المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic - أهداف التربية الإسلامية

[ماجد عرسان الكيلاني]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب:

- ‌الباب الأول: مقدمة أهمية البحث في أهداف التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: دور الأهداف في العملية التربوية:

- ‌الفصل الثاني: أزمة التربية الحديثة في ميدان الأهداف التربوية

- ‌الفصل الثالث: حاجة النظم والمؤسسات التربوية في الأقطار العربية، والإسلامية إلى أهداف تربوية إسلامية

- ‌الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع: معنى "العمل الصالح" في التربية الإسلامية

- ‌الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة للعمل الصالح

- ‌الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل

- ‌الفصل السابع: تربية الفرد على تعشق المثل الأعلى

- ‌أولا: معنى المثل الأعلى:

- ‌ثانيا: أهمية المثل الأعلى:

- ‌ثالثا مستويات المثل الأعلى:

- ‌رابعا: أنواع المثل الأعلى:

- ‌خامسًا: تجديد المثل الأعلى

- ‌سادسًا: مستوى المثل الأعلى، وقيم المعلمين والمتعلمين

- ‌الفصل الثامن: تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية، والكونية عند الفرد

- ‌أولًا: معنى الخبرة وأهميتها

- ‌ثانيا: الخبرات الكونية، والاجتماعية، والدينية

- ‌ثالثا: حدود الخبرة ودوائرها

- ‌رابعًا: الخبرات الكونية، والاجتماعية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة

- ‌خامسًا: الخبرات في التربية الحديثة المعاصرة

- ‌الفصل التاسع: تربية الإرادة عند الفرد

- ‌أولا: معنى الإرادة ووظيفتها

- ‌ثانيا: مستويات الإرادة

- ‌ثالثًا: مستوى الإرادة ونضجها

- ‌رابعا: مستوى الإرادة ومستوى المثل الأعلى

- ‌خامسًا: فقدان الإرادة وضعفها

- ‌الفصل العاشر: إحكام تنمية القدرة التسخيرية

- ‌أولا: معنى القدرة التسخيرية

- ‌ثانيا: درجة القدرة التسخيرية، وحدود الخبرة المربية

- ‌ثالثا: مستويات القدرة التسخيرية

- ‌رابعا: أهمية تنمية القدرات التسخيرية

- ‌الفصل الحادي عشر: إحكام توازن الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية في تربية الفرد

- ‌الفصل الثاني عشر: مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة

- ‌أولا: تضييق مفهوم العمل الصالح وحصره بالإنتاج المادي

- ‌ثانيًا: تدني مستوى "المثل الأعلى" إلى مستوى -تلبية حاجات الجسد البشري

- ‌ثالثًا: حصر الإرادة في مستوى الرغبات والشهوات

- ‌رابعًا: حصر الخبرات بالكونية، والاجتماعية دون الدينية والأخلاقية

- ‌خامسا: حصر القدرات بالعقلية والجسدية دون الأخلاقية

- ‌الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية

- ‌الباب الثالث: إخراج الأمة المسلمة

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة

- ‌الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها

- ‌الفصل السادس عشر: أهمية إخراج الأمة المسلمة

- ‌الباب الرابع: مكونات الأمة المسلمة

- ‌مدخل

- ‌الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون

- ‌أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة

- ‌ثانيا: أهمية الهوية والجنسية والثقافة الإيمانية في العالم المعاصر

- ‌ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في الهوية والجنسية والثقافة

- ‌الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني الهجرة والمهجر

- ‌معنى الهجرة

- ‌أهمية الهجرة:

- ‌دور التربية في بلورة عنصر الهجرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: العنصر الثالث عنصر الجهاد والرسالة

- ‌معنى الجهاد

- ‌مظاهر الجهاد:

- ‌معنى الرسالة:

- ‌أهمية الرسالة في وجود الأمة:

- ‌دور التربية في تعزيز الرسالة:

- ‌الفصل العشرون: العنصر الرابع الإيواء

- ‌معنى الإيواء

- ‌مظاهر الإيواء:

- ‌أهمية الإيواء:

- ‌مسئولية التربية إزاء عنصر الإيواء:

- ‌الفصل الحادي والعشرون: العنصر الخامس النصرة

- ‌معنى النصرة

- ‌مظاهر النصرة:

- ‌الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء

- ‌معنى الولاية

- ‌درجات الولاية الإيمانية:

- ‌درجات ولاية غير المؤمنين:

- ‌التربية ورباط الولاية:

- ‌الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث

- ‌سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية وعلم النفس الإنساني

- ‌ سلم الحاجات الإنسانية بين التطبيقات الإسلامية، والتطبيقات التي يوجه إليها علم النفس الحديث:

- ‌الباب الخامس: صحة الأمة ومرضها وموتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى مرحلة صحة الأمة وعافيتها مرحلة الدوران في فلك الأفكار

- ‌دوران الأشخاص والأشياء في فلك أفكار الرسالة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الخامس والعشرون: مرحلة مرض الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشخاص

- ‌مدخل

- ‌الطور الأول: طور الولاء للقوم

- ‌الطور الثاني: طور الولاء للقبيلة ونظرائها "كالطائفة أو الحزب أو الإقليم

- ‌الطور الثالث: طور الولاء للأسرة

- ‌الطور الرابع: طور ولاء الفرد لنفسه

- ‌الفصل السادس والعشرون: مرحلة وفاة الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشياء

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أعراض الأمة الميتة

- ‌ثانيا: إعلان الوفاة وإجراءات الدفن

- ‌الفصل السابع والعشرون: مصير الأمة المتوفاة

- ‌الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة

- ‌ملاحظات حول مفهوم الأمة المسلمة

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الماضي

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الحاضر

- ‌ ملاحظات حول مراحل صحة الأمة ومرضها ووفاتها:

- ‌الفصل التاسع والعشرون: مشكلة التناقض بين إعداد الفريد وإخراج الأمة في أهداف التربية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌ أصحاب الرأي الناقد "نظرية التناقض بين الأهداف

- ‌ أصحاب "نظرية التآمر الطبقي في التربية

- ‌الباب السادس: تنمية الإيمان بوحدة البشرية والتآلف بين بني الإنسان

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثلاثون: ضرورة التألف الإنساني كهدف من أهداف التربية المعاصرة

- ‌الفصل الحادي والثلاثون: الوحدة الإنسانية ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة

- ‌الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic

- ‌الفصل الثاني والثلاثون: التربية الإسلامية ووحدة الجنس البشري

- ‌الأصول العقدية والاجتماعي لوحدة الجنس البشري

- ‌ الأساليب والوسائل العملية لتحقيق الوحدة الإنسانية:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون: التناقضات القائمة بين مفاهيم التربية العالمية الإسلامية والتطبيقات الإقليمية الجارية في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الأول عالمية الإسلام في مواجهة الجنسيات الإقليمية والعصبيات المحلية التي يقوم عليها المجتمعات الحديثة في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الثاني: الهجرة والسير في الأرض في مواجهة قيود السفر والتنقل

- ‌التناقض الثالث، الأمن الإسلامي في مواجهة الصراعات الإقليمية

- ‌التناقض الرابع، الحاجة لتكافل المسلمين في مواجهة قوانين الإقامة والعمل

- ‌التناقض الخامس، مكانة الإنسان واحترامه في مواجهة الاعتداء على حرماته، والاستهانة بكرامته

- ‌الفصل الرابع والثلاثون: توصيات

- ‌أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌ثانيا: توصيات تتعلق بإخراج الأمة المسلمة:

- ‌المصارد والمراجع

الفصل: ‌الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic

‌الفصل الحادي والثلاثون: الوحدة الإنسانية ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة

‌الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic

الفصل الحاديث والثلاثون: الوحدة الإنسانية، ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة

بدأ رجال التربية منذ أوائل الستينات بالحديث عما يعرف بـ"التربية الدولية"، ثم تزايدت الدعوة إلى تحقيق هذه العالمية التربوية من خلال مؤسسات التربية الدولية -وخاصة اليونسكو- وفي المؤتمرات التربوية ذات الطابع العالمي.

ولقد اتخذت الدعوة إلى -عالمية التربية- اتجاهين رئيسين هما: اتجاه المدرسة المثالية، واتجاه المدرسة الواقعية. وفيما يلي عرض مفصل لكل من الاتجاهين المذكورين.

أ- الاتجاه الأول: المدرسة المثالية Idealistic:

أطلقنا هذا الاسم على هذا الاتجاه؛ لأن الممثلين له مجموعة من المثاليين الذين يريدون -من خلال التربية- بناء عالم مثالي خال من نوازع الشر والأنانية، ومفعم بدوافع الخير والإثرة والتضحية. ولقد اتخذ هذا الاتجاه -أيضا- شكلين رئيسين: الشكل الأول مثله أفراد من المفكرين المتناثرين هنا وهناك، والشكل الثاني تمثل بمؤسسة اليونسكو الدولية.

ويمكن أن نختار -كمثال للشكل الأول- نفرًا من التربويين الذين أسهموا في بلورة هذا الشكل منهم المربي الأمريكي -جيمس يبكر James Becker- الذي شارك لسنوات طويلة بنشاطات اليونسكو، وأسهم في بلورة منطلقات التربوية الدولية، وعمل خبيرًا للمنظمات التربوية في الولايات المتحدة.

وفي البحث المشترك الذي قدمه -بيكر- بالاشتراك مع -لي

ص: 489

أندرسون Lee Anderson لخص الباحثان الأفكار الرئيسية لفكرة التربية الدولية وبواعثها ومبرراتها. ومما جاء فيه:

"لقد رأى الإنسان عالمه -عالم الأرض- من مدار القمر بصورة تختلف تمامًا عن الصورة التي ألفها، وهو يجلس على الأرض نفسها. لقد رأى كوكبا هشا غير صلب، عالم ثمين جدا يوفر أسباب الحياة وسط ملايين الأميال من البرودة والفراغ. وبذلك استيقن الإنسان إن مصادر الحياة -من الهواء والماء والتراب والمعادن- هي مصادر محدودة قابلة للنفاذ السريع، وإن الصراعات التي تجري على هذه الأرض صراعات تافهة إذا قورنت بوحدة بني الإنسان، ومصلحتهم المشتركة في البقاء.

