الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني الهجرة والمهجر
معنى الهجرة
…
الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني: الهجرة والمهجر
والعنصر الثاني من عناصر الأمة المسلمة هو -الهجرة- التي توفر للأفراد المؤمنين أن يعيشوا نموذج -المثل الأعلى- للحياة الإسلامية، وأن يتحرروا من كافة الأغلال والآصار الثقافية، والاجتماعية والمعنوية والمادية التي تحول دون هذا العيش.
معنى الهجرة:
الهجرة معناها الانتقال، وهي نوعان: انتقال حسي، وانتقال نفسي. والانتقال الحسي معناه الانتقال من مجتمعات الكفر، والشرك إلى مجتمع الإيمان.
أما الانتقال النفسي، فهو يعني الانتقال من ثقافة مجتمعات غير المؤمنين بنظمها، وعقائدها وأخلاقها وقيمها وعائدتها، وتقاليدها وتطبيقاتها المختلفة إلى ثقافة الإيمان بمظاهره وتطبيقاته ومؤسساته، وإلى هذا النوع من الهجرة النفسية كانت التوجيهات الإلهية عند قوله تعالى:
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] .
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10] .
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] .
وإلى النوعين مجتمعين من الهجرة كانت الإجابات النبوية عن معنى الهجرة وأشكالها. فلقد سأله أعرابي بقوله: يا رسول الله أخبرنا عن
الهجرة؟ إليك أينما كنت أو لقوم خاصة أم إلى أرض معلومة، أم إذا مت انقطعت؟
فسكت عنه يسيرًا ثم قال: "أين السائل؟
قال: ها هو ذا يا رسول الله!
قال: الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر، وإن مت بالحضر"1.
وفي موقف آخر قال صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر السوء فاجتنبه"2.
وفي موقف آخر قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها"3.
وفي موقف آخر سأل رجل فقال: يا رسول الله أي الهجرة أفضل؟
قال: "أن تهجر ما كره ربك! وهما هجرتان: هجرة البادي، وهجرة الحاضر، فهي أشدها وأعظمها بلية"4.
وممن ناقش رابطة الهجرة -الرازي- فقال:
"الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان. وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفر إلى أعمال المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه". وقال المحققون: الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته
…
وبذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر ومهاجرة شعار الكفر. ثم لم يقتصر تعالى عن ذكر الهجرة بل قيده بكونه في سبيل الله. فإنه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار
1 مسند أحمد، جـ2 "تحقيق الساعاتي" ص224.
2 نفس المصدر والجزء، ص206.
3 نفس المصدر، جـ4، ص99. سنن الدارمي، باب السير.
4 مسند أحمد، جـ4، ص199. النسائي.
الإسلام. ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا. إنما المعتبر وقوع الهجرة لأجل أمر الله"1.
ولقد نقل -القرطبي- عن ابن العربي أنه قسم الهجرة إلى ستة أقسام: الأول: الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان، فإن بقي في دار الحرب عصى ويختلف في حاله. والثاني: الخروج من أرض البدعة. قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف، والمنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه، فقد قال الله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] . والثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام؛ لأن طلب الحلال فرض على كل مسلم. والرابع: الفرار من الأذية في البدن، وذلك رخصة إلهية، وأول من فعلها إبراهيم عليه السلام، فإنه لما خاف من قومه قال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]، وقال:{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] وقال مخبرا عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] . والخامس: خوف المرض في البلاد الموبوءة والخروج منها إلى الأرض المعافاة، وهو ما أذن به الرسول صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح، فيكونوا فيه حتى يصحوا. والسادس: الفرار خوف الأذية في المال؛ لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد2.
والخلاصة إن التعاريف النبوية للهجرة، وتفسيرات الباحثين الإسلاميين تشير بوضوح تام إلى أن الهجرة قسمان: هجرة جسدية وهجرة نفسية، وأن الهجرتين متكاملتان متبادلاتا الفاعلية والتأثير. ذلك أن -الأفراد المؤمنين-
1 الرازي، التفسير الكبير، جـ10، ص221، 222.
