامي نفسه، ليقوموا في مواقعهم الحصينة الخفية بوظائف ثلاث: الأولى، تطوير -المثل الأعلى- اللازم لكل جيل من أجيال العاملين لإخراج الأمة المسلمة وعافيتها، والثانية، رسم الخطط والاستراتيجيات، والثالثة، التقويم والمراجعات والتزكية من المعوقات. فالعمل الإسلامي لديه الخبرة الكافية -إن كان يعقل- عن سياسات "حكماء مترفي قرية الكرة الأرضية" إزاء الرؤوس المفكرة المسلمة، وإبطال فاعلية العمل الإسلامي وإيقاف حركته.
ويمكن أن نمثل لدائرة التنظيم المقترحة بالرسم التالي:
هذه بعض التوصيات التي لا تعدو أن تكون مثيرات، ومنبهات للذين سوف يرشحهم الله لإخراج -الأمة المسلمة- من جديد، فلعلها تساعدهم على آداء فرض الله في "العمل الجماعي"، وتجسيد قوله صلى الله عليه وسلم:"يد الله مع الجماعة".