الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر وفاته ونسبه
هو الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس عبد الله المأمون ابن الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ، ولد سنة سبعين ومائة قبل أخيه الأمين محمد بن زبيدة بشهر عند ما استخلف أبوه الرشيد، وأمّه أمّ ولد تسمّى مراجل، ماتت أيام نفاسها به. بويع بالخلافة بعد قتل أخيه الأمين محمد فى أواخر سنة خمس وتسعين ومائة وغيّر لقبه بأبى جعفر «1» وكان أوّلا أبا العباس؛ وكان نبيلا قرأ العلم فى صغره وسمع من هشيم وعبّاد بن العوّام ويوسف ابن عطيّة وأبى معاوية الضّرير وطبقتهم، وبرع فى الفقه على مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه والعربية وأيام الناس. ولما كبر عنى بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها، فجرّه ذلك لقوله بخلق القرآن؛ فكان من رجال بنى العباس حزما وعزما وحلما وعلما ورأيا ودهاء وهيبة وشجاعة وسؤددا وسماحة، لولا أنه شان ذلك كلّه بقوله بخلق القرآن.
قال ابن أبى الدنيا: كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه يعلوه صفرة قد وخطه الشيب، أعين «2» طويل اللحية رقيقها ضيّق الجبين على خدّه خال.
وعن إسحاق الموصلىّ قال: كان المأمون قد سخط على الحسين الخليع الشاعر لكونه هجاه عند ما قتل الأمين؛ فبينما أنا ذات يوم عند المأمون اذ دخل الحاجب برقعة فاستأذن فى إنشادها، فأذن له، فأنشد قصيدة أوّلها:
أجزنى «1» فإنى قد ظمئت إلى الوعد
…
متى ينجز الوعد المؤكّد بالعهد
الى أن قال:
رأى الله عبد الله خير عباده
…
فملّكه والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة
…
مميّزة بين الضلالة والرّشد
فقال له المأمون: أحسنت، فقال الحاجب: أحسن قائلها، قال: ومن هو؟
قال: عبدك الحسين بن الضحاك؛ فقال المأمون: لا حيّاه الله! أليس هو القائل:
فلا تمّت الأشياء بعد محمد
…
ولا زال شمل الملك فيها مبدّدا
ولا فرح المأمون بالملك بعده
…
ولا زال فى الدنيا طريدا مشرّدا
هذه بتلك ولا شىء له عندنا. قال الحاجب: فأين عادة عفو أمير المؤمنين؟
قال: أمّا هذه فنعم، ائذنوا له. فدخل الحسين فقال له المأمون: هل عرفت يوم قتل أخى الأمين أن هاشميّة هتكت؟ قال: لا، قال: فما معنى قولك:
وممّا «2» شجا قلبى وكفكف عبرتى
…
محارم من آل الرسول استحلّت
ومهتوكة بالخلد «3» عنها سجوفها
…
كعاب «4» كقرن الشمس حين تبدّت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة
…
ولا بلغت آمالهم ما تمنّت
فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتنى، وروعة فاجأتنى، ونعمة استلبتها بعد أن غمرتنى، فإن عاقبت فبحقّك وإن عفوت فبفضلك؛ فدمعت عينا المأمون وأمر له بجائزة. ومما ينسب الى المأمون من الشعر قوله:
لسانى كتوم لأسراركم
…
ودمعى نموم لسرّى مذيع
فلولا دموعى كتمت الهوى
…
ولولا الهوى لم تكن لى دموع
وكانت وفاة المأمون فى يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب وحمل الى طرسوس فدفن بها. وكان المأمون حليما عادلا. قيل: إن بعض المشايخ كتب إليه «1» رقعة فيها مرافعة فى إنسان، فكتب عليها المأمون: السّعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أخرجتها من النّصح، فخسرانك فيها أكثر من الرّبح؛ وأنا لا أسعى فى محظور ولا أسمع قول مهتوك فى مستور؛ ولولا أنت فى خفارة شيبك لعاقبتك على جريرتك مقابلة تشبه أفعالك. وكتب بعضهم إلى المأمون رقعة فيها: إن رجلا مات وخلّف مالا عظيما وليس له وارث إلا طفل مرضع، وإن تحكّم القضاء فيه أضاع ماله، وأمير المؤمنين أولى به. قال: فأخذ الرقعة وكتب على ظهرها، الطفل حبّره الله وأنشاه، والمال ثمّره الله وأنماه، والميّت رحمه الله ورضى عنه وأرضاه؛ وأمّا الساعى لى فى أخذه فلعنه الله وأخزاه.
وقيل: إنه لما مات عمرو بن مسعدة وزير المأمون رفعت اليه رقعة: أن عمرا المذكور خلّف ثمانين ألف ألف دينار. فوقّع المأمون على ظهرها: هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا.
وقيل: إن رجلا قدّم الى المأمون رقعة فيها مظلمة، وكان المأمون راكبا بغلة فنفرت منه فألقت المأمون عن ظهرها إلى الأرض فأوهنته؛ فقال: والله لأقتلنّك،
(قالها ثلاث مرّات) ؛ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن الملهوف يركب الخطر وهو عالم بركوبه، وينسى الأدب وهو غير جاهل به، ولو أحسنت الأيام إنصافا لأحسنت التقاضى، ولأن تلقى الله يا أمير المؤمنين حانثا فى يمينك خير من أن تلقاه قاتلا لى. فأعجب المأمون كلامه وأمر بإزالة ظلامته.
وفيها توفى إبراهيم بن إسماعيل أبو إسحاق البصرىّ الأسدىّ المعتزلىّ، كان يعرف بابن عليّة، وهو أيضا من القائلين بخلق القرآن؛ وله مع الشافعىّ مناظرات فى الفقه بمصر، ومع أحمد بن حنبل مناظرات ببغداد بسبب القرآن. فكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: ابن عليّة ضالّ مضلّ. ومات بمصر ليلة عرفة. وكان من أعيان علماء عصره.
وفيها توفّى بشر بن غياث بن أبى كريمة أبو عبد الرحمن المرّيسىّ «1» مولى زيد ابن الخطاب، كان أبوه يهوديا يسكن ببغداد، وتفقّه هو بالقاضى أبى يوسف حتى برع فى علوم كثيرة، ثم اشتغل بعلم الكلام والقول بخلق القرآن. وكان أبو زرعة الرازىّ يقول: بشر بن غياث زنديق.
قلت: ذكر أن عبد الله بن المبارك رأى فى منامه زبيدة وفى وجهها أثر صفرة، فقال لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لى فى أوّل معول ضرب بطريق مكة؛ فقال: فما هذه الصّفرة التى فى وجهك؟ فقالت: دفن بين أظهرنا رجل يقال له بشر المرّيسىّ زفرت عليه جهنّم زفرة فاقشعرّ الجلد منّى بسببها، فهذه الصفرة من تلك الزفرة.
وفيها توفّى الشيخ الصالح الزاهد علىّ الجرجانىّ كان يسكن جبال لبنان.
قال بشر الحافى: رأيته يوما على عين ماء، فهرب منّى وقال: بذنب منّى رأيت