الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسلبية، وللوقوف من خلال هذه التفاصيل على صدق الخبر الذي يقدمه القرآن حول هذا الشأن، وتوظيف هذا الصدق في تقويم المسيرة الإنسانية، والعودة بها إلى سابق وحدتها.
وانطلاقا من ذلك كله وضعت الرسالة الإسلامية في أصول منطلقاتها التربوية بذل الجهد -بما فيه جهد المال والنفس- لرد الإنسانية إلى سابق أصلها ووحدتها:
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] .
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] .
وفي الحديث النبوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع قال:
"يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى أبلغت؟ " قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
1 مسند أحمد، جـ12 "تحقيق الساعاتي"، ص226، رقم 427.
2-
الأساليب والوسائل العملية لتحقيق الوحدة الإنسانية:
لتحقيق هدف -وحدة الإنسانية- عملت التربية الإسلامية على توفير ثلاثة أمور هي: الأول، جهاز تربوي ضخم يتناسب حجمه مع حجم البشرية التي تسكن الكرة الأرضية. والثاني، مؤسسات تربوية تتسع للجهاز التربوي المشار إليه وتوفر له القيام بوظيفته بين أهل الأرض جميعًا. والثالث، أساليب تربوية لها من الشمول والواقعية، وقلة التكاليف بما يتناسب مع الهدف المذكور. أما هذه الأمور الثلاثة فهي:
أولًا: الجهاز التربوي العامل لتحقيق وحدة الإنسانية -الأمة المسلمة:
تطلق التربية الإسلامية على هذا الجهاز مصطلح -الأمة- وهو مصطلح -كما قلنا- ذو محتوى فكري نفسي، ويختلف عن مصطلحات "الشعب" و"القوم" ذات المحتويات الدموية والجغرافية، وهو ذلك لا يقابله مصطلح مماثل في اللغات الأخرى كما فصلنا ذلك في باب -إخراج الأمة المسلمة.
ولذلك تحمل -الأمة المسلمة- مواصفات معينة لا تستيطع القيام بوظيفتها التربوية إلا إذا اتصفت بهذه المواصفات كاملة، وهي المواصفات التي استعرضناها في الباب الثالث من هذا البحث.
ولقد رأينا -عند استعراض مفهوم الأمة المسلمة ومكوناتها، ووظيفتها- أن الأصول الإسلامية تشترط على الأمة المسلمة ما يشبه التفرغ لآداء وظيفتها في التربية الدولية. فالقرآن يشترط عليها بذل الجهد الدائم، ورصد المقدرات -من المال والأنفس- في سبيل هذه الوظيفة. والرسول يحذرها من -اتباع أذناب البقر- أي الانغماس في الزراعة، و -التبايع بالعينة- أي الانغماس في التجارة انغماسا ينحرف ينحرف بها إلى الحد الذي ينسيها وظيفتها التربوية، ويجعلها تضع الوسائل محل الأهداف: أي تسهو عن وضع المال والأنفس في سبيل الرسالة، وإنما تستغل الرسالة ومؤسساتها لجمع المال وترفيه النفس.
والأمة المسلمة المخرجة لممارسة التربية الدولية لا تفرزها المصادر الدموية، أو العرقية وإنما هي تجميع وتركيب وإخراج مستمر لـ"أمة" لا يقتصر تكوينها على جنس من الأجناس، أو عرق من الأعراق وإنما هي أمة مفتوحة لجميع العناصر الصالحة من الإنسانية كلها، والتي ترغب المشاركة في وظيفة الأمة المسلمة، وتسهم في تكاليفها ومتطلبات البذل في سبيلها، وهذه هي وظيفة التربية المستمرة.
والناظر في نشأة الأمة المسلمة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أنها -منذ الأيام الأولى- حملت سمات العالمية في تكوينها. فالطليعة التي اعتنقت الإسلام، وكونت العامود الفقري في الأمة المسلمة آنذاك لا يمكن أن تنسب إلى الجنس العربي؛ لأنها كانت - بما فيها الرسول نفسه- تحمل في دمائها سمات العالمية من خلال الهجرات القديمة واختلاط العناصر. كذلك فإن دم إبراهيم الكلداني يجري إلى ولده إسماعيل مختلطا بدم المصرية هاجر، ثم يختلط دم إسماعيل هذا بدماء قبيلة جرهم اليمنية، ليكون ما عرف باسم -العرب المستعربة.
