الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء
معنى الولاية
…
الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء
الولاية هي المحصلة النهائية لتفاعل العناصر المكونة للأمة المسلمة: أي عناصر الإيمان والهجرة والجهاد والرسالة، والإيواء والنصرة. كما أن وجود الولاية في واقع الأمة وسريانها في جميع ممارساتها وعلاقاتها شاهد على أن عناصرها المشار إليها هي حية فاعلة في سلوك الأفراد ونشاط الجماعات، كما دل على ذلك أسلوب الإشارة إلى الولاية في آخر الآية، التي وجهت إلى عناصر الأمة الخمسة:
معنى الولاية:
و"الولاية" مصطلح قرآني تردد في مئات المواضع من القرآن والحديث، ومعناه: القيام بأمور الآخرين كلها. و"الولي" هو القائم بأمور غيره من الأمة المسلمة في الميادين المتفرعة عن عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء والنصرة بالطريقة التي أمر الله. أي إن -الولاية- مصطلح اجتماعي يعني ولاء الفرد المسلم للأفكار، التي جاءت بها الرسالة الإسلامية أكثر من ولائه لنفسه. وهو يجسد هذا الولاء من خلال الإسهام -مع المسلمين الآخرين- في تحويل الأفكار المذكورة إلى تطبيقات عملية تتمثل في عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة بين الأفراد الذين يشتركون في الإيمان بالأفكار الإسلامية المشار إليها. فالولاية -إذن- هي هيمنة روح الشعور بالمسئولية في السلوك
والعلاقات والحاجات وقيام الأفراد والمؤسسات، والجماعات برعاية شئون بعضهم بعضا في ميادين الاجتماع، والسياسة والاقتصاد والزراعة، والصناعة والفكر والثقافة والتوجيه، والتعليم والحرب والسلام والأمن والخطر، وغير ذلك.
ومن هذه الولاية والرعاية اشتقت مصطلحات: "أولي الأمر" و"الولاة". والذين يحسنون هذه الولاية والرعاية -كل في ميدانه- ويلتزمون في ولايتهم ورعايتهم -في ظل القيم والتوجيهات التي جاءت بها الرسالة الإسلامية- لشئون غيرهم أوامر الله توجيهاته حق الالتزام دون أن تفتنهم المغريات هم -أولياء الله. وبذلك يكون -ولي الله- هو من يلتزم أوامر الله حق الالتزام في ميادين الاجتماع والسياسة، والإدارة والعسكرية والاقتصاد والتربية، والفكر والثقافة والتوجيه والجهاد والأمن وغير ذلك. وبهذا المعنى كان أبو بكر وعمر بن الخطاب، وليين لله في ميدان الحكم والسياسة، وكان خالد بن الوليد ولي الله في ميدان العسكرية، وكان معاذ بن جبل ولي الله في ميدان التربية والتعليم، وكان عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وليين لله في ميدان التجارة والأعمال، وكان هناك ولي الله الزارع، وولي الله الصانع، وولي الله البوليس،
وولي الله الإداري، وهكذا ما دام الكل يعملون حسب أوامر الله نواهيه، ويتقونه حق تقاته.
ولعله من الواجب -هنا- أن نشير إلى أمرين:
الأول، التشويه الخطير الذي أصاب مصطلح -الولاية- في التربية الإسلامية حين أخرجت -الولاية- من محتواها الاجتماعي، وصار -ولي الله- هو الدرويش الأهبل المنسحب من الحياة، الفاقد للإحساس بها، العاجز عن العمل، الخانع أمام الأعداء، القانع بالذل والفاقة والعجز والقذارة، وإذا أهلكه الجوع والمرض والجهل أقيم له النصب، والأضرحة وصار صنما تذبح عنده القرابين، وتلوذ به الجماهير التي تعاني من الظلم والفاقة والقهر والاستغلال.
وفي الأصل كان وراء هذا التشويه لمعنى الولاية عقليات ماكرة من
سلالات المترفين الذين سلبهم الإسلام نفوذهم على الناس، وتحكمهم بمقدرات الحياة، فعملوا على استرجاع ما فقدوه من امتيازات بوسائل التشويه الثقافي والتربوي، وتشويه المصطلحات والمبادئ وأنماط المعتقدات، والسلوك بعد أن عجزوا عن استرجاع امتيازاتهم بالوسائل العسكرية، ثم استحسن هذه السياسة الظلمة من السلاطين، والحكام لصرف الأنظار عن احتكاراتهم وسياستهم الجائزة. ولعل ما كتبه المقريزي في -الخطط- عن ساسية سلاطين المماليك في بناء الأضرحة، وتشجيع طرق الدروشة. ومواقف ابن تيمية وكتاباته ضد هذه السياسات مثلا واضحا وشواهد لهذه السياسات الجائرة المشار إليها. ولقد حذت حذو هذه السياسة واستثمرت التراث السلبي الممثل لها دوائر الاحتلال الاستعماري في المغرب العربي، وأفريقيا والهند وغيرها.
والثاني، موقع الولاية -حسب المفهوم الإسلامي- في سلم محاور الولاء وضرورتها في المجتمعات المعاصرة. لقد تطور مفهوم الولاية -أو الولاء- بتطور المجتمعات البشرية. فحين كان المجتمع الإنساني يتمثل في العائلة تحدد إطار -الولاء- بالعائلة. وحينما أصبح المجتمع البشري هو -القبيلة- تحدد إطار الولاء بحدود القبيلة. وحينما أصبح المجتمع البشري هو القوم تحدد إطار الولاء بحدود القومية. وحينما تهدمت الحدود الجغرافية، والثقافية بين المجتمعات البشرية جاءت الرسالة الإسلامية برباط -الولاية- الواسع الذي يفتح الباب لكل عضو في الإنسانية للانضواء في عقده.
ولعل مما تفرضه مبادئ النقد الذاتي أن نقول: أن جيل الصحابة قد جسد -رباط الولاية- بأوسع دوائر الولاء حيث "آمنوا" قولا وعملا بما نزل على نبيهم، و"هاجروا" من أجل دينهم و"جاهدوا" بأموالهم وأنفسهم و"تآووا" و"تناصروا" لتبليغ الرسالة وإخراج الناس إلى عدل الإسلام، وسعة الدنيا والآخرة. ثم تلتهم أجيال اكتفت بـ"الانتماء" الإسلامي وارتدت إلى
محاور -الولاء- القومي أو الشعوبي، ثم إلى محاور الولاء الإقليمي ثم إلى محاور الولاء القبلي. فالإنسان الحاضر في الأقطار الإسلامية يتحدد محور ولائه بحدود قبيلته، وليس لديه مفهوم واضح عما يعنيه الولاء للأمة المسلمة الواحدة.
ولا بد هنا من الانتباه إلى الفرق بين "الولاية" و"الانتماء"، وهو ما أدركت ضرورته حينما خلط البعض بين العلاقتين بعد صدور الطبقة القطرية من هذا الكتاب حينما عمد الأستاذ عمر عبيد حسنة المشرف على طباعة -كتاب الأمة- إلى تغيير العبارة المذكورة أعلاه، عبارة:"فالإنسان الحاضر في بلاد الإسلام يتحدد محور ولائه بحدود قبيلته" فجعلها: "
…
يتحدد محور ولائه بحدوده الإقليمية".
فـ"الولاية" تتحقق حين يبلغ المستوى الذي تصل إليه حركة إرادة الإنسان درجة النفير الاختياري خفافا وثقالًا، وبدافع من "إيمان" الفرد أو الجماعة لـ"هجرة" ما هو خطأ وممارسة ما هو صواب، و"الجهاد" من أجل ما هو حق، و"إيواء" و"نصرة" من يشاركونهم هذا الإيمان.
أما "الانتماء" فهو حركة لا تبلغ فيها الإرادة إلى درجة النفير الاختياري، ولا "يجاهد" صاحبها أو أصحابها بالمال والنفس، ولا "يتآوون" و"يتناصرون" بل تصبح مصائب بعضهم فوائد للبعض الآخر. ولذلك لا يمكن تسمية زحف الجيوش المحترفة نفيرا اختياريا يعبر عن "ولاء" للأمة؛ لأنها تساق إلى الموت رغما عنها، وبسبب ما يدفع لها من رواتب مادية وأعطيات عينية. ولكنا نرى عناصر هذه الجيوش المحترفة إذا تعرضت قبائلها للخطر، فإنها "تنفر" نفيرا اختياريا و"تقاتل حمية" دون رواتب تتقاضاها و"تؤوي" و"تنصر" من يشاركونها القرابة الدموية القبلية. وإذا رفعت شعارات "القومية" أو "الأخوة الإسلامية"، فإنما هو استثمار لهذه الشعارات و"إنفاق" لهذه المحتويات كدعامات مساندة لتعزيز فاعلية "الولاء" للقبيلة.