الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالانتماء في حياة الأفراد والجماعات، فيوجد "الانتماء" ويظن أنه "الولاء".
لذلك نقول أن "الولاء" هو ما دفع صاحبه إلى ممارسة المعادلات العملية للإيمان، وممارسة الهجرة والجهاد في سبيل الرسالة، والإيواء، والنصرة مع تحمل ما يترتب على هذه الممارسة من تضحيات وتكاليف، ومحن ومشاق. أما الاقتصار على الشعور العاطفي الذي لا يرافقه ممارسات عملية لعناصر الأمة الخمسة المذكورة، فهو يشير إلى مجرد وجود علاقة "الانتماء" وليس "الولاء".
سابعًا: يحتاج الدارسون إلى التفريق بين وجود "الأمة المسلمة"، وما يعتريها من صحة ومرض ووفاة، وبين وجود "الأفراد المؤمنين" المجرد. فالأمة المسلمة تكون موجودة حين يوجد الأفراد المؤمنون "وجود تنظيميا" لا "وجودا تكديسيا". والفرق بين النوعين من الوجود أن الأفراد في -الوجود التنظيمي- يعيشون في شكل "مركب اجتماعي منظم" تنتظم فيه عناصر الأمة الأخرى: أي عناصر الهجرة، والجهاد في سبيل الرسالة، والإيواء، والنصرة، تنظيمًا قائمًا على "الوعي العلمي" ببناء هذه العناصر ومحتوياتها، وتفصيلها طبقا لحاجات الزمان والمكان. وأما "الوجود التكديسي" فهو يفتقر إلى هذا الوعي، وإن كان يحس بهذه العناصر أو يعرفها معرفة نظرية، فالوجود التنظيمي يتوفر له "إخلاص" الأفراد المؤمنين بالإضافة إلى "صوابية" تنظيم عناصر الأمة الأخرى. أما الوجود التكديسي فيقتصر على "إخلاص" الأفراد المؤمنين مع الافتقار إلى الاستراتيجيات "الصائبة" التي تحكم تنظيم عناصر الأمة الخمسة المذكورة.
ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الماضي
…
ب- ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لـ"مفهوم" الأمة المسلمة، وعناصرها في الماضي:
لم تلتزم التطبيقات التاريخية في مؤسسات التربية الإسلامية القواعد، والمبادئ المتعلقة بعناصر الأمة المسلمة كما أشير إليها في الفقرات السابقة، وإنما حدثت تطبيقات خاطئة ما زالت كامنة في التربية الإسلامية التقليدية
وفي التراث اللذين تحدرا من عصور الركود والضعف. وتتمثل هذه الأخطاء فيما يلي:
أولا: إخراج عنصر "الإيمان" من مركز الاجتماع البشري إلى ميدان المقولات الغيبية التي لا صلة لها بوقائع النشأة والحياة والمصير. وهذا ما قام به أمثال فرق القدرية والجبرية والمعتزلة، ومن استدرجوه لمحاورتهم من المذاهب والعلماء حين أداروا الجدال حول "ذات الله"، وما تفرع عن ذلك من مقولات التجسيد، والاستواء والصعود والنزول، مخالفين بذلك التوجيهات الإلهية، والنبوية التي تدعو إلى حصر التفكر والنظر في "خلق الله"؛ لأن في هذا الخلق آيات الله في الآفاق، والأنفس أي البراهين التي تصدق آيات الوحي؛ ولأنه يهيئ لاكتشاف سنن الله وقوانينه في الكون، واكتشاف هذه القوانين يؤدي إلى تسخير مخلوقات الله، وانتفاع الإنسان بها ورؤية نعم الله من خلالها.
ثانيًا: حصر الفقه في "المظهر الديني" للعبادة دون "المظهر الاجتماعي والمظهر الكوني". وهو ما قام به "فقهاء التقليد المذهبي" و"فقهاء السلاطين والخلفاء" الذين سجنوا الققه، ومحتوياته في حدود -قيم العصبيات- الي هيمنت بعد عصر الخلافة الراشدة، وجعلت محورها "القوة فوق الشريعة" بعد أن كان محور القيم "الشريعة فوق القوة"، مما أدى إلى إهمال الفقه المتعلق بـ"الأمة" وعناصرها في الهجرة، والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، وانحسار ميادين الفقه إلى ما يتعلق بـ"الفرد" وتضخيم قضايا الطهارة، والحيض والنفاس وأمثالها.
ثالثًا: تشويه معنى "الولاية" وهو ما قامت به طرق التصوف السلبي المنسحب من الحياة حين شوهت معنى "الولاية"، وأخرجتك هذه -الولاية- من محتواها الاجتماعي، وجعلت -ولي الله- كل مخبول أهبل، منسحب من الحياة، عاجز عن العمل، خانع أمام الظلمة، قانع بالفاقة والقهر والاستغلال. فوجد السلاطين الظلمة في نموذج هذا "الدرويش" صورة
المسلم الذي يجب على التربية تنشئته لتسهيل مهمتهم في الهيمنة، والتملك والاستغلال.
