الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثلاثون: ضرورة التألف الإنساني كهدف من أهداف التربية المعاصرة
أصبحت الوحدة الإنسانية ضرورة معيشية في واقع الحياة المعاصرة أكثر من أية مرت بها البشرية من قبل، وذلك للأسباب التالية:
السبب الأول، لم يعد ممكنا -في العالم المعاصر- استمرار الروابط العائلية والقومية والوطنية والجنسية؛ لأن التجمعات البشرية التي قامت على هذا الرابط آخذة -اليوم- في الانهيار المتسارع. فالتقدم التكنولوجي الهائل في ميادين المواصلات والاتصالات، والأقمار الصناعية والأعلام والنشر قد قرب المسافات بين أقطار الأرض، وأدى إلى سرعة الهجرات والأسفار القارية، وإلى تشابك العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية، والاجتماعية وأحال الحياة على الأرض إلى ما يسميه -رجال الاجتماع- "قرية الكرة الأرضية". وهذا واقع مزق المؤسسات الاجتماعية القديمة- كالأسرة الكبيرة، والقبيلة، والشعب، -وبعثر أعضاء كل منها من أرجاء الأرض كلها. ولو أننا نظرنا في واقع البلدان القائمة في الوقت الحاضرة لوجدنا كل بلد -هو الآن- خليط من جميع الأجناس المهاجرة من هنا وهناك، وأن نسبة السكان الأصليين فيه لا تتعدى النصف على الأكثر، وإن أقطار العالم استحالت إلى ما يشبه -السوبر ماركت- الذي يحمل على المدخل اسما وطنيا، ولكنه في الداخل يضم مئات الأصناف المستوردة من أقطار الأرض كلها.
والذين تعدوا الروابط الإقليمية والطائفية، والوطنية والعصبية العائلية أو العنصرية، ولكنهم لما يستشرفوا بعد الرابطة العالمية، يعيشون اليوم -نفسيا
وشعوريًّا- في برزخ الطورين: طور الانتماءات التقليدية المنحدرة من الأطوار السابقة، وطور الانتماء الإنساني الجديد الذي تفرضه أحوال الطور الجديد وعلاقاته ونشاطاته. ولعل وقوف البشرية كلها في برزخ الطورين هو الذي يضع المجموعات البشرية المعاصرة في دوامة التذبذب، والسلوك المتناقض بين التواصل، والتنابذ في جميع سياساتها ومظاهر حياتها.
ففي الوقت الذي تتوالى فيه مجموعة من الظواهر الجديدة الكاسحة التي تدفع العالم إلى طور الوحدة الإنسانية كالتفاعل الثقافي الذي يتضاعف يوميا بسبب نشاطات المؤسسات، والجمعيات العلمية والتربوية، ودور النشر في العالم كله، والتفاعل الاجتماعي الذي تتضاعف نسبته بسبب المواصلات العالمية والهجرات العالمية للعمل والدراسة، والإقامة والزواج العالمي بين الأجناس، وتشابك الاقتصاد العالمي. فإن هناك حواجز كبيرة من تراث الماضي، والرواسب التاريخية التي تضع العثرات في طريق المسيرة العالمية نحو الوحدة، ويمثل هذه الرواسب الأفكار العنصرية القديمة، والفلسفات والقيم الطبقية والتاريخ الملطخ بالأحقاد، والنعرات العصبية.
ويزيد في مضاعفات هذه السلبيات التاريخية، والاجتماعية الفجوة الواسعة بين الفكر والسياسة في العالم المعاصر. ففي حين ينزوي الفكر ليجتر مثله، وقيمه في الجامعات ومعاهد البحث، فإن السياسة تشكل الواقع القائم طبقا للاتجاهات المقولبة في قوالب الأيدولوجيات القديمة، والمصالح الموقوتة الضيقة.
ولقد أحس بهذه الظاهرة نفر غير قليل من رجال الفكر والتربية في العالم المعاصر. من ذلك ما يقوله البروفسور جيمس بيكر:
"لقد توحد العالم إلى درجة كبيرة من الناحية الجغرافية والتكنولوجية والاقتصادية. ومع ذلك فليس لدى الإنسان خطط، ولا تصور ولا مؤسسة للحفاظ على هذه الوحدة الأساسية ودعمها. فما زالت عادات الإنسان وأفكاره، وممارساته تصطدم مع المقومات الأساسية لوجوده، وما زالت
غرائزه وولاءاته ذات صبغة قبلية بالرغم من التطور الذي مر به خلال مئات الآلاف من السنين"1.
