الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثَانِيًا - جِزْيَةُ الرُّءُوسِ، وَالْجِزْيَةُ عَلَى الأَْمْوَال:
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِزْيَةَ - بِاعْتِبَارِ الْمَحَل الَّذِي تَجِبُ فِيهِ - إِلَى جِزْيَةِ رُءُوسٍ وَجِزْيَةٍ عَلَى الأَْمْوَال.
18 -
فَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ تُوضَعُ عَلَى الأَْشْخَاصِ: كَدِينَارٍ عَلَى كُل شَخْصٍ، وَمِنْ ذَلِكَ جِزْيَةُ أَهْل الْيَمَنِ، حَيْثُ وَضَعَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عَلَى كُل حَالِمٍ دِينَارًا (1) .
وَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ: مَا يُفْرَضُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ: كَالْعُشْرِ أَوْ نِصْفِ الْعُشْرِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَِهْل " مَقْنَا (2) " عَلَى رُبُعِ عَرُوكِهِمْ (3) وَغُزُولِهِمْ وَرُبُعِ ثِمَارِهِمْ (4) .
وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ رضي الله عنه لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عَلَى نِصْفِ عُشْرِ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ ضِعْفِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ (5) .
(1) حديث: " حيث وضع الرسول صلى الله عليه وسلم عل كل حالم. . . . " سبق تخريجه ف / 9.
(2)
حديث: " صلح الرسول صلى الله عليه وسلم أهل مقنا على. . . . " أخرجه البلاذري في فتوح البلدان (ص 71 - ط دار الكتب العلمية) مرسلا عن عمر بن عبد العزيز. وفي سنده كذلك الواقدي وهو متكلم فيه.
(3)
العروك: جمع عرك. وهو ما يصطادون عليه من خشب.
(4)
البلاذري: فتوح البلدان ص 71.
(5)
أبو عبيد: الأموال ص 40، 41، ابن زنجويه: الأموال 1 / 130 - 132، ابن رشد: بداية المجتهد 1 / 405.
فَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ - بِهَذَا الْوَصْفِ - تَدْخُل تَحْتَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ الَّتِي تَتِمُّ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ وَبَيْنَ أَهْل الذِّمَّةِ، فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَمَا يَجُوزُ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ. وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ:(عُشْرٌ) .
طَبِيعَةُ الْجِزْيَةِ:
19 -
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ، هَل هِيَ عُقُوبَةٌ عَلَى الإِْصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، أَمْ أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ مُعَوَّضٍ، أَمْ أَنَّهَا صِلَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ؟
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الإِْصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَل مِنَ الذِّمِّيِّ إِذَا بَعَثَ بِهَا مَعَ شَخْصٍ آخَرَ، بَل يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِنَفْسِهِ، فَيُعْطِي قَائِمًا وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (2) } .
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {عَنْ يَدٍ} - يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَنِيبٍ فِيهَا أَحَدًا (3) . فَلَا بُدَّ
(1) الهداية 2 / 161، فتح القدير 5 / 296، الاختيار 4 / 139، أحكام القرآن للجصاص 3 / 101، المقدمات 1 / 394، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 924.
(2)
سورة التوبة / 29.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 8 / 115.
مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَهُوَ بِحَالَةِ الذُّل وَالصَّغَارِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى الإِْصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الثَّوَابِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْعُقُوبَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ. وَلَا شَكَّ فِي انْتِفَاءِ الأَْوَّل، لأَِنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ وَشَرٌّ، وَلَيْسَ طَاعَةً فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي لِلْجَزَاءِ: وَهُوَ الْعُقُوبَةُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ (1) . قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاسْتَدَل عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ بِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَهُوَ جِنَايَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسَبِّبُهَا عُقُوبَةً، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَهُمُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ الْمُقَاتِلُونَ (2) .
وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ابْتِدَاءً هُوَ الْقَتْل عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَمَّا دُفِعَ عَنْهُمُ الْقَتْل بِعَقْدِ الذِّمَّةِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْجِزْيَةَ، صَارَتِ الْجِزْيَةُ عُقُوبَةً بَدَل عُقُوبَةِ الْقَتْل.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلاً عَنْهُ.
فَقَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الْجِزْيَةُ تَجِبُ عِوَضًا عَنِ النُّصْرَةِ: وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نُصْرَةَ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحِمَايَةِ دَارِ الإِْسْلَامِ وَالدِّفَاعِ عَنْهَا.
(1) فتح القدير 5 / 296.
(2)
أحكام القرآن لابن العربي 2 / 924.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النُّصْرَةَ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ رَعَايَا الدَّوْلَةِ الإِْسْلَامِيَّةِ وَمِنْهُمْ أَهْل الذِّمَّةِ.
فَالْمُسْلِمُونَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ الْمُقَاتِلَةِ: إِمَّا بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِمَّا بِأَمْوَالِهِمْ، فَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَيُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيل اللَّهِ، قَال تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَل أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1) } .
وَلَمَّا فَاتَتِ النُّصْرَةُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ بِأَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمُ النُّصْرَةُ بِالْمَال: وَهِيَ الْجِزْيَةُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْجِزْيَةُ تَجِبُ بَدَلاً عَنِ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقْنِ الدَّمِ، كَمَا تَجِبُ عِوَضًا عَنْ سُكْنَى دَارِ الإِْسْلَامِ وَالإِْقَامَةِ فِيهَا.
فَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا عَنِ الْعِصْمَةِ وَحَقْنِ الدَّمِ تَكُونُ فِي مَعْنَى بَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.
وَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا عَنِ السُّكْنَى فِي دَارِ الإِْسْلَامِ وَالإِْقَامَةِ فِيهَا، تَكُونُ فِي مَعْنَى بَدَل الإِْجَارَةِ (2) .
(1) سورة الصف / 10 - 11.
(2)
الكمال بن الهمام 5 / 297، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 276، وروضة الطالبين 10 / 307، نهاية المحتاج 8 / 81، ومغني المحتاج 4 / 243، وكفاية الأخيار 2 / 133، حاشية البجيرمي 4 / 269، المغني 8 / 495، وكشاف القناع 3 / 117، والهداية 2 / 160، والبدائع 9 / 4332، والمقدمات 1 / 395.