رابعًا: تشويه مصطلحات الأمة وعناصرها، وإفراغها من محتويات الرسالة الإسلامية التي تشمل المنشأ والحياة والمصير، ثم تحوليها إلى مضامين جزئية تدور في فلك "قوة" العصبيات المالكة وتبدأ بالمنشأ، وتقفز إلى المصير تاركة شئون الحياة لأصحاب القوة والجاه والتملك. ومن ذلك تفسير قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
إن التفسير الذي نقله الطبري عن علماء الصحابة، وأورده الرازي وابن تيمية وأمثالهم يذكر أن -أولي الأمر- هم العلماء ورجال الفكر. ولكن مناهج التربية التي هيمنت بإشراف "فقهاء السلاطين والخلفاء" في الماضي بدلت محتوى "أولي الأمر" ليصبح أصحاب القوة والعصبية والمال والجاه.
ومثله قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] .
فلقد نقل الطبري عن الصحابة والتابعين أن آل الرجل هم أتباعه، وقومه هم من على دينه، وعن ابن عباس قال: في الآية هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد. يقول الله عز وجل:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} 1.
ولكن "فقهاء السلاطين" أفرغوا مصطلح "آل" من محتواه الفكري، وأحالوه إلى محتوى "دموي، عرقي" ليعني "عائلة" أو"ذرية" أو"سلالة"، وليبرر عمليات الوراثة والاغتصاب في الحكم والتملك.
1 الطبري، التفسير، جـ2، ص234.
ومثله أيضا كلمة "سلطان" التي ترد في القرآن الكريم لتدل في أغلب المواضع على الفكر المدعوم بالبراهين الصحيحة1، مثل قوله تعالى:
- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [هود: 96] .
- {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71] .
- {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] .
- {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] .
ولكنه -فقهاء الخلفاء والسلاطين، ومؤسسات التربية التربية التقليدية- أفرغوا مصطلح "السلطان" من معناه الأصلي، وقلبوه ليعني الحاكم الذي لا مؤهل هل من علم أو فقه إلا القوة المادية والعصبية. وما زالت -مؤسسات التربية والإعلام، ودوائر الإفتاء وفقهاء السلطة- تعزز هذه التشويهات، وتفرغ المزيد من المصطلحات لتملؤها بما يدعم العصبيات الحاكمة، ويضع "القوة فوق الشريعة"، ويعزز قيم الفردية في الحكم المطلق والتملك.
ومثله أيضًا مصطلح "السنة" الذي يعني في الأصل النموذج الكامل لإحكام فهم القرآن والعمل به. ولذلك كان تفسير قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} بأن الحكمة هي السنة. وأساس هذه السنة أمران:
الأول، هو تكامل "الأشكال" و"الأعمال" كتكامل قشرة الثمرة ولبها. فإذا انفصلت القشرة تعرض اللب للتلوث والعفن، وإذا نزع اللب فقدت القشرة قيمتها، وطرحت في أكياس النفايات وبرميل الزبالة. وينقسم كل من "الأشكال" و"الأعمال" إلى قسمين:"قيمة" معنوية، و"رمز" محسوس.
1 الطبري، التفسير، جـ21، ص44.
والقيمة ثابتة، أما الرمز فهو متغير. فـ"القيمة" -مثلا- في الزكاة أو الصدقة هي سد حاجة المعوزين لتزكية المجتمعات من أسباب الكفر، والشرك والجريمة والفاحشة. أما "الرمز" فقد يكون في عصر ما أو مكان ما قمحا أو تمرًا، وقد يكون في عصر آخر، أو مكان آخر نقدا أو ضمانًا اجتماعيًا. و"القيمة" في المسواك هي "مطهرة الفم ومرضاة الرب" -كما ورد في الحديث- أما "الرمز" فقد يكون في مكان ما، وعصر ما هو -عود نبات الأراك- وفي عصر آخر ومكان آخر هو الفرشاة ومعجون الأسنان. و"القيمة" في اللباس هي الحشمة والستر، أما "الرمز" أو القماش الذي يجسدهما فهو متغير بتغير البيئات والثقافات. وهكذا في كل "عمل" أو "شكل".
والأمر الثاني: أن سنة الرسول هي سنة أمة لا سنة أفراد فحسب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمة قانتا لله كما كان إبراهيم عليه السلام. ولذلك تتفرع السنة، وتنتشر في أفراد الأمة وجماعاتها كل حسب موقعه ومسئولياته:
فـ"العلماء" تتمحور حصتهم من السنة حول الاجتهاد، والإخلاص في العلم ونشره، وفي تصبير أنفسهم مع المقبلين عليه الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، وإن كانوا فقراء لا جاه لهم، والترفع عن التكسب به على أبواب ذوي الجاه، والمال وإن عظم نفوذهم.
