الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصناعية مع توفير الأنشطة الرياضية والفنون والدراما، والموسيقى ولكن التجارب التي تمت في هذا الميدان لم تحل المشكلة. كذلك دعا آخرون إلى ما أسموه بـ"الحل الواقعي" وهو توفير فرص التنافس بين التلاميذ في المدرسة من خلال الامتحانات كأسلوب لتدريبهم على التنافس في العمل المستقبلي، وإعطاء المتفوقين منهم جواز السفر اللازم للوظائف الجيدة، وبذلك يتم التوافق بين الأهداف المتعلقة بالعمل والصناعة. ولكن واقع التطبيق لم يحقق هذا التوافق المفترض.
ويعلق -جون وايت- على هذا الواقع المستعصي، فيذكر إن أسلوب "الحل الوسط" لم يرأب الصدع القائم بين النوعين من أهداف التربية: أهداف تربية الفرد، وأهداف المجتمع الصناعي.
ب-
أصحاب "نظرية التآمر الطبقي في التربية
":
يشيع هذا الرأي بين عدد غير قليل من علماء التربية، وعلم النفس المنتشرين في عدد من الجامعات الأميركية. ومن أبرزهم: صمويل بولز Samuel Bowels وهربات جنتز Herbert Gintis وجول سبرنج Joel Spring ومارتن كارنوي Maxtin Carnoy وإيفان إيللتش Ivan Illich وكريستوفر جنكس Christopher Jencks ومايكل كاتز Michael Katz ودون مارتن T. Martin Don ووليم توماس William B. Thomas.
ويرى أصحاب هذه النظرية أن أهداف التربية الحديثة تنطلق من قاعدة أساسية جرى بلورتها وتركيزها بإتقان، وهي تبرير النظام الاقتصادي القائم ودعمه، واستعمال التربية لترويض الناشئة على تقبله وتنفيذ سياساته، والدفاع عنه وعدم الانتباه لنقائصه.
وخلاصة هذه النظرية إن أصحاب العمل يشيعون في المصانع، والمؤسسات والمجتمع نماذج من العلاقات الاجتماعية والتنظيمات الإدارية، وعادات العمل والمهارات التقنية التي تستهدف تطويع العمال، وتجريدهم من
ثمرة جهودهم إلى جانب تجريدهم من النزعات السياسية، ونزع فتيلة الانفجار المحتمل في العلاقات القائمة بين أصحاب العمل والعمال.
ولتحقيق هذه الأهداف كلها يجري تخطيط الأهداف التربوية، ومناهجها لتعويد الطلبة -منذ وقت مبكر- على تقبل هذه الأوضاع المذكورة، وتخليد الأحوال الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية التي يتم خلالها سلب العمال والموظفين من ثمرات عملهم المتمثلة في الزيادة الهائلة في أرباح أصحاب العمل.
وتؤدي التربية هذه الوظيفة المشار إليها من خلال -مبدأ تطابق دقيق Correspondence Principle- بين العلاقات الاجتماعية والمهارات التقنية التي تحكم نظام العمل، وبين العلاقات الاجتماعية والمهارت التعليمية التي توجد النظام التربوي، خاصة علاقات السلطة، والضبط العامودية القائمة بين مدراس التربية ومدراء المدارس، وبين مدراء المدارس والمعلمين، وبين المعلمين والطلاب، وبين الطلاب والطلاب، وبين الطلاب وواجباتهم المدرسية.
فهذه كلها تتطابق مع العلاقات الطبقية الفوقية التي يراد إشاعتها، وترسيخها بين أصحاب العمل ومدراء المصانع، ثم بين مدراء المصانع ومراقبي العمال، ثم بين مراقبي العمال والعمال، ثم تقسيم العمل السائد في المصنع والمؤسسة. فالسلطة منظمة عبر خطوط رأسية تبدأ من الإدارة العليا للتعليم، وتنحدر إلى مدير التربية ثم إلى الهيئة التدريسية ثم الجسم الطلابي. ويتطابق مقدار الحرية المعطى للطلاب للتعامل مع مواد المنهاج مع مقدار الحرية المعطي للعامل للتصرف بوظيفته. ونظام الدوافع المدرسية كالعلامات، والجوائز والتهديد بالسقوط وثمار النجاح يطابق الدور الذي تلعبه أنظمة العمل، ودوافعه كالأجور وشبح البطالة. والتنافس غير البناء بين الطلبة وإشاعة الحسد والخصومات بينهم يطابق العلاقات غير الحسنة الشائعة بين العمال. وتتطابق الواجبات المدرسية المرهقة، وملء فراغ الطالب بالأعمال الثقيلة مع كمية العمل التي تعطي للعامل وتشغل أوقاته. ويتطابق تقسيم
المعرفة الأكاديمية إلى تخصصات غير مترابطة مع العلاقات الهشة بين العمال والموظفين، وتقسيم الوظائف الرتيبة المملة. كما إن امتحانات الذكاء IQ وامتحانات القدرات المهنية هي وسائل مصممة لغرس القناعات النفسية الراسخة بأن المستقبل الذي يراد للطلاب في أماكن العمل هو ما يتفق مع قدراتهم العقلية، واستعداداتهم النفسية، وإنهم يتحلمون -هم أنفسهم- مسئوليات النجاح والفشل في حياتهم.
