الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
***
[ما وقع من الحوادث سنة 232]
السنة الرابعة من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين- فيها كانت وقعة كبيرة بين بغا الكبير وبين بنى نمير، وكانوا قد أفسدوا الحجاز واليمامة «1» بالغارات، وحشدوا فى ثلاثة آلاف راكب، فالتقوا بأصحاب بغا فهزموهم.
وجعل بغا يناشدهم الرجوع الى الطاعة وبات بإزائهم تلك الليلة، ثم أصبحوا فالتقوا فانهزم أصحاب بغا ثانيا، فأيقن بغا بالهلاك. وكان قد بعث مائتى فارس الى جبل لبنى نمير؛ فبينما هو فى الإشراف على التلف إذا بهم قد رجعوا يضربون الكوسات «2» ، فقوى بأس بغابهم وحملوا على بنى نمير فهزموهم وركبوا أقفيتهم قتلا «3» ، وأسروا منهم ثمانمائة رجل؛ فعاد بغا وقدم سامرّا وبين يديه الأسرى. وفيها مات خلق كثير بأرض الحجاز من العطش. وفيها كانت الزلازل كثيرة بأرض الشأم، وسقط بعض الدور بدمشق، ومات جماعة تحت الردم. وفيها ولّى الواثق الأمير محمد بن ابراهيم بن مصعب بلاد فارس. وفيها توفى أمير المؤمنين أبو جعفر هارون الواثق بالله ابن الخليفة المعتصم محمد ابن الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ البغدادىّ العباسىّ؛ بويع بالخلافة بعد موت أبيه محمد المعتصم فى شهر ربيع الأوّل سنة سبع وعشرين ومائتين، وأمّه أمّ ولد رومية تسمّى قراطيس؛ ومات فى يوم الأربعاء لستّ بقين من ذى الحجة من السنة المذكورة؛ فكانت خلافته خمس سنين ونصفا. وتولّى الخلافة من بعده
أخوه المتوكّل على الله جعفر، وكان ملكا مهيبا كريما جليلا أديبا مليح الشعر، إلّا أنّه كان مولعا بالغناء والقينات. قيل: إن جارية غنّته بشعر العرجى وهو:
أظلوم إنّ مصابكم رجلا
…
أهدى السلام تحيّة ظلم
فمن الحاضرين من صوّب نصب رجلا، ومنهم من قال: صوابه رجل؛ فقالت الجارية: هكذا لقّننى المازنىّ. فطلب المازنىّ، فلمّا مثل بين يدى الواثق قال:
ممّن الرجل؟ قال: من بنى مازن؛ قال الواثق: أىّ الموازن؟ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ قال: مازن ربيعة؛ فكلّمه الواثق حينئذ بلغة قومه، فقال: با اسمك؟ - لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما- فكره المازنىّ أن يواجهه بمكر؛ فقال: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لها وأعجبته. وقال له: ما تقول فى هذا البيت؟
قال: الوجه النصب، لأنّ مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم؛ فأخذ اليزيدىّ يعارضه؛ قال المازنىّ: هو بمنزلة إنّ ضربك زيدا ظلم، فالرجل مفعول مصابكم، والدليل عليه أنّ الكلام معلّق الى أن تقول: ظلم فيتمّ؛ فأعجب الواثق وأعطاه ألف دينار.
وقال ابن أبى الدنيا: كان الواثق أبيض تعلوه صفرة، حسن اللحية، فى عينيه نكتة [بيضاء «1» ] . وقيل: إنّ الواثق لما احتضر جعل يردّد هذين البيتين وهما:
الموت فيه جميع الخلق مشترك
…
لا سوقة منهم يبقى ولا مل؟؟؟
ما ضرّ أهل قليل فى تفاقرهم
…
وليس يغنى عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت، وألصق خدّه بالأرض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه! يكرّرها الى أن مات رحمه الله تعالى. وفيها توفى على بن
المغيرة أبو الحسن الأثرم البغدادىّ، الإمام البارع صاحب اللغة والنحو، قدم الشأم ثم رجع الى بغداد وسمع بها من الأصمعىّ وغيره، ومات بها. وفيها توفى محمد بن زياد أبو عبد الله بن الأعرابىّ، كان أحد العلماء باللغة والمشار اليه فيها، وكان يزعم أنّ الأصمعىّ وأبا عبيدة لا يعرفان من اللغة قليلا ولا كثيرا؛ وسأله إمام المحنة أحمد ابن أبى دواد: أتعرف معنى استولى؟ قال: لا ولا تعرفه العرب، لأنها لا تقول:
استولى فلان على شىء حتى يكون له فيه مضادّ ومنازع، فأيّهما غلب استولى عليه؛ والله تعالى لا ضدّ له؛ وأنشد [قول] النابغة:
إلّا لمثلك أو من أنت سابقه
…
سبق الجواد إذا استولى على الأمد «1»
وكان مع هذا خصيصا عند المأمون. وسأله مرّة عن أحسن ما قيل فى الشراب؛ فقال: قول القائل:
تريك القذى من دونها وهى دونه
…
إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق «2»
فقال المأمون: أشعر منه من قال:
وتمشّت فى مفاصلهم
…
كتمشّى البرء فى السّقم
يريد الحسن بن هانئ.
قلت: هذا كان فى تلك الأعصار الخالية، وأما لو سمع المأمون بما وقع للمتأخرين فى هذا المعنى وغيره لأضرب عن القولين ومال الى ما سمع. كم ترك الأوّل للآخر!.