و"أولو الأمر" تتمحور حصتهم من السنة حول "الزهد" بالجاه والتزام العدل، ورحمة الرعية في الداخل، ثم "العزة" مع الأنداد، و"الشدة" مع الأعداء في الخارج.
و"الأغنياء" تتمحور حصتهم من السنة حول "الزهد" بالمال ثم وضعه في خدمة قضايا الأمة، وتمويل مشروعاتها وتلبية حاجاتها.
و"المجاهدون" تتمحور حصتهم من السنة حول تعشق الجهاد والتدرب على مهارات وتوفير عدده ومتطلباته.
و"جماهير الأمة" تتمحور حصتها من السنة حول الدروان في فلك "أفكار" الرسالة الإسلامية، وموالاتها ثم الحذر من "الفسق" للدروان في فلك "أشخاص" الأقوياء والطمع بما لديهم من "الأشياء".
وهكذا في جميع أفراد الأمة وجماعاتها حتى تصبح السنة هي الطابع المميز لثقافة الأمة، ونظمها ومؤسساتها وإدارتها وممارساتها، وسائر أشكال شبكة العلاقات الإنسانية فيها. وهذا كله مما يوجه إليه أمثال قوله تعالى:
ولكن فقهاء السلاطين في الماضي، ومشايخ السلطة ومؤسسات التربية التقليدية في الحاضر نقلوا محور السنة من ميدان "الأعمال" إلى ميدان "الأشكال" حيث حصروها فيما لا ينال من هيمنة ذوي النفوذ والمال، وفيما يبرر الشهوات، وينسي التذكير بـ"المسئوليات"، فصارت السنة سنتين:"سنة للأغنياء"، ومحورها أن يتمتع القوي المترف بـ"زينة الله التي أحل لعباده"، وأن يتزوج بأكثر من واحدة مرات ومرات، و"سنة للفقراء"، ومحورها أن يزهد المستضعف المحروم بقوام حياته، وأن يرضى بجوعه ومرضه وتشرده، وأن يصبر على من ظلمه، مكرسا وقته لتطويل لحيته، وحلق رأسه وتقصير ثوبه.
ولكن أخطر التشويهات التي أصابت المصطلحات الإسلامية هو التشويه الذي أصاب مصطلح "الشريعة" التي ينظر المسلمون إلى تطبيقها باعتباره الأمل الوحيد الذي يحقق العدالة الاجتماعية في حياتهم، والحصن الذي يوفر المنعة لهم، والدواء الناجع للقضاء على الفساد بمجتمعاتهم.
إن الأصل في اصطلاح "الشريعة" -كما يطرحه القرآن، والحديث- أنه يتكون من عنصرين رئيسين: القيم والحدود. والقيم مقاييس وموازين تميز العدل من الظلم، والصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والفضيلة من
الرذيلة، وما إلى ذلك. والقيم -هنا- تشمل ميادين الحياة كلها. أي هناك قيم فكرية، وقيم سياسية، وقيم اجتماعية، وقيم اقتصادية، وقيم أخلاقية، وقيم جمالية، وقيم علمية، وقيم عسكرية وهكذا. من أمثلة القيم الإيجابية: الحرية، وتكافؤ الفرص، والوحدة، والشورى، والعدل، واحترام الإنسان، وعدالة توزيع الثروة، والنظام، واحترام العمل الجماعي، وسيادة القانون، وموالاة الحق، ومحاربة الظلم وغير ذلك.
والأصل أن "القيم" هي جوهر الدين ومراد الرسالة والجهاد؛ لأن التزام الإيجابية منها يحقق السعادة في الحياة والآخرة، وتجنب السلبية يقي العوالم كلها شرور الحياة ومفاسدها. أما "الحدود" فهي لحراسة "القيم" من أن يعتدى عليها أو يقصر الناس في اتباعها.
و"إقامة الحدود" مشروطة بـ"تطبيق القيم"، فإذا تسرب الخلل إلى هذا التطبيق يوقف الحد الحارس حتى يتم إصلاح الخلل المذكور. وهذا مما فهمه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أوقف حد السرقة في عام المجاعة.
ولكن "فقهاء السلاطين" ومشايخ السلطة، ومؤسسات التربية التقليدية -أفرغوا مصطلح الشريعة من -القيم الإسلامية- خاصة القيم السياسية والاقتصادية، ثم أبقوا على "الحدود" وحدها لتحرس "قيم العصبيات" اللاإسلامية التي تحمي الظالم، وتعاقب المظلوم حتى رسخ في عقول أجيال المسلمين أن الشريعة تقتصر على تطبيق "الحدود" دون اعتبار لـ"القيم" التي تحرسها هذه الحدود، وتجلد الناس أو تقطع أيديهم من أجلها. وبذلك صار "الخاطئ الكبير" يجلد "الجانحين الصغار" الذين تزل أقدامهم في مزالق ظلم الخاطئ المذكور وفساده، وصارت "يد" السارق الكبير الذي يجب أن يقام عليه الحد تقطع "يد" السارق الصغير الجائع الذي يجب أن يرفع عنه الحد.