ويستعرض صاحبا كتاب -التواصل العالمي Global Reach- مظاهر النشاطات الاقتصادية التي تجعل الوحدة بين أقطار الكرة الأرضية حقيقة ملموسة في الميدان الاقتصادية بينما تعمل نزعات السياسيين المتخلفة، وشعارتهم وممارساتهم المتناقضة على دفع العالم في دوامة التناقض والصراع2.
كذلك انتقد هذا التناقض العالم الأمريكي -رينيه دوبوا- بقوله:
"إن مصطلحات -العالم الواحد- و -الأخوة الإنسانية- تتردد بشكل لا يتناهى في المحادثات والمحاضرات السياسية، في الوقت الذي يطفح العالم بالحروب السياسية، والاضطرابات العنصرية"3.
ويعالج هذه الظاهرة -المؤرخ البريطاني توينبي- بروح أكثر متفائلة، فيذكر إن الوحدة العالمية قادمة لا محالة، وإن الحضارة مقدمة للديانة، كما كانت الحضارة الرومانية مقدمة للمسيحية التي وجدت في طرق المواصلات الشهيرة التي بناها الرومان، والأمن الذي أشاعوه على جوانب هذه الطرق وسائل سهلت تنقل دعاتها الذين نشروها في مناطق تلك الحضارة.
ويضيف توينبي بما يشبه التلميح إن هذا التقدم التكنولوجي الحاضر الذي أنجزه ورثة الرومان من الغربيين المعاصرين ينتظر ذلك الشرقي القادم ليزين جبين هذا التقدم التكنولوجي بعنصر العقيدة، والروح مثلما زين أسلافه الحضارة الرومانية. ويضيف توينبي أيضًا إن العالم أحوج ما يكون اليوم إلى
1 James Becker. Education For A Globel Society، "Indiana: Bloomingtion: The Phi Delta Kappa، 1973" P. 7.
2 Richard J. Barnet & Ronald E. Muller، Global Reach: The Power Of Multinational Corporations "New york: Simon and Schuster، 1974".
3 Rene Dobos، So Human And Animal، P.4.
فضائل الإسلام خاصة تلك الأخلاق التي تساوي البشر وتحارب المخدرات.
السبب الثاني، لضرورة الطابع العالمي للبشرية المعاصرة هو إن العلم قد كشف عن أصول هذه الوحدة العالمية، وأبرز الحاجة إليها كعامل أساسي من متطلبات استمرار الحياة على الأرض، وتجنب الكوارث المدمرة. وكشف خطأ الفرضيات والفلسفات العنصرية التي قسمت بني البشر إلى مجموعات تتفاوت في الأصل، والمقومات الأسياسية للوجود الإنساني. والأبحاث في ذلك كثيرة جدا، منها ما انتهى إليه -إيرك فروم- حين قال:
"إن الفروق في الذكاء والعقليات والمعارف كلها قابلة للإهمال إذا قورنت بهوية الإنسان وجوهره. ولاكتشاف هذه الهوية يجب تخطي ظاهر الإنسان إلى فطرته وجوهره؛ لأن النظر إلى ظاهرة يكشف عن فروق تباعد بين بنيه. ولكن النفاذ إلى جوهره يكشف لنا حقيقة الأخوة التي تجمع بين البشر"1.
والسبب الثالث، الذي يجعل الوحدة العالمية ضرورة مباشرة هو الطابع العالمي للمشكلات والقضايا التي يواجهها العالم المعاصر. فتلوث الماء والهواء، والحاجة إلى زيادة الغذاء، وأزمات الصناعة والتضخم المائي، وسباق التسلح، والقرارات المتعلقة بالتنمية القومية كلها أصبحت تتخطى الحدود القومية، وتستدعي تكاتف الجهود العالمية.
1 Erich Fromm. "The Nature of love" in The Contemporary Scene. ed by Weiz، p. 159.