الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيها توفى محمد بن عائذ «1» أبو عبد الله الكاتب الدّمشقىّ صاحب المغازى والفتوح والسّير وغيرها، ولد سنة خمسين ومائة هـ، وولى خراج غوطة دمشق للمأمون، وكان عالما ثقة صاحب اطّلاع، مات فى هذه السنة، وقيل: سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إبراهيم بن الحجّاج السّامىّ «2» لا الشامىّ، والحكم بن موسى القنطرىّ الزاهد، وجويرية بن أشرس، وعبد الله بن عون الخرّاز «3» ، وعلىّ بن المغيرة الأثرم اللغوىّ، وعمرو «4» بن محمد الناقد، وعيسى بن سالم الشاشىّ، وهارون الواثق بالله، ويوسف بن عدىّ الكوفىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية هرثمة بن نصر على مصر
هو هرثمة بن نصر الجبلىّ: من أهل الجبل، ولى إمرة مصر بعد عزل عيسى ابن منصور عنها فى شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هـ، ولّاه الأمير إيتاخ التركىّ على إمرة مصر نيابة عنه على الصلاة. ولما ولى هرثمة هذا أرسل الى مصر علىّ بن مهرويه خليفة له على مصر وعلى صلاتها، فناب علىّ بن مهرويه عنه، حتى قدم هرثمة المذكور الى مصر فى يوم الأربعاء لستّ خلون من شهر رجب من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هـ. وسكن بالمعسكر على العادة؛ وجعل على شرطته
أبا قتيبة. وفى أيّام هرثمة هذا ورد كتاب الخليفة المتوكّل الى مصر بترك الجدال فى القرآن واتباع السنّة وعدم القول بخلق القرآن. ولله الحمد.
وسببه أنّ الواثق كان قد تاب ورجع عن القول بخلق القرآن، فأدركته المنيّة قبل إشاعة «1» ذلك وتولّى المتوكّل الخلافة. قال أبو بكر الخطيب: كان أحمد بن أبى دواد قد استولى على الواثق وحمله على التشدّد فى المحنة، ودعا الناس الى القول بخلق القرآن. وقال عبيد الله بن يحيى: حدّثنا إبراهيم بن أسباط بن السّكن قال: حمل رجل فيمن حمل مكبل بالحديد من بلاده فأدخل؛ فقال ابن أبى دواد: تقول أو أقول؟ قال: هذا أوّل جوركم، أخرجتم الناس من بلادهم، ودعوتموهم الى شىء ما قاله أحد؛ لا! بل أقول؛ قال: قل- والواثق جالس- فقال: أخبرنى عن هذا الرأى الذي دعوتم الناس اليه، أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدع الناس اليه، أم شئ لم يعلمه؟ قال: علمه؛ قال: فكان يسعه ألّا يدعو الناس اليه وأنتم لا يسعكم! فبهتوا. قال: فاستضحك الواثق وقام قابضا على كمّه ودخل بيتا ومدّ رجليه وهو يقول: شىء وسع النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسكت عنه ولا يسعنا! فأمر أن يعطى الرجل ثلثمائة دينار وأن يردّ الى بلده.
وعن طاهر بن خلف قال: سمعت المهتدى بالله بن الواثق يقول: كان أبى إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا، فأتى بشيخ مخضوب مقيّد- كلّ هؤلاء يعنون بالشيخ (أحمد بن حنبل) رضى الله عنه- فقال أبى: ائذنوا لابن أبى دواد وأصحابه؛ وأدخل الشيخ فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين؛ فقال: لا سلّم الله عليك؛ فقال الشيخ: بئس ما أدّبك مؤدّبك، قال الله: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها.
قال الذهبىّ: هذه رواية «1» منكرة، ورواتها مجاهيل، لكن نسوقها بطريق جيّد، قال: فقال ابن أبى دواد: يا أمير المؤمنين، الرجل متكلّم؛ فقال له: كلّمه؛ فقال:
يا شيخ، ما تقول فى القرآن؟ قال: لم تنصفنى ولى السؤال؛ قال: سل يا شيخ؛ قال: ما تقول فى القرآن؟ قال: مخلوق؛ قال: هذا شىء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء أم شىء لم يعلموه؟ فقال: شىء لم يعلموه؛ فقال:
سبحان الله، شىء لم يعلموه! أعلمته أنت؟ قال: فخجل وقال: أقلنى؛ قال: والمسألة بحالها؟ قال: نعم؛ قال: ما تقول فى القرآن؟ قال: مخلوق؛ قال: شىء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن أبى دواد: علمه؛ قال الشيخ: علمه ولم يدع الناس اليه؟ قال: نعم؛ قال: فوسعه ذلك؟ قال: نعم؛ قال: أفلا وسعك ما وسعه ووسع الخلفاء بعده! قال: فقام أبى ودخل الخلوة واستلقى وهو يقول: شىء لم يعلمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علىّ علمته أنت! سبحان الله! علموه ولم يدعوا اليه الناس، أفلا وسعك ما وسعهم! ثم أمر برفع قيود الشيخ وأمر له بأربعمائة دينار وسقط من عينه ابن أبى دواد ولم يمتحن بعدها أحدا.
وقد روى نحوا من هذه الواقعة أحمد بن السّندىّ الحدّاد عن أحمد بن منيع عن صالح بن على الهاشمىّ المنصورىّ عن الخليفة المهتدى بالله رحمه الله، قال صالح:
حضرت وقد جلس للمتظلمين- يعنى المهتدى بالله رحمه الله فنظرت الى القصص تقرأ عليه من أوّلها الى آخرها فيأمر بالتوقيع عليها ويختمها فيسرّنى ذلك، وجعلت أنظر اليه، ففطن بى ونظر الىّ فغضضت عنه، حتى كان ذلك منه ومنّى مرارا؛ فقال لى: يا صالح، فى نفسك شىء تحبّ أن تقوله؟ قلت: نعم؛ فلما انقضى المجلس أدخلت مجلسه؛ فقال: تقول ماذا فى نفسك أو أقوله لك؟ قلت: يا أمير المؤمنين
ما ترى؛ قال: أقول: إنه قد استحسنت ما رأيت منّا؛ فقلت: أىّ خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوق! فورد على قلبى أمر عظيم؛ ثم قلت: يا نفس هل تموتين قبل أجلك! فأطرق المهتدى ثم قال: اسمع منّى، فو الله لتسمعنّ الحقّ؛ فسرى فى ذهنى شىء، فقلت: ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة ربّ العالمين وابن عمّ سيد المرسلين! قال: ما زلت أقول: القرآن مخلوق صدرا من أيام الواثق حتى أقدم شيخا من أذنة «1» فأدخل مقيّدا، وهو جميل حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورقّ له؛ فما زال يدنيه حتى قرب منه وجلس، فقال له: ناظر ابن أبى دواد؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه يضعف عن المناظرة؛ فغضب وقال:
أبو عبد الله يضعف عن مناظرتك أنت!. قال: هوّن عليك وأذن لى فى مناظرته؛ فقال: ما دعوناك إلّا لذلك؛ فقال: احفظ علىّ وعليه. فقال: يا أحمد، أخبرنى عن مقالتك هذه، هى مقالة واجبة داخلة فى عقد الدّين فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم. قال: أخبرنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله، هل ستر شيئا مما أمر به؟ قال: لا. قال: فدعا الى مقالتك هذه؟
فسكت. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين واحدة؛ فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ:
أخبرنى عن الله تعالى حين قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
أكان الله هو الصادق فى إكمال دينه، أم أنت الصادق فى نقصانه حتى تقال مقالتك؟ فسكت؛ فقال الشيخ: ثنتان؛ قال الواثق: نعم. فقال: أخبرنى عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟ قال: علمها؛ قال: فدعا الناس إليها؟ فسكت.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث؛ قال: نعم. قال: فاتّسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن علمها أن يمسك عنها ولم يطالب أمّته بها؟ قال: نعم؛ قال: واتّسع لأبى بكر
وعمر وعثمان وعلىّ ذلك؟ قال: نعم؛ فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، قد قدّمت القول أنّ أحمد يصبو «1» ويضعف عن المناظرة؛ يا أمير المؤمنين إن لم يتّسع لك من الإمساك عن هذه المقالة كما زعم هذا أنه اتّسع للنبىّ صلى الله عليه وسلم ولأبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ فلا وسّع الله عليك؛ قال الواثق: نعم كذا هو، قطّعوا قيد الشيخ، فلما قطّعوه ضرب الشيخ بيده الى القيد فأخذه؛ فقال الواثق:
لم أخذته؟ قال: إنّى نويت أن أتقدّم إلى من أوصى اليه إذا أنا متّ أن يجعله بينى وبين كفنى حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، فأقول: يا ربّ لم قيّدنى وروّع أهلى، ثم «2» بكى، فبكى الواثق وبكينا. ثم سأله الواثق أن يجعله فى حلّ وأمر له بصلة؛ فقال: لا حاجة لى بها. قال المهتدى: فرجعت عن هذه المقالة، وأظنّ أنّ الواثق رجع عنها من يومئذ اهـ.
قلت: ولما وقع ذلك كتب للأقطار برفع المحنة والسكوت عن هذه المقالة بالجملة، وهدّد كلّ من قال بها بالقتل.
وكان هرثمة هذا يحبّ السّنّة، فأخذ فى إظهار السنّة والعمل بها، وفرح الناس بذلك وتباشروا بولايته؛ فلم تطل مدّته على إمرة مصر بعد ذلك حتى مرض ومات بها فى يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين؛ واستخلف ابنه حاتم بن هرثمة على صلاة مصر. وكانت ولاية هرثمة المذكور على مصر سنة واحدة وثلاثة أشهر وثمانية أيام. وهذا ثانى هرثمة ولى إمرة مصر فى الدولة العباسيّة، فالأوّل هرثمة بن أعين، ولّاه الرشيد هارون على مصر سنة ثمان