ويضيف أصحاب هذه النظرية، إنه بالرغم من هذا التطابق بين الأهداف التربوية، وأهداف أصحاب العمل، إلا إن الأهداف التربوية تحمل في طياتها التناقض والاضطراب. ففي الوقت الذي تدرب المدرسة الناشئة ليكونوا في المستقبل عمالا طائعين، فإنها تغرس فيها بذور التمرد والشغب. وفي الوقت الذي تدرب الجامعة الطلبة ليكونوا بيروقراطية الإدارة والهيمنة في أماكن العمل فإنها تشيع بينهم المعارضة والنقد لأصحاب العمل. كذلك تسهم أهداف أولياء الأمور في هذا التناقض؛ لأن أهدافهم التي أرسلوا أبناءهم من أجلها إلى المدارس والجامعات إنما تدور حول تحسين أحوالهم الاجتماعية، ورفع مستواهم الاقتصادي وهذه تتناقض مع أهداف المؤسسات الاقتصادية في الهيمنة والربح الوافر1.
ولو نظرنا -نظرة محايدة- في مختلف هذه الآراء مقرونة بأهداف التربية الحديث كلها لوجدنا أن التناقض يعود إلى بشرية المصدر الذي تستمد منه هذه الأهداف سواء أكان فردا أو جماعة. فالاتجاه الذي ينطلق من "تلبية رغبات الفرد وحاجاته" يجد نفسه بعد فترة أمام مجموعات من "الرغبات والحاجات". فالأفراد الذين يحققون قسطا معينا من النجاح خلال مسيرة الحياة تتركز "رغباتهم وحاجاتهم" حول ثمرات هذه النجاح وتتفق مصالحهم في التحالف للمحافظة على هذه "الثمرات"، وزيادتها التي لا تقف
1 Samuel Bowels & Herbert Gintis، Schooling in Capitalist America، "New york: Basic Books Inc. 1967" PP. 10-11.
عند حد طالما إن الإنسان يتمنى واديا ثالثا من ذهب إذا كان له واديان -كما قال صلى الله عليه وسلم وكما أثبته واقع المليونيرات في العصور المختلفة.
أما الأفراد الذين لم يحققوا هذا النجاح، ولم يحصلوا على ثمراته فتتركز "رغباتهم وحاجاتهم" في التطلع إلى ما حصل عليه الآخرون، وتتفق مصالحهم في التحالف للوصول إليه بكل الوسائل الممكنة.
وهكذا تنشأ في المجتمع -طبقات- بعضها يستهدف المحافظة على التفوق والكسب والامتياز، وبعضها يستهدف الخروج من حالة الحرمان والفضل ويبدأ الصراع الطبقي.
أما الاتجاه الذي ينطلق من "تلبية رغبات المجتمع وحاجاته"، فإنه في الواقع بعض صيحات -الطبقة المحرومة الفاشلة. ومعروف إن دوركايم رائد هذا الاتجاه كان من صفوف اليساريين في فرنسا. وحين ينطلق هذا الاتجاه من أعلى، فهو يمثل "حاجات ورغبات" أولئك الذين يمسكون بدفة المجتمع ويتحكمون بمصائره. أي إن رغبات المجتمع تنتهي لتكون رغبات طبقة معينة كذلك، ولكنها تغلفها بأغلفة مطاطة فضفاضة غائمة كالمصلحة العامة، ومصلحة المجتمع.
ويفصل -جول سبرنج 1Joel Spring- في الكشف عن جذور الأنظمة التربوية التي رفعت شعارات، وأهداف عامة مثل "المواطن الصالح" و"الوطنية" و"القومية" و"الصالح العام"، ويتتبع تاريخها بشكل علمي يقترن بالوقائع والأسماء والتواريخ ثم يخلص ليقول:
"يمكن مقارنة الوطنية بالدين. فهي لها رموزها وطقوسها ذات النكهة الصوفية. فجوهر الوطنية هو تعليم الفرد محبة مفاهيم نظرية غائمة
1 جول سبرنج Joel Spring أستاذ تاريخ التربية في جامعة سينسناتي Cincinnati ومن مشاهير مؤرخي التربية المعاصرين.
ميتافيزيقية كالقومية ومصلحة الشعب. ولهذا يجري تركيز ممارسة هذا الديانة على احترام الأعلام الوطنية، والشارات والنصب التذكارية، والموسيقى الوطينة
…
والالتصاق بهذه الرموز هو التصاق شعوري عاطفي، وليس التصاقا عقليا
…
ولقد كانت القومية والوطنية من أعظم القوى المدمرة في الحضارة المعاصرة؛ لأن القتال لحماية -راية من الرايات، أو مفهوم "شعب" قد أدى إلى هلاك الملايين من البشر"1.