وإلى جانب العرب العاربة، والعرب المستعربة -أو العرب بالتجنس- ضمت الأمة المسلمة -الوليدة الفارسي والرومي والحبشي، وجمعت بين الأحرار والعبيد، والأغنياء، والفقراء. وفي كتب التفسير والسيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر للمسلمين أن العروبة ليست فيهم من أب وأم، وإنما هي اللغة، وإنه ذكر أن سلمان أول ثمار الفرس، وصهيب أول ثمار الروم، وبلال أول ثمار الحبشة1.
ولقد استمرت مسيرة الحضارة الإسلامية -بعد عصر النبوة- تحمل صفة العالمية في تركيبها الاجتماعي، ونشاطاتها الحضارية حيث أسهم في بنائها العربي والفارسي والتركي، والرومي والهندي والكردي والإفريقي وغيرهم من الأجناس، والأعراق الذين تكاملت جهودهم في جميع الميادين.
ولكن سياسات -التعرب بعد الهجرة كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وسلبيات العصبية القبلية التي ارتد إليها طلقاء مكة بقيادة الأمويين ومن حذا حذوهم، ثم إفرازات الشعوبية التي صاحبتها، كدرت المسيرة العالمية للأمة المسلمة، وكانت عاملا أساسيا في تشويه بنيتها والانتهاء بها إلى المرض ثم الانهيار.
1 الطبري، التفسير، ج22، ص96.
ثانيا: المؤسسات الإسلامية للتربية العالمية
هناك عدد من المؤسسات التي أقامتها التربية الإسلامية للإسهام في تحقيق التربية العالمية، وهذه المؤسسات هي:
أ- الأرض المباركة: التي يشير إليها القرآن الكريم عند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] . وتشمل هذه الأرض المنطقة التي رسمت حدودها مسيرة هجرة إبراهيم عليه السلام، ثم اتخذها هو والرسل من ذريته قاعدة لرسالاتهم وجهادهم، وتضم بلاد الشام، والهلال المحيط بها ابتداء من أرض الرافدين ومرورا بالحجاز حتى أعالي مصر. والقرآن الكريم يضفي على الرسالات المشار إليها طابعا واحدا يتلخص في العمل على إخراج "أمة الوسط" التي تبنى ثقافتها وقيمها على أساس الإيمان بالله، وتخطط استراتيجياتها على الأساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العالم كله. وبذلك تتحدد معالم الحضارة التي يجب بناؤها في الأرض المباركة، ونوع المؤسسات التربوية والفكرية العالمية التي تعدها "أمة الوسط" لنشر هذه الحضارة المؤمنة -الراشدة، وإرساء سياساتها المحلية والعالمية، وإقامة علاقاتها مع الأقطار المجاورة، وما يتلوها في الشرق والغرب والشمال والجنوب طبقا لوظيفة "أمة الوسط" المناطة بها.
ب- المساجد والمراكز التربوية: وأبرز هذه المساجد -أو المحور الرئيسي فيها- هو المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وولده إسماعيل في الطرف الجنوبي للأرض المباركة. ثم المسجد الأقصى الذي أقيم في الطرف الشمالي المقابل. والربط بين أرض المسجدين سواء في تقسيم أسرة إبراهيم بينهما، أو توجيهات موسى عبر سيناء إلى فلسطين، أو توجيهات سليمان من فلسطين إلى مملكة سبأ، إنما كان هدفه تحقيق التكامل بين المؤسستين الرئيسيتين وهما: المسجد الحرام والمسجد الأقصى.
ولقد بلغ هذا التكامل الأوج في المرحلة التي انتهت برسالة
محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أعاد للمسجد الحرام مكانته وبنى إلى جانبه المسجد النبوي الشريف. ثم إن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يشير إلى ربط مركز التربية بمركز الدعوة والنشر. فإذا كان المسجد الحرام هو -المثابة- التي يتوجه إليها الناس في صلاتهم، ويؤمونه في حجهم طلبا
للتزكية، والمثوبة إلى الرشد بعد الضلال، فإن المسجد الأقصى هو مركز الدعوة والتعليم الذي يقدم للغادين، والرائحين بين مشارق الأرض ومغاربها مبادئ الرسالة التي تستهدف الارتقاء بهم إلى روابط الإيمان، والوحدة والأخوة.
وهذه هي الاستراتيجية التي حرص أبو بكر الصديق على تعميقها في نفوس جيوش الفتح الإسلامي التي توجهت إلى بلاد الشام، حين أوصى هذه الجيوش بقوله:
"إنكم تقدمون الشام، وهي أرض شبيعة، وإن الله ممكنكم حتى تأخذوا فيها مساجد، فلا يعلم إنما تأتونها تلهيا، وإياكم والأشر"1.
وهي أيضا السياسة التي اختطها -بوعي وقصد- كل من نور الدين، وصلاح الدين وجيلهما حين طهروا بلاد الشام من أوكار الفساد الفاطمي وبذلوا أنفسهم لتطهيرها من الكفر الصليبي، ثم أنفقوا أموالهم لملئها بمعاهد العلم ودور القرآن والحديث ومدارس الفقه، والعلوم والصناعات المختلفة حتى كان في القدس وحدها "80" ثمانون معهدا ومدرسة؟!
والقرآن حين يربط بين المسجد الحرام، والمسجد الأقصى عند الحديث عن إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر -بما يشبه التهديد، والتحذير- أنه في كل مرة ينحرف المقيمون في هذه الأرض عن وظيفة -أمة الوسط- ويستبدلون المساجد بالقصور والفلل، ومراكز بدور اللهو والتجارة
1 كنز العمال، جـ3، ص713. الأشر: البطر. شبيعة: مشبعة بالخيرات.
ومتنزهات السياحة، فإن الله يرسل عليهم عبادا أولي بأس شديد ليجوسوا خلال الديار، ويدمروا مؤسسات الترف واللهو التي صرفت الأمة عن وظيفتها التربوية، وليفرغوا -ما حول الأقصى- لقدوم "أمة وسط" جديدة تلتزم هذه الوظيفة، وتقدم ما تتطلبه من تضحيات ونفقات1!!
جـ- طرق وأساليب التربية الإسلامية في التربية العالمية: حددت التربية الإسلامية طرق، وأساليب عديدة لتربية البشرية، والتدرج بها نحو الوحدة العالمية.
وأول هذه الطرق هو التوجه العالمي في الخطاب القرآني. ففاتحة الكتاب تبدأ بتوجيه "الحمد لله رب العالمين" أي لرب العوالم كلها: عوالم الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد، الذي ربط بين حلقاتها ونسق وجودها وبيئاتها، وهذه بداية تستهدف إنهاء فاعلية "ثقافات" الحمد العصبية القومية والإقليمية والقبلية والطائفية، والأسرية المفرقة للعوالم المذكورة، الملوثة لبيئاتها الملحقة للأذى، والخراب في نظمها وعلاقاتها. فالأساس في إرساء أصول التربية العالمية التي توجه إليها التربية الإسلامية هو الهجرة من دوائر الولاء للعصبيات المختلفة، ثم الارتقاء بعناصر الأمة المسلمة: أي عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، لتتفاعل على دائرة الولاء للأفكار الإسلامية
1 لعله من الموضوعية والنصح المفيد أن نقول: أن ما يدور -الآن- في منطقة ما حول الأقصى من فتن طائفية وإقليمية، وما يحل بأهلها من هجمات عدوانية سببه الرئيسي أن أهلها المعاصرين تخلوا منذ زمن عن دورهم في نشر الرسالة، والتربية العالمية وأغلقوا مؤسساتها ثم تحولوا إلى سماسرة دوليين في الاقتصاد والسياحة، واستبدلوا العلماء المربين بالمغنين والراقصين، والمساجد بدور اللهو، والمنابر بالأثاث والسرر، والعدل بالظلم، والإخوة الإيمانية بالعصبيات الإقليمية والقبلية والطائفية. وليست هذه الهجمات المتوالية التي تشن عليهم من أيام الصليبيين ومرورا بالمحتلين، والمستعمرين من الإنكليز والفرنسيين حتى الهجمة الصهيونية، ومضاعفاتها إلا تطبيق من تطبيقات التحذير الإلهي الذي ورد في مطلع سورة الإسراء، وقدم له بمثال من قوم موسى وبني إسرائيل.
الموحدة للإنسانية كلها تحت "ثقافة" واحدة وعوالم الغيب غير المشهود: عوالم الملائكة والجن وأمثالها. لا تدين بالولاء إلا لرب العوالم الأربعة المحسوسة: عوالم الإنسان والحيوان، والنبات والجماد.