ولقد قاده هذا التفكير إلى فكرة أخرى مرعبة، وهي ماذا سيكون عليه مصير الإنسان إذا لم يتعلم أن يتعايش مع هذه الحقائق الجديدة عن وحدة الأرض، وتفردها إن المدارس نادرا ما تغرس في وجدان الطلبة الإحساس بوحدة الكرة الأرضية، وما تقدمه التربية عن العالم لا يزيد عن مجموعة من قطع المعلومات المبعثرة، حيث تقدم مقررا عن الشرق الأدنى، ومقررا عن أمريكا الجنوبية، ومقررا عن الولايات المتحدة، ودرسا عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ودرسا عن الشيوعية، ودرسا عن العلاقات الدولية، ودرسا عن الثقافات الإنسانية، ودرسا عن التفكير الناقد. يرافق ذلك الصورة القديمة التي تقدمها الخرائط السياسية عن إن العالم يتكون من "130" قطعة من العقارات الأرضية.

فالتربية الدولية ما زالت صورة باهتة غامضة الأهداف مفككة المناهج والمدارس القائمة هي مؤسسات فاشلة عاجزة عن تربية الأطفال، والشباب وإعدادهم ليعيشوا في عالم اليوم، وعالم المستقبل"1.

1 James M.Becker & Lee Anderson> "Riders on the Earth Together" in Education in A Dynamic Society. edited by Dorothy Westby-Gibson "Massachusetts: Addison Westby Publishing Co، 1972" P. 214.

ص: 490

كذلك ناقش -جيمس بيكر- أهمية التربية الدولية بتفضيل أكثر في كتابه "تربية لمجتمع عالمي موحد"1، فذكر إن هناك مجموعة من العوامل المستجدة التي تجعل وحدة الكرة الأرضية ضرورة ملحة، وحاجة من حاجات الحياة إذا أريد للحياة على الأرض أن تستمر وتبقى.

ومن هذه المستجدات: ثورة الاتصالات وتقلص المسافات، والانفجار السكاني في العالم، ومشكلات الطاقة، وظهور ثقافة عالمية مشتركة، وتبادل الاعتماد التاري والاقتصادي، وأخطار تلوث الماء والهواء والمحيطات، واستمرار أخطار التسلح والحروب. بالإضافة إلى ما تسببت به هذه المستجدات الجديدة من تغييرات في زيادة الإنتاج والاستهلاك، وتعرية سطح التربة، واستنزاف مصادر الوقود والمعادن والمواد الأخرى، وتلوث العناصر الضرورية لحياة الإنسان وصحته، وزيادة قدرة الإنسان على السلب والنهب، وتفوقه على بقية الكائنات الموجودة في التخريب، وزيادة تعرض المجتمعات لخطر الدمار والانحلال.

ولقد أثرت هذه التغييرات كلها في التركيب السياسي القائم في المجتمعات المعاصرة. فتضاعفت القدرات الحربية في الوقت الذي لم تتقدم الثقافة والقيم. وظل الجوع والمرض يشكلان القاسم المشترك بين غالبية السكان بينما يتربع على قمة المجتمع قلة من النخبة التي تملك كل شيء وتتمتع بكل شيء.

فإذا قارنا هذا الوقع الخطير بالصورة التي نقلها رواد الفضاء عن الكرة الأرضية الخضراء الهشة، السابحة في الفضاء فسوف نعي المخاطر التي تتهدد سلامة الإنسان، وسوف ندرك الحاجة إلى نظم تربوية تقدم العالم كله وحدة واحدة، وليس مجرد مجموعة من المناطق المتباعدة المعزولة.

1 James Becker، Education For A Global Society. "Bloomington: the Phi Delta Kappa Educational Foundation، 1973.

ص: 491

ولكن هناك مجموعة من العقبات التي تقف سدًّا أمام إخراج هذا النوع من التربية العالمية الموحدة. وأخطر هذه العقبات -في رأي جيمس بيكر- هي العنصريات والقوميات القائمة. فالناس حين يولدون فهم يولدون بجنسية واحدة وانتماء واحد هو -أمة الإنسان- ولكنهم بعد الميلاد تلتهمهم التكتلات الإقليمية، والعرقية التي تمزق الانتماء الإنساني وتفسده، وتمنع تسوية المشكلات بالوسائل السلمية بين جماعات البشر.

واليوم تعيش الدول القومية مجموعة من التناقضات الخطيرة المدمرة.

وأول هذه التناقضات إن أيا من هذه الدول لا تملك ضمانات الأمن لمواطنيها وسلامتهم، وازدهارهم بمعزل عن بقية الأمم ومع ذلك فهي لا تتوقف عن إثارة المشكلات، والنفخ في الخلافات وإشعالها.

وثاني هذه التناقضات إن قادة هذه الدول يمارسون عددا من الألاعيب، والمناورات مع الأنداد والخصوم تحت ستار الأمن والقومي، والنفوذ، والمكانة الدولية في الوقت الذي ينادون بتسنيق المصالح الإنسانية المشتركة، وتوازن المدفوعات، وتسهيل التجارة الدولية، وحرية الملاحة في المحيطات، والتعاون لحفظ بيئة الكرة الأرضية من التلوث.

وثالث هذه التناقضات إن قادة الدول القومية يلعبون مع مواطني بلادهم مجموعة أخرى من الألاعيب السياسية، حيث يضيقون عليهم معيشتهم باسم الأمن الاجتماعي، وفرض الضرائب، والصالح العام، بينما يعدونهم بتوفير فرص التعليم، وتوفير الإسكان، والصحة العامة.

ورابع هذه التناقضات إن الحكومات القومية تنشر القوات البحرية في ما وراء البحار، وتطور الأسلحة، وتذكي التسابق في التسلح وحملات الفضاء، وإنفاق الملايين في السياسات الخارجية، في الوقت الذي تقصر في نفقات التربية والصحة العامة، والإسكان وأمثالها.

ص: 492

ولقد زادت حدة هذه التناقضات والضغوط الناتجة عنها بسبب الوعي السياسي المتزايد، وانشار فاعليته بين الطبقات المحرومة.

ولكن أخطر هذه التناقضات -في رأي جيمس بيكر- هو فشل الحكومات الإقليمية، والقومية المعاصرة في إدارك التناقض بين سياساتهم المحلية الإقليمية وبين الضرورات العالمية. فالحكومات القويمة -منذ مائتي عام- تمارس سلطة مطلقة وتنفرد في تقرير المصائر على حساب الواجب الملح في تحقيق التعاون بين شعوب العالم. وما زالت التربية تصيغ الناشئة صياغة قومية، وتضعهم في خدمة التسلط الطبقي، والقومي مع إن تطور الحياة يسير في اتجاه معاكس ويتطلب آفاقا أرحب من التسامح، والتعاون لمساعدة بني الإنسان على التحرر من نزعاتهم العدوانية التي يمارسونها تحت عناوين الصالح العام والأمن القومي.

ويزيد في الحاجة إلى التربية الدولية أن التطور الثقافي في العالم يسير في اتجاه يعزز أهداف هذه التربية وتوجهاتها، ويمهد لبدء حضارة عالمية واحدة أساسها المعارف العلمية، والتكنولوجية المشتركة، والتطلعات المشتركة، والمصير المشترك، والجهود المشتركة لمواجهة المشكلات القائمة، وتخطي الحدود القائمة في السياسة والثقافة والاجتماع. ويعزز ذلك انهيار الحواجز الجغرافية والثقافية وظهور المدن الكبرى التي تعيش فيها مجموعات تمثل العالم كله مثل نيويورك ولندن، وطوكيو بالرغم من التناقضات التي تسببها الحكومات القومية، والعرقيات القائمة في العالم. ويعزز هذه الوحدة الظواهر العالمية والمشاركات والممارسات العالمية كالشركات الاقتصادية العالمية، ودراسات السلام العالمي والتخطيط المشترك لمستقبل العالم.

ويخلص -بيكر- من استعراضه هذا إلى القول إنه آن الأوان أن يدرك الناس أن البشري يعشون في كوكب واحد -أو بلد واحد- بين كواكب أخرى لا حياة فيها، وأنهم يواجهون مشتركة واحدة، وإنهم ما لم

ص: 493

يخططوا نظم التربية وتنمية الولاء المشترك للكرة الأرضية، وتوجيه الناشئة للعمل والتعاون الجماعي بعيدا عن ألاعيب السياسيين، فلن يستمروا في الحياة أبدا.

ويشترك مع -بيكر- في هذا الاتجاه آخرون نختار منهم كلا من -فرانك ب. بساج، وجاك ل. نلسون -في كتابهما المشترك- أصول التربية -حيث يخلص الباحثان إلى النتائج التي خلص إليها بكر، ويشاركانه آراءه في تحليل الظواهر العالمية القائمة.

ويأخذ كل من -بساج ونلسون- على المؤسسات التعليمية، ونظم التربية أنها ما زالت تؤكد على المناهج الإقليمية والقومية، وتتجاهل التطورات الكاسحة التي تجري في بيئة الكرة الأرضية1.

ويضيف الباحثان إن أخطر نتائج تجاهل هذه التطورات العالمية هو الاضطراب التي تحدثه نظم تقوم على تصورات قديمة تفتت وحدة الإنسانية، وتحيلها إلى وحدات وكتل متصارعة. وأخطر هذه النظم هي الأيدولوجيات الشيوعية، والرأسمالية والقومية، والإقليمية التي تلعب دورا أساسيا في دعم المفاهيم والقيم القديمة التي تفرز الولاء للأوضاع القائمة الشاذة، وتستعمل أساليب النفي السياسي، والمقاطعة الاقتصادية والتدخل العسكري والحرمان الوظيفي بهدف الإبقاء على الوضع القائم في العالم رغم عدم مناسبته للتطورات الجارية، ورغم ما يتسبب به من مشكلات ومجاعات، وتلوث للبيئة وتعذيب لبني البشر، وسجن سياسي وإهدار للمصادر الطبيعية، وتهديد نووي للحضارة في الكرة الأرضية كلها2.

ويضيف المؤلفان إنه للوقوف على هول المأسأة التي تتسبب بها النظم

1 Frank P. Besag & Jack L. Nelson. The Foundations of Education: Statie and change. "New york: Random House Inc. 1974" p. 243.

2 Ibid، P. 244.

ص: 494

القائمة يكفي أن ننظر في حجم الخسارة، والإهدار التي تسببه نفقات التسلح بغرض الحفاظ على الأنظمة القائمة التي تخالف الطابع العالمي الجديد1. وفيما يلي بعض الأمثلة التي يقدمها الباحثان لهذا الإهدار في نفقات التسلح:

1-

إن الميزانيات العسكرية في 25 دولة من أفقر الدول تفوق دخل بليونين من السكان.

2-

إن الميزانية السنوية التي تنفق على الأبحاث العسكرية تفوق بمقدار "6" ست مرات الميزانية التي تنفق على الطاقة في العالم كله.

3-

إن ميزانية الأبحاث العسكرية التي تجري سنويات في العالم تفوق ميزانيات الأبحاث الأخرى المتعلقة بقضايا الصحة والتربية، والزراعة وغيرها.

4-

إن ما ينفق على التسلح في يومين اثنين يكفي للإنفاق على الأمم المتحدة في العالم كله.

5-

إن ما ينفق لبناء غواصة واحدة يساوي ما ينفق على تعليم 16.000.000 ستة عشر مليون طالبًا سنويًّا.

6-

إن ما ينفق على الجندي الواحد يزيد بمقدار "65" مرة عما ينفق على تعليم الطفل الواحد.

لذلك كله يقترح الباحثان التركيز على تطوير التربية، وتنويرها لإبراز مخاطر هذه الجمود المتمثل في الظواهر المفرقة للجنس البشري، وما تفرزه من صراع دولي. وإن هذا التركيز يتوافق مع أهم أهداف التربية في تحسين الحضارة، وتنمية الفكر الناقد المتحرر. ويقترح الباحثان نموذجا لأهداف التربية الدولية المنشودة، ويصنفان هذه الأهداف في التالي:

السلام.

1 Ibid، P. 248.

ص: 495

والرخاء الاقتصادي.

وتوازن البيئة.

والعدل الاجتماعي

والمشاركة السياسية.

كذلك يقدمان لهذه الأهداف الخمسة تفريعات، وتفصيلات تستهدف التأثير في برامج التربية وتطويرها1.

والشكل الثاني، من أشكال المدرسة المثالية هو المحاولات التي تقوم بها كل من اليونسكو، والأمم المتحدة لتطوير نظام تربوي عالمي يعمل على تقوية مظاهر التعاون بين شعوب العالم.

أما عن دور اليونسكو فقد بدأت نشاطاتها في ميدان التربية الدولية منذ الستينات -بل لعل الفكرة نشأة أصلًا في أروقتها. ولكن أبرز أعمالها في هذا الشأن هو ما قامت به عام 1971 حين عمدت إلى تشكيل لجنة دولية لدراسة كيفية النهوض بالتربية الدولية. ولقد تألفت اللجنة برئاسة السيد إيدجار فور الرئيس السابق لمجلس الوزراء الفرنسي، والوزير السابق للتربية الوطنية وعضوية كل من:

- فيليب هيريرا: أستاذ بجامعة تشيلي، والرئيس السابق لبنك الأقطار الأمريكية للتنمية.

- عبد الرزاق قدورة: أستاذ الفيزياء النووية بجامعة دمشق.

- هنري لويس: وزير الشئون الخارجية، والوزير السابق للتربية الوطنية في جمهورية الكنغو الشعبية.

- آرثر ف. بتروفسكي: أستاذ وعضو مجمع العلوم التربوية في الاتحاد السوفياتي.

1 Ibid، PP. 248-249.

ص: 496

- مجيد رحنامة: الوزير السابق للتعليم العالي والعلوم في إيران.

- فريدريك شامبيون وورد: المستشار في شئون التربية الدولية لدى مؤسسة فورد.

ولقد لخص رئيس اللجنة في رسالته التي وجهها إلى المدير العام لليونسكو أهداف اللجنة فقال:

"لقد أردنا، نزولا عند رغبتكم، أن تكون نقطة الانطلاق في عملنا هي دراسة حالة التربية عام 1972 دراسة نقدية، أي أن ننظر إلى الأمور من زاوية عالمية لكي نستخلص الخصائص المشتركة التي لا يمكن فهم الكثير منها، إلا بالرجوع إلى الماضي، مثل الاتجاهات الجديدة المنتشرة اليوم في أغلب الأقطار على اختلاف أنظمتها، ومثل العوامل التي أخذت لأول مرة في التاريخ تؤثر في تطور التربية أو ترافق تطورها. وهكذا آل بنا الأمر إلى الحديث عن "المشاكل المستعصية"، فخصصنا لها جزءًا من هذا التقرير"1.

والتقرير المشار إليه هو خلاصة عمل اللجنة التي تشكلت بناء على القرار الصادر عن الجمعية العامة لليونسكو خلال دورتها السادسة عشرة عام 1970، ثم قضت عامين من العمل، وزيادة أقطار العالم واستشارة الخبراء التربويين فيه، ثم جمع المعلومات وتحليلها إلى أن صدر التقرير بشكله النهائي تحت عنوان Learning To Be الذي ترجم إلى العربية بعنوان "تعلم لتكون".

وأما عن دور الأمم المتحدة، فأبرز مظاهر الدعوة إلى -عالمية التربية- هو العمل على إنشاء -جامعة الأمم المتحدة.

وأساس هذا المشروع أن الشباب في العالم يشتركون في أمور كثيرة، ولهم اهتمامات وحاجات مشتركة، وإنهم يملكون إحساسًا مشتركًا بما يعني

1 إيدجار فور وزملاؤه، تعلم لتكون، ترجمة الدكتور حنفي بن عيسى "الجزائر: اليونسكو -والشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1976"، ص12.

ص: 497

وجود نظام عالمي يحل السلام على الأرض. وهم أيضا سيتسلمون مسئولية المستقبل الذي سوف تتداخل فيه روابط الشعوب بشكل أعمق وأوسع.

وإزاء هذه التوقعات ظهرت فكرة -جامعة الأممة المتحدة- وبناء نظام تربوي ذي طابع عالمي هدفه -كما يقول هارولد تايلور- كالتالي:

"إن جامعة الأمم المتحدة مجهود يستهدف حشد الذكاء المنظم لدى الجنس البشري لحل مشكلات العالم على أساس عالمي، وذلك باستعمال قدرات الفكر، والذكاء لاستنباط حلول جديدة، وتعليم فلسفة جديدة"1.

وخلاصة فكرة -جامعة الأمم المتحدة- هو اختيار عدد مناسب من الطلاب من جميع أقطار العالم ثم إعدادهم لتولي مناصب القيادة في أقطارهم بعد أن يجري توحيد اتجاهاتم، وأفكارهم بما يخدم الأهداف العالمية المشتركة.

ولقد تم الاتفاق على أن لا يكون لهذه الجامعة مباني محددة، وإنما تتكون من إدارة عالمية تتخذ مركزها في -طوكيو- في اليابان، ويقوم إلى جانب هذه الإدارة مجلس للجامعة يتكون من خبراء من أقطار العالم. ثم برنامج تربوي يعتمد أساسا على المؤتمرات والزيارات، والمحاضرات والأنشطة والرحلات المشتركة للدارسين في هذه الجامعة.

ولقد تحمست لهذا المشروع دول عديدة وتبرعت اليابان بـ100 مليون دولار لها إلا أن الولايات المتحدة، وروسيا والدول الغربية لم تتحمس لها إجمالا واقتصرت مشاركاتها على عدد من الأفراد والمؤسسات، وما زالت الفكرة لم تتعد الاجتماعات والمداولات2.

1 Harold Taylor، A University For the world: the United Nation Plan. "Indiana، Bloomington: Phi Delta Kappa Educational Foundation، 1975" P. 47.

2 Ibid، PP. 40-41.

ص: 498

ب- الاتجاه الثاني: المدرسة الواقعية Realistic:

وأعضاء هذه المدرسة ينتشرون في ميادين التربية والأنثروبولوجيا، والعلوم السياسية والحضارات، وهم يفكرون من منطلق -الدارونية الاجتماعية Social Darwinism- التي تؤمن بنظرية الصراع بين الأجناس، ويطبقونها في ميدان الحياة الاجتماعية وعلاقات الطبقات والشعوب.

ويؤمن -الواقعيون- بأثر المستجدات الجديدة التي أدت إلى عالمية العلاقات والنشاطات، وعالمية التأثير في ميادين الحياة المختلفة. ولكنهم حينما يفكرون بمواجهة المشكلات الناجمة عن هذه المستجدات، فإنهم لا ينطلقون في حلولهم من الفلسفات المثالية وتوجيهات الدين، وإنما ينطلقون من الواقع الدنيوي القائم، ويؤمنون بحلول وإجراءات تتناسب مع هذا الواقع دون اعتبار لمقاييس الخير والشر، والفضيلة والرذيلة والحساب والعقاب في الحياة الآخرة.

وحين يتحدث هؤلاء عن -التربية الدولية- يكون مرادهم إعادة النظر في مناهج التربية وطرائقها، وأسسها في أقطار الدول المتقدمة صناعيا وعلميا التي ينتمون إليها، بحيث يكون الهدف هو إخراج جيل قادر على أمرين: الأول: رفع درجة استثمار موارد البيئة المحلية بالوسائل المناسبة للزمان والمكان، والثاني، إدارة دفة الصراع الدولي القائم في ميادين الاقتصاد والسياسة، ثم الهيمنة على موارد الكرة الأرضية ومقدراتها وسياساتها، دون اعتبار للضرر الذي سيلحق بالشعوب المهزولة؛ لأن هذه هي قوانين الصراع والبقاء للأصلح.

ولذلك حين تناقش قضايا التفجر السكاني وتلوث البيئة، ومحدودية مصادر الأرض، فإن الحلول التي يطرحها أعضاء المدرسة الواقعية تدور حول التخلص من الزيادة السكانية التي غالبا ما توجد بين شعوب العالم الثالث في آسيا، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ لأنها -حسب رأيهم- شعوب تستهلك ولا تنتج، وتلوث ولا تنظف؛ ولأن نظمها وثقافاتها تندرج في

ص: 499

عداد العقبات التي تواجه الباحثين عن حلول للمشكلات القائمة. فهي شعوب متوحشة تعاني من طغيان الدكتاتورية والتخلف العلمي، والفوضى الإدارية، واضطراب سلوك الفرد وتفكيره، وانعدام النظام وعدم الإنتاج والعيش معيشة الديدان الطفيلية.

أما الوسائل التي تقترح للتخلص من هذه الزيادة السكانية، فتتركز حول استغلال تناقضات شعوب العالم الثالث، وجهلها ورواسب التخلف فيها مثل العصبيات القبلية والإقليمية، والطائفية والأغلال الثقافية والاجتماعية لإشعال الفتن بين أهلها، ثم تزويدهم بالسلاح ليقتل بعضهم بعضا، ويبيد بعضهم بعضا.

والأفكار التي تناولت هذه القضايا عديدة متكررة. منها ما ذكره -هارولد تايلور- حيث قال معلقا على عدم مشاركة الدول الكبرى بمشروعات التربية الدولية كما تطرحها المدرسة المثالية:

"من المؤكد أن الأزمات التي نتحدث عنها مثل: الزيادة الهائلة في السكان، ونقص إنتاج الغذاء في العالم، وخطر الحرب الذرية، وتصاعد التسلح، وهيمنة الدكتاتوريات العسكرية، واللجوء إلى قوة السلاح لحل النزاعات السياسية، واستنزاف مصادر الكرة الأرضية، هي مخاطر حقيقية وقائمة. وهناك احتمال قوي إذا لم تتخذ خطوات حاسمة للتغلب على هذه المخاطر، فإننا سوف نجد أنفسنا -في يوم معين- خلال القرن الآتي مضطرين لقتل وتجويع، وبتر نسبة كبيرة من سكان الكرة الأرضية حتى يتيسر للبقية أن تبقى على قيد الحياة في معسكر يعيش تحت هيمنة أولئك الذين يمتلكون أغلب الأسلحة المخزونة القوية"1.

1 Harold Taylor، OP. Cit. P. 46.

الدكتور هارولد تايلور من الشخصيات التي عملت في الجامعة والسياسة. فقد عمل في جامعة برنستون، وكلية سارة لورنس. وفي عام 1973 عهد إليه تأليف وفد الولايات المتحدة إلى جامعة الأمم المتحدة. وفي عام 1974 عمل موفدا من وزارة الخارجية الأمريكية إلى كل من الهند، وماليزيا، وتايلاند، وأندونسيا، واليابان.

ص: 500

ويقول -باري كومنر:

"الحرب

وسيلة لحل المشكلات الاجتماعية، وإنما بعملية بيولوجية هي -الموت. وأنا أعتقد أن الوسيلة نفسها أداة صالحة لتحديد عدد السكان"1.

ويناقش -جاريت هاردن- أستاذ علم البيئة في جامعة كالفورنيا في مدينة سانت باربرا، قضية مساعدة الأقطار الغنية للأقطار الفقيرة حيث يخلص إلى أن ثلث أقطار العالم أقطار غنية بينما الباقي فقراء، وإن مثال الأولى مثال ركاب في رقاب نجاة عددهم "50" خمسون والقارب يتسع لـ"ستين". بينما هناك مجموعة من الناس تقارب المائة إلى جانب القارب تتقاذفها الأمواج وتتعرض للغرق. فهل ينقذ أهل القارب منهم عشرة أفراد؟ وكيف يختارون العشرة؟ وإذا اختاروا إنقاذ الجميع فسوق يصبح ركاب القارب مائة وخمسين راكبا وينتهي أمره إلى الغرق. ولذلك فمن الأفضل ترك كل فريق لمصيره، ونتائج ما هو فيه2.

ولم تر هذه الآراء وأمثالها الداعية إلى وأد ملايين البشر كحل جراحي لمشكلة زيادة السكان، بدون ردود. فقد انبرى عدد من الكتاب لتفنيد المشكلة المزعومة. من ذلك ما كتبه كل من -فرانسيس مور لابي، وجوزيف كولنز- في كتابهما المسمى -الغذاء أولًا. ولقد أورد المؤلفان كثيرًا من الشواهد والأدلة على أن المشكلة ليست في زيادة سكان الأرض، وإنما في احتكار مصادر الغذاء والإنتاج، وعدم تمكين الأكثرية الفقيرة من استعمالها، وأن مشكلة الجفاف في قارتي أفريقيا وآسيا -مثلا- سببها تآمر الشركات الدولية الاستعمارية التي احتالت على تلك الأقطار، وحولتها من

1 Barry Commoner. The Closing Circle "New york: Knoff، 1977" P.249.

2 Garrett Hardin "Lifeboat Ethice: The Case Against Helping the Poor". in، Philosophy and contemporary Issues. ed by John R. Burr & Milton Goldin Ger. "New york: Macmillan Publishing Co، 1980" PP. 197-205.

ص: 501

نظمها الزراعية التقليدية التي كانت توفر الغذاء للسكان المحليين، ثم استأجرت أراضيها لرزاعة منتوجات مترفة غير رئيسية كالموز والكاكاو والدخان، بالإضافة إلى قطع أشجار الغابات فيها من أجل صناعة الأخشاب العالمية، وهذا كله جلب الفقر والجفاف وأفقر التربة في القارتين المذكورتين، أضف إلى ذلك ما قامت به الدول الاستعمارية التي تنفذ سياسات الشركات الدولية من إفساد نظم التربية في العالم الثالث، وتحويل جماهيره من التربية الزراعية والمهنية إلى جماهير عاطلة مكدسة في دوائر حكومية لا حاجة لها1. ويبدو أن السياسات الدولية التي تنتهجها الدول القوية -بعد انتهاء فترة الحرب الباردة في أوائل التسعينات- أخذت تتجه لتطبيق آراء المدرسة الواقعية التي تفترض أن يد الله مغلولة، وأن الواجب هو تطبيق عمليات الوأد الجماعي خشية الفقر، والإملاق في الكرة الأرضية.