2 القرطبي، التفسير، جـ5 "سورة النساء: آية 101" ص224، 225.
الذين يتناثرون في بيئات غير إسلامية لا يستطيعون العيش حسب نماذج -المثل الأعلى- الإسلامي للحياة، ولا يستطيعون النجاة بناشئتهم من الضغوط الأخلاقية والاجتماعية، والثقافية المحيطة، إلا إذا قاموا بهجرة جسدية إلى -مهجر- إسلامي تتوفر فيه أسباب الحياة الإسلامية، والهجرة النفسية من آثار الثقافات اللاإسلامية وتطبيقاتها في المشاعر والعقول والسلوك. ويستمر التلازم بين الهجرتين ما دام المؤمنون لم يمسكوا بزمام القيادة الدولية، فإذا تم لهم هذا الإمساك توقفت الهجرة الحسية، واستمرت الهجرة النفسية -على مستوى العالم كله- وهو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وإمساك المسلمين لزمام الأمر في الجزيرة كلها فقال:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية"1.
ويلاحظ على الهجرة بمفهومها المعنوي أنها تقابل "التزكية" أو -"تغيير" ما بالأنفس- اللذين يشدد عليهما القرآن الكريم. وغاية هذا التغيير هو -هجر- الثقافة الخاطئة أو الآبائية التي انقضى زمنها. ولقد كان أبرز مظاهر الهجرة المعنوية هو الانتقال من -ثقافة العصبية القبلية- بكل قيمها، وتطبيقاتها الصنمية إلى ثقافة الإسلام بكل قيمها وتقاليدها التوحيدية. ولذلك نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن العودة إلى ثقافة الطور القبلي ومفاهيم القبلية، وتطبيقاتها هو مظهر من مظاهر الردة، وكبيرة من الكبائر المخلدة في النار. فعن عبد الله قال: آكل الربا، وموكله وكاتبه إذا علموا بذلك، والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة2.
1 صحيح البخاري، كتاب الجهاد، كتاب مناقب الأنصار، كتاب المغازي.
صحيح مسلم، كتاب الإمارة. ورواه الترمذي، والنسائي والدارمي وابن حنبل.
2 مسند أحمد "تحقيق أحمد شاكر"، جـ5، رقم 3881، 4090.
سنن النسائي، كتاب الزينة، ص25.
سنن البيهقي، جـ9، ص19.
وفي تفسير الطبري لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، أن علي بن أبي طالب قال في مسجد الكوفة: يا أيها الناس إن الكبائر سبع! فأصاخ الناس. فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: ألا تسألوني عنها؟ قالوا: يا أمير المؤمنين ما هي؟ قال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرف بعد الهجرة.
فقلت لأبي: يا أبت التعرب بعد الهجرة، كيف لحق ههنا؟
فقال يا بني: وما أعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفيء، ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيا كما كان!
وعن عبيدة بن عمير قال: الكبائر سبع ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله
…
إلى أن قال: والتعرب بعد الهجرة: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} 1.
ولعل الحكمة من اعتبار -العودة إلى العصبية القبلية، أو التعرب بعد الهجرة -ردة وكبيرة من الكبائر هو أن هذه العودة نكسة في نظام القيم الإسلامية حيث تعود "القوة فوق الشريعة" أو فوق القانون، ويعود الولاء للقبيلة بدل الأمة، أي تعود "قوة" رأس القبيلة، وإرادته لتحل محل "الشريعة" وإرادة الله. فهي إذن عودة لجوهر الصنمية، وما يرافقها من عودة إلى الارتجال والفردية والفوضى بدل الإعداد وروح الجماعة والنظام. وذلك وصف الله -المتعربين- بقوله:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2 ولذلك أيضا عرف الرسول صلى الله عليه وسلم هجرة البدوي
1 الطبري، التفسير، جـ5، ص37، 38، الطبراني، المعجم الكبير، جـ6، ص24، رقم 636.
2 سورة التوبة: الآية 97.