وتتوالى بصائر الوحي التي تتضمنها سور القرآن الكريم -بعد الفاتحة- لتقدم التفصيلات المعززة للتربية العالمية، والموجهة لسلوك إنسان التربية الإسلامية وعلاقاته بالخالق والكون والإنسان والحياة والآخرة، في ميادين الحياة المختلفة متدرجة في تشكيل أفكاره واتجاهاته، وممارساته وبروز "ثقافة" عالمية إنسانية ذات نظم وقيم وتقاليد وعادات، وفنون وممارسات متناسقة يجتمع بها صفتا التنوع، والوحدة اللتين تعطيان الحياة طابع التجدد والارتقاء.
ومن الموضوعية أن نقول: إن هذا التوجه القرآني العالمي لا يمكن أن يحقق غاياته، إلا إذا نهض بهذه المهمة "فكر" متقدم يقف على ثغور الفكر الإنساني، ويقتحم
ميادين البحث في مجالات الحياة المختلفة، ثم يخاطب الإنسانية كلها بـ"أحسن" مما عندها. وهذا هو السبب الذي من أجله كانت "الرسالة الإسلامية"، وأخرجت "الأمة الإسلامية" لحملها والجهاد في سبيلها.
وثاني هذه الطرق هي تحديد -قبلة واحدة- يتوجه إليها بنو البشر في صلاة واحدة تكون رمزا واحدا لوحدة توجهاتهم الفكرية، واتجاهاتهم النفسية وممارساتهم العملية. ويتكامل مع -تحديد القبلة- صلاة الجماعة التي هي وسيلة فعالة في التربية العالمية، وإعادة تشكيل روابط الأفراد والجماعات لما يحقق التماسك، وحسن الجوار في عصر المدن العالمية الكبرى والبداوة الجديدة الزاخرة بالهجرات العالمية بين قارات الكرة الأرضية.
وثالث هذه الطرق التربوية هو -الحج- الذي يتفق معناه اللغوي، ومحتواه الاصطلاحي مع معاني "الأمة" و"إمامة الناس"، إذ يقال: حج أي أم وقصد. والذين تنتدبهم العناية الإلهية للحج -في كل عام- إنما يرشحون لوظيفة "الإمامة" بين الناس وتزكية البشرية من أمراض
العصبيات والطبقيات المختلفة ومضاعفاتهما في "الطغيان" و"الاستضعاف" والفتن السياسية، والمفاسد الاجتماعية.
وتتناسق مناسك الحج مع أهداف التربية العالمية، وتشكل رموزا بارزة لهذه الأهداف. فـ"الإحرام"، وخلع اللباس الذي يبدأ به الحاج إنما يرمز إلى الانسلاخ التام من الولاءات العصبية والأعمال التابعة لها، ثم إعلان ميلاد إيماني جديد يقوم على الولاء الكامل لله وحده.
و"التلبية" التي يرددها الحاج ابتداء من "الميقات" إنما هي تزكية من الاستعمالات الخاطئة لمفاهيم "الحمد" التي تشيعها "ثقافات" الحمد لغير الله، وتسند "النعمة والملك" إلى الأصنام الممثلة لهذه الثقافات.
و"الطواف حول الكعبة" رمز لما يجب أن تطوف حوله الأفكار والإرادات والأعمال، وأن تتوحد كلها حول -المثل الأعلى- الذي جاءت به الرسالة الإسلامية، ليكون نموذجا لحياة الإنسان وواقيا له من مضاعفات الطغيان والاستضعاف.
و"تقبيل الحجر الأسود" رمز لما يجب أن يقتصر عليه محبة الإنسان، وطاعته واحترامه التي تحولها "ثقافات" الصنمية إلى رموزها من الأصنام المادية والبشرية.
و"السعي بين الصفا والمروة" رمز لما يجب أن يكون عليه سعي الإنسان خلال العقود السبعة من العمر الفاعل في حياة الفرد بحيث يبدأ هذا السعي من الصفاء، ولا يهبط عن المروءة.
و"الوقوف على جبل عرفات" رمز لتعارف الأجناس، والطبقات على الأخوة بالله والتعاون لما فيه بقاء النوع البشري ورقيه.
