الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح
مدخل
…
الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو "الإنسان الصالح"
تبدأ أهداف التربية الإسلامية بإخراج الفرد المسلم. والفرد المسلم هو الإنسان العامل الذي يقوم بـ"العمل الصالح"؛ لأن العمل الصالح المتقن هو علة الخلق والإيجاد، وهو مادة الابتلاء والاختبار في قاعة الحياة الدنيا، وهو مقياس النجاح في الآخرة.
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2] .
ولذلك قال الحسن، وقتادة في تفسير قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} : لا يقبل الله قولًا إلا بعمل: من قال وأحسن العمل قبل الله منه1.
و"العمل" يتكون من حلقات خمس: الأولى: حلقة الخاطرة التي تولد نتيجة تفاعل الإنسان مع عناصر البيئة المحيطة في لحظة معينة تفاعلا إيجابيا أو سلبيا، ثم يتلتف التفكير هذه الخاطرة ليولد الحلقة الثانية -حلقة الفكرة- التي تولد نتيجة قيام قدرة العقل بتحليل الخاطرة، وتركيبها وتقييمها إلى أن يبلور مخططا كاملا لموضوعها وطرائق تنفيذها، وأدواته وزمنه ومكانه وغير ذلك، ثم يصوغ ذلك كله فإنه نسيخ لغوي يمثل الحلقة الثالثة -حلقة التعبير- ثم تتحرك الحلقة الرابعة -حلقة الإرادة- لتنقل العمل إلى الأعضاء الجسدية لينتهي في -الحلقة الخامسة- حلقة الممارسة
1 الطبري، التفسير، جـ2، ص121.
والتنفيذ. ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحلقات الخمس عند قوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} ، حيث يشير كلمة "سركم" إلى الحلقات الثلاث الأولى -الخاطرة والفكرة والإرادة- التي تحدث داخل سر الإنسان، وتشير كلمة "نجواكم" إلى الحلقة الرابعة -حلقة التعبير اللغوي، وكلمة "ما تكسبون" إلى الحلقة الخامسة -حلقة الممارسة العملية.
والإنسان لا يتوقف لحظة من لحظات عمره عن العمل. ولكن يتفاوت نضج حلقات العمل التي يتم إنجازها. فبعض الأعمال يتوقف عند الحلقة الأولى: حلقة الإرادة فيظل العمل أمينة. وبعضها يتوقف عند الحلقة الثانية: حلقة الفكر فيظل العمل فكرة. وبعضها يستمر حتى الحلقة الأخيرة: حلقة "الممارسة" الحسية فيصبح العمل إنجازا، ويستحق أن يوصف بأنه "عمل".
والذي يقرر فاعلية كل حلقة من حلقات العمل الخمس هو درجة الكفاءة -أو الحكمة حسب تعبير القرآن- التي تنجز كل حلقة. وهذه الكفارة هي ثمرة التربية التي تتعهد هذه الحلقات بالتنمية والرعاية. والنجاح في حلقتي الخاطرة والإرادة -ثمرته "الإخلاص" في العمل، أما النجاح في حلقة الفكرة فثمرته "الصواب" في العمل، وأما النجاح في حلقة الممارسة ثمرته "إنجاز" العمل. واجتماع الثمرات الثلاث وتكاملها يجعل العمل يتصف بصفة "الفلاح". وإلى هذه الصفة كانت الإشارة في القرآن الكريم عند أمثال قوله تعالى:{الْمُفْلِحِينَ} ، و {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ومشتقاتها. والفلاح -كما عرفه الرازي- معناه: الظفر بالمطلوب، والمفلح هو الظافر بالمطلوب1.
وفي الغالب يتقرر مسار العمل نحو الصلاح أو السوء من خلال الحلقة الأولى: حلقة الإرادة فإن كانت إرادة إيجابية صالحة امتدت صفة الصلاح إلى حلقتي الفكر والممارسة، وإن كانت سيئة امتدت صفة السوء
1 الرازي، التفسير "البقرة-3"، جـ1، ص34.
إلى الحلقتين المذكورتين. ولذلك أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم اسم -النية- على الحلقة الأولى عند قوله: "إنما الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"1. والذي يقرر صلاح النية، أو فسادها هو خير -الخبرات الاجتماعية- أو شرها. أما الذي يقرر صلاح -الفكرة- أو سوئها فهو صواب -الخبرات الكونية والاجتماعية- أو خطؤها. وأما الذي يقرر صلاح -الممارسة- أو فسادها فهو درجة "إحكام" السنن والقوانين التي توجه الإرادات والأفكار والممارسات إحكاما عقليا وفعليا.
وانطلاقا من تكوين العمل ونموه بالشكل الذي مر أعلاه توجهت التربية الإسلامية محاضن حلقات العمل الخمس: أي تربية النفس، والعقل والجسم.
و"العمل" الناتج عن الحلقات الخمس يتفرع، ويتسع ليغطي جميع ميادين الحياة ومظاهرها: أي هو يتناول المظهر الديني، والمظهر الاجتماعي، والمظهر الكوني. وحين يتم إحكام غايات العمل ووسائله وأدواته يطلق عليه اسم "العمل الصالح-المصلح".
ولكن مفهوم "العمل الصالح" لم يبق على أصالته وشموله. وإنما تعرض -خلال عصور التعصب المذهبي والجمود والاستبداد- للتجزئة، وتضييق المعنى وتشويه المحتوى حتى حصرته الاستعمالات الجارية في الوعظ والتأليف، والتدريس الديني، وآداء الشعائر والصدقات والأخلاق الفردية، ثم كانت محصلة هذه التشويه تشويه صورة -الشخصية المسلمة- أو تشويه صورة -الإنسان الصالح.
ذلك لا بد من إعادة تأصيل معنى "العمل الصالح" ليعود فهمه، وممارسته أصيلا كما ورد في مصادر الإسلام الأساسية المتمثلة بالقرآن والسنة.
1 البخاري، الصحيح، كتاب الإيمان.