ويضيق -سبرنج Spring- إنه بالرغم من هذه -المتيافيزيقا التربوية- فإن البحث في تاريخ التربية الحديثة يكشف عن أن أهدافها التي رفعتها هي أهداف الأقلية البيروقراطية الحاكمة باسم الشركات والمؤسسات الرأسمالية. فالمواطنة السياسية في التربية الحديثة تستهدف حماية المصالح الاقتصادية لطبقة الملاك، وتجنيد بقية الطبقات لحماية هذه المصالح مثلما تجندها لزيادة الإنتاج. والأنظمة السياسية هي مجموعة البيروقراطيين الذين يقومون بمهمة استثمار الطبقات العاملة لحماية الاحتكار الاقتصادي، وتوفير فرص النمو والاستثمار لهذا الاقتصاد.
ويدلل -سبرنج- على خضوع التربية الحديثة للشركات، والمؤسسات الصناعية والمالية بظاهرة تربوية قائمة وهي إن البحث التربوي، وتطوير النظم التربوية يرتبط إلى حد كبير بتوجيه المؤسسات التابعة للشركات، والمؤسسات الاقتصادية الكبرى. كما إن الباحثين التربويين يركزون على الموضوعات التي تقترحها جهات التمويل المذكورة، وهم يختارون موضوعاتهم من الموضوعات التي تقترحها هذه الجهات، ويتنافسون في الحصول على المنهج والجوائز التي تقدمها هذه الجهات كذلك.
وبالتالي فإن الأهداف التربوية والنظم التربوية التي يفرزها البحث
1 Joel Spring، Eduction The Worker Citizen، "New york: Longman، Inc. 1980" PP. 9-10.
التربوي تأتي ممثلة لمصالح طبقة رجال الأعمال والبيروقراطيات الحاكمة باسمها، ولا تمثل المجتمع والإنسان بشكل عام1.
ويضيف -سبرنج Spring- إن من أبرز من عكسوا هذه الاتجاهات ووظفوا التربية في خدمة رجال الاقتصاد والصناعة في الغرب هو -جون ديوي. وإن خلاصة أفكار ديوي وتطبيقاتها التربوية ركزت على تلبية حاجات الصناعة المتغيرة، وإعداد المدرسة الحديثة لخدمة المؤسسات الصناعية، وتدريب الطالب على حياة العمل وعلاقات المصنع.
أما في المعسكر الشرقي الشيوعي فقد قام بدور -ديوي- المفكر التربوي السوفياتي -أنطون ماكرنكو- Anton Makarenko. ومع إن النظام الاقتصادي في كل من المعسكرين الغربي والشرقي يختلف عن نظيره، إلا إن الأهداف التربوية تشابهت من حيث إعداد الفرد الإنسان لتلبية حاجات المؤسسات الصناعية الحديثة دون عناية بإنسانيته2.
والخلاصة إن مشكلة تناقض الأهداف التربوية في التربية الحديث تتركز في بشرية مصدرها. ولكن لا بد من التنبيه إلى حقيقة معينة لها دلالالتها، وشواهدها في تطبيقات التربية الإسلامية قديمًا وحديثًا.
إن إلهية المصدر في أهداف التربية الإسلامية يجب أن تكون مقرونة بتنمية قيم التقوى، والإحساس الشديد برقابة الله. ذلك إن التربية الإسلامية -كما مر في كتاب فلسفة التربية الإسلامية- تنمي علاقة القيام بالمسئولية الاجتماعية نحو الآخرين بدل توجيه الفرد لحقوقه وحاجاته ورغباته، فإذا لم تكن هذه المسئولية مقرونة برقابة الله، وتقواه تنقلب إلى تسلط ممزوج من الأبوة القبلية والدكتاتورية السياسية في المجتمع والمؤسسة والأسرة، ويرى الفرد إنه المسئول عن كل شيء وإن لا حق لغيره في مشاركته في شيء.
1 Joel Spring، Op. Cit، PP. 156-159.
2 Ibid، PP. 22-29.
وأكثر ما تبرر آثار هذا التطرف في الميادين السياسية حيث تتعدد الرؤوس التي تمارس المسئولية، ويصعب التنازل والاتفاق.
أي إن مضاعفات فساد علاقة المسئولية في المؤسسات التربوية الإسلامية هي عكس مضاعفات فساد هدف "تنمية الإحساس بالحقوق والحاجات" في المؤسسات التربوية الحديثة حين تتعدى الحقوق والحرية حدودها، وتنفلت من كل قيد اجتماعي أو أخلاقي.
ولذلك حين تنحل المجتمعات الإسلامية تنحل سياسيا، وحين تنحل المجتمعات الغربية تنحل اجتماعية.