و"الزحف نحو المزدلفة ومنى" رمز للاستعداد، وحشد الجهود عند الجماعات الإنسانية التي تعارفت على أفكار الرسالة وتطبيقاتها.
و"رمي الجمرات" رمز لتوجيه الأسلحة نحو شياطين الباطل، وحماته
طبقا لترتيب المواجهة معهم: مرتبة الشياطين الصغار الذين يمثلهم جند الباطل وبوليسه ومخابراته، ومرتبة الشياطين المتوسطين الذين يمثلهم وزراء الباطل ومديرو أجهزته وإدارته، ومرتبة الشياطين الرؤوس الذين يجسدون "الطغيان" ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف.
و"تقديم الأضاحي" رمز لـ"التضحية" في سبيل الله، واستعداد لتقديم كل ما تتطلبه الرسالة من تضحيات وتكاليف.
فإذا أكمل -الحجاج- هذه المناسك طافوا "طواف الإفاضة" -أي فاضوا وانتشروا- إلى مواقع مرابطتهم في مجتمعات الأرض ليحولوا ما قاموا به من "مناسك دينية" إلى "تطبيقات اجتماعية"، وليسهموا في تزكية الإنسانية من "ثقافات" الكفر والنفاق، ومضاعفاتهما في الطغيان والاستضعاف، وليبدأوا "الجهاد" ضد شياطين الشر، والباطل بمراتبهم الثلاث التي مرت الإشارة إليها.
ولتجسيد المعاني التي مرت، تحتاج وفود الحج العالمية القادمة من كل فج عميق أن تنسق سياساتها، وممارساتها طبقا لهذا "الفقه" العالمي الهادف إلى تزكية المجتمعات الإنسانية من العصبيات العنصرية والقومية، والإقليمية والطائفية والقبلية ومن مضاعفاتها في الفتن السياسية والفساد الاجتماعي الكبير، وإلى تحقيق الأخوة الإنسانية تحت راية الرسالة الإسلامية الداعية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. وهذا كله بعض ما توجه إليه الآية الكريمة:
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] .
وهو أيضًا بعض ما يأمر به قوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] .
ولقد علق سفيان الثوري على هذه الآية بقوله: "إتمامهما -أي إتمام
الحج والعمر- أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله تعالى:"لله! "1.
ومثله القرطبي الذي قال: "وفائدة التخصيص "لله" هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر، والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق، وكل ذلك ليس فيه طاعة، ولاحظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لآداء فرضه وقضاء حقه"2.
لذلك فإن من أولى واجبات التربية الإسلامية أن تجتهد لتعميق "فقه" المعاني الإلهية التي مرت حول التربية العالمية، والبلوغ بها إلى درجة الوعي والممارسة. وبدون ذلك فسوف تتحول وسائل التربية الالمية الإسلامية إلى ممارسة فارغة من "القيم" الإسلامية التي مر ذكرها، حيث تتحول الصلاة والقبلة الواحدة إلى مجرد حركات آلية، وتولية للوجوه قبل المشرق والمغرب دون أن يكون لها محتوى من "البر" الاجتماعي و"الحكمة" الكونية، وتتحول مناسك الحج إلى رحلة شاقة مرهقة، وتظاهرات من أجل العصبيات السياسية، وتتحول تطبيقات "ليشهدوا منافع لهم" إلى رحلات سياحية، وتجارة دولية يكون المستفيد الأول منها الشركات العالمية من غير المسلمين. ثم تكون محصلة ذلك كله أن تبقى التوجيهات القرآنية حبيسة النصوص والمصاحف، ولن تجد طريقها إلى التطبيق العملي الصائب، وسوف يظل مفهوم العبادة عند المسلمين محصورا في "المظهر الشعائري" دون "المظهر الاجتماعي" و"المظهر الكوني3، وبذلك يقع الانشقاق بين "القيمة التربوية" و"رمزها المحسوس"، فتطمس القيمة ويبقى الرمز وتتحول مناسك الدين، وشعائره إلى ممارسات شكلية تشبه ممارسات الأديان الطوطمية.
1 القرطبي، التفسير، جـ2 "سورة البقرة: آية 196" ص224.
2 نفس المصدر، ص246.
3 للوقوف على تفاصيل كل من المظهر الشعائري، والمظهر الاجتماعي والمظهر الكوني للعبادة، راجع كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- الطبعة الثالثة. المؤلف.