والخلاصة أن برامج التربية الدولية الجارية تتعثر تعثرا كبيرا خاصة، وأن اليونسكو -التي ترعى الاتجاه المثالي- قد تعرضت منذ عقد الثمانينات بسبب هذا الاتجاه إلى هزات شديدة حيث انسحبت منها الولايات المتحدة وبريطانيا، وقطعتا عنها حصتهما في المزانية إلى أن استقال أمينها العام -آنئذ- السيد

أحمد بامبو.

والواقع أن أخطر نقاط الضعف في مفاهيم التربية الدولية القائمة أنها تضع الإنسان في غير مكانته، وتنطلق به من غير طبيعته. فالمدرسة المثالية تضعه في منزله أرقى من منزلته الحقيقة: منزلة العبد المخلوق الذي يحتاج إلى إرشاد الخالق وتوجيهه. فالإنسان -مهما تسامى- لا بد أن يكون لتساميه نفع مرتقب كالثواب الذي يعد به الدين، وأن يكون لسقوطه مسئولية كالعقوبات الدنيوية، والأخروية التي يهدد بها الدين كذلك. كذلك تفتقر الفلسفات المثالية

إلى الأساليب، والوسائل الفعالة لتنفيذ ما تدعو إليه وتبشر

1 Francis Moor Loppe & Joseph Collins، Food First، "Boston: Houghton Kifflin Co، 1977".

ص: 502

به. فالدراسات التي قامت بها اليونسكو -رغم الجهود التي بذلت من أجلها- لم يكن لها من أثر إلا تثقيف نفر من المفكرين والمثقفين. والجامعة التي اقترحتها الأمم المتحدة لا تعدو عن إفراز نخبة من الأرستقراطيين العالميين.

أما المدرسة الواقعية فهي مدرسة غير واقعية؛ لأنها تتصدى لمضاعفات الأزمة دون الأسباب الحقيقية لها. فهي تعالج طبقا لمصالح الطبقة التي تسبب بالأزمة نفسها. ذلك إن النقص القائم في الاقتصاد، والاضطراب المستعر في العلاقات سببه تفشي روح الترف والجشع والاحتكار، وما ينتج عن ذلك من صراعات دولية وطبقية ونفقات حربية:

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] .

وروح الترف والجشع والاحتكار المعاصرة تجاوزت جميع الحدود التي عرفتها البشرية، وهي تستغل جميع العقائد والقيم والقدرات العقلية والنفسية، والمادية لمزيد من الاحتكار والترف. وحين تبرر المدرسة الواقعية ممارسات الذين يتسببون بالأزمة القائمة، وتدعو للإجهاز الكامل على ضحاياها؛ فلأن هذه المدرسة تمثل إحدى اتجاهات -الدارونية الاجتماعية Social Darwinism التي بررت عمليات القتل والإبادة لصالح الأثرياء والأقوياء، وأسهمت من إشعال الصراعات الطبقية في الداخل والعالمية في الخارج. والواقع إن المدرسة الواقعية تمثل نكسة في الفكر الإنساني وردة فعالية في العودة إلى ممارسات -الوأد، ولكنه الآن وأد الشعوب بعد أن كان مترفو الماضي وفراعنته يقتصرون على وأد الأفراد المواليد من المذكور، واستبقاء الإناث.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الحل إذن؟ للأزمة القائمة؟ لعل الجواب هو نموذج التربية الدولية -كما هو في محتواه النظري في أصول التربية الإسلامية. أقول -محتواه النظري- لأن الواقع العملي في حياة المسلمين يخالف هذا النموذج ويصطدم به، ولكنه يظل نموذجا فريدا

ص: 503

ومجديا طالما إن نظم التربية الدولية تتداعى للتفتيش في تراث الإنسانية كلها عن نموذج يعالج الأزمة القائمة.

فالنموذج الإسلامي مزيج من المثالية والواقعية الحقيقية، فهو يعمد إلى توعية العناصر الصالحة من البشرية كلها وتربيتهم، وتوثيق شبكة العلاقات الاجتماعية بينهم من خلال صلاة الجماعة، والحج وروابط الإيمان والإيواء والنصرة التي مرت في باب الأمة المسلمة، ثم يوجه هذه الكتلة العالمية للقيام بعمليات الإصلاح اللازم، ولإجراء عمليات الجراحة البشرية لبتر الأعضاء الميتة الفاسدة من المجتمعات البشرية، ومحاربة شياطين الترف والجشع والاحتكار، والشر بمراتبهم الثلاثة التي مرت وهو ما يوفره -عنصر الرسالة والجهاد.

أما تفاصيل الخطوط العريضة لتطوير النظم التربوية الدولية -حسب الأصول الإسلامية- المشار إليها، فهي موضوع الفصل التالي من هذا البحث.

ص: 504