الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن محمد المروزىّ مردويه، وإبراهيم بن أيوب الحورانىّ الزّاهد، وابراهيم بن هشام الغسّانى، وإسحاق بن ابراهيم بن زبريق- بكسر الزاى وسكون الموحدة-، وإسحاق بن راهويه، وبشر ابن الحكم العبدى، وبشر بن الوليد الكندىّ، وزهير بن عبّاد الرّؤاسىّ، وحكيم بن سيف الرّقىّ، وطالوت بن عبّاد، وعبد الرحمن بن الحكم بن هشام صاحب الأندلس الأموىّ، وعبد الملك بن حبيب فقيه لأندلس، وعمرو بن زرارة، ومحمد بن بكّار بن الريّان، ومحمد بن الحسين البرجلانىّ «1» ، ومحمد بن عبيد بن حساب «2» ، ومحمد بن المتوكّل اللؤلؤىّ المقرئ، ومحمد بن أبى السّرىّ العسقلانىّ، ويحيى بن سليمان نزيل مصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع.
ذكر ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر
هو عنبسة بن إسحاق بن شمر بن عيسى بن عنبسة الأمير أبو حاتم، وقيل: أبو جابر، وهو من أهل هراة «3» ، ولى إمرة مصر بعد عزل عبد الواحد بن يحيى عنها، ولّاه المنتصر محمد بن الخليفة المتوكل على الله جعفر، فى صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين على الصلاة؛ فأرسل عنبسة خليفته على صلاة مصر، فقدم مصر فى مستهلّ شهر ربيع الأوّل من السنة المذكورة، فخلفه المذكور على صلاة مصر حتى قدمها فى يوم السبت لخمس خلون من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة متولّيا على الصلاة وشريكا لأحمد بن خالد الصّريفينىّ «4» صاحب خراج مصر. وسكن عنبسة المعسكر على عادة
الأمراء، وجعل على شرطته أبا أحمد محمد بن عبد الله القمّىّ «1» . وكان عنبسة خارجيّا يتظاهر بذلك؛ فقال فيه يحيى بن الفضل من أبيات:
خارجيّا يدين «2» بالسيف فينا
…
ويرى قتلنا جميعا صوابا
ولما ولى عنبسة مصر أمر العمّال بردّ المظالم، وخلّص الحقوق، وأنصف الناس غاية الإنصاف، وأظهر من الرفق والعدل بالرعيّة والإحسان اليهم ما لم يسمع بمثله فى زمانه؛ وكان يتوجّه ماشيا الى المسجد الجامع من مسكنه بالمعسكر بدار الإمارة.
وكان ينادى فى شهر رمضان: السّحور، لانه كان يرمى بمذهب الخوارج، كما تقدّم ذكره.
وفى أوّل ولايته نزل الروم على دمياط فى يوم عرفة وملكوها وأخذوا ما فيها وقتلوا منها جمعا كبيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال؛ فلما بلغه ذلك ركب من وقته بجيوش مصر ونفر اليهم يوم النحر سنة ثمان وثلاثين ومائتين- وقد تقدّم ذلك- فلم يدرك الرّوم، فأصلح شأن دمياط ثم عاد الى مصر. وكان سبب غفلة عنبسة عن دمياط أنه قدم عليه عيد الأضحى وأراد طهور ولديه يوم العيد حتى يجمع بين العيد والفرح، واحتفل لذلك احتفالا كبيرا، حتى بلغ به الأمر أن أرسل الى ثغرى دمياط وتنّيس «3» فأحضر سائر من كان بهما من الجند والخرجيّة والزرّاقين وغيرهما، وكذلك من كان بثغر الإسكندرية من المذكورين، فرحلوا إليه بأجمعهم؛ واتفق مع هذا أنه لما كان صبح يوم عرفة هجم على دمياط ثلثمائة سفينة مشحونة بمقاتلة الروم، فوجدوا البلد خاليا من الرّجال والمقاتلة ولم يمنعهم عنها مانع، فهجموا [على] البلد وأكثروا من القتل والسّبى والنّهب. وكان عنبسة غضب على مقدّم من أهل دمياط يقال له أبو جعفر
ابن الأكشف، فقيّده وحبسه فى بعض الأبرجة؛ فمضى إليه بعض أعوانه وكسروا قيده وأخرجوه، واجتمع اليه جماعة من أهل البلد، فحارب بهم الروم حتى هزمهم وأخرجهم من دمياط، ونزحوا عن دمياط مهزومين ومضوا الى أشموم «1» تنّيس فلم يقدروا عليها فعادوا إلى بلادهم. ودام بعد ذلك عنبسة على مصر إلى أن ورد عليه كتاب المنتصر أن ينفرد بالخراج والصّلاة معا، وصرف شريكه على الخراج أحمد بن خالد؛ فدام على ذلك مدّة، ثم صرف عن الخراج فى أوّل جمادى الآخرة من سنة إحدى وأربعين ومائتين بعد أن عاد من سفرة الصعيد الآتى «2» ذكرها فى آخر ترجمته، وانفرد بالصلاة. ثم ورد عليه كتاب الخليفة المتوكّل بالدعاء بمصر للفتح بن خاقان، أعنى أنّ الفتح ولى إمرة مصر مكان المنتصر بن المتوكّل، وصار أمر مصر إليه يولّى بها من شاء، وذلك فى شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وأربعين ومائتين، فدعى له بها على العادة بعد الخليفة.
وفى أيام عنبسة المذكور كان خروج أهل الصعيد الأعلى من معاملة الديار المصرية على الطاعة، وامتنعوا من إعطاء ما كان مقرّرا عليهم، وهو فى كل سنة خمسمائة نفر من العبيد والجوارى مع غير ذلك من البخت «3» البجاويّة وزرافتين وفيلين وأشياء أخر. فلما كانت سنة أربعين ومائتين تجاهروا بالعصيان وقطعوا ما كانوا يحملونه، وتعرّضوا لمن كان يعمل فى معادن الزمرّذ من العمّال والفعلة والحفّارين فاجتاحوا الجميع؛ وبلغ بهم الأمر حتى اتصلت غاراتهم بأعالى الصعيد
فانتهبوا بعض القرى المتطرّفة مثل إسنا وأتفو «1» وظواهر هما؛ فأجفل أهل الصعيد عن أوطانهم؛ وكتب عامل الخراج إلى عنبسة يعلمه بما فعلته البجاة، فلم يمكن عنبسة كتم هذا الخبر عن الخليفة المتوكّل على الله جعفر؛ فكتب إليه بجميع ما فعلته البجاة؛ فلمّا وقف على ذلك أنكر على ولاة الناحية تفريطهم «2» ؛ ثم شاور المتوكّل فى أمرهم أرباب الخبرة بمسالك تلك البلاد؛ فعرّفوه أنّ المذكورين أهل بادية وأصحاب إبل وماشية؛ وأنّ الوصول إلى بلادهم صعب لأنّها بعيدة عن العمران، وبينها وبين البلاد الإسلاميّة برارىّ موحشة ومفاوز معطشة وجبال مستوعرة، وأنّ التكلف الى قطع تلك المسافة وهى أقلّ ما تكون مسيرة شهرين من ديار مصر، ويريد المتوجّه أن يستعدّ بجميع ما يحتاج إليه من المياه والأزواد والعلوفات، ومتى ما أعوزه شىء من ذلك هلك جميع من معه من الجند وأخذهم البجاة قبضا باليد. ثم إنّ هؤلاء الطائفة متى طرقهم طارق من جهة البلاد الإسلامية طلبوا النّجدة ممّن يجاورهم من طريق النّوبة، وكذلك النوبة طلبوا النجدة من ملوك الحبوش، وهى ممالك متصلة بشاطئ نهر النيل حتى تنتهى بمن قصده السير الى بلاد الزّنج، ومنها الى جبل القمر «3» الذي ينبع منه النيل، وهى آخر العمران من كرة الأرض. وقد ذكر القاضى شهاب الدين بن فضل الله العمرىّ فى كتابه «مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار» : أنّ سكان هذه البلاد المذكورة لا فرق بينهم وبين الحيوانات الوحشيّة لكونهم حفاة عراة ليس على أحدهم من الكسوة ما يستره، وجميع ما يتقوّتون به من الفواكه التى تنبت عندهم فى تلك الجبال، ومن الأسماك التى تكون عندهم فى الغدران التى تجرى على
وجه الأرض من زيادة النيل، ولا يعترف أحد منهم بزوجة ولا بولد ولا بأخ وأخت؛ بل هم على صفة البهائم ينزو بعضهم على بعض. فلما وقف المتوكّل على ما ذكره أرباب الخبرة بأحوال تلك البلاد، فترت عزيمته عما كان قد عزم عليه من تجهيز العساكر. وبلغ ذلك محمد بن عبد الله القمّىّ وكان من القوّاد الذين يتولّون خفارة الحاج فى أكثر السنين، فحضر محمد المذكور الى الفتح بن خاقان وزير المتوكّل وذكر له أنه متى رسم المتوكّل الى عمّال مصر بتجهيزه عبر إلى بلاد البجاة، وتعدّى منها الى أرض النّوبة ودوّخ سائر تلك الممالك. فلما عرض الفتح حديثه على المتوكّل أمر بتجهيزه وسائر ما يحتاج إليه، وكتب إلى عنبسة بن إسحاق هذا، وهو يومئذ عامل مصر، أن يمدّه بالخيل والرجال والجمال وما يحتاج إليه من الأسلحة والأموال، وأن يولّيه الصعيد الأعلى يتصرّف فيه كيف شاء. وسار محمد حتى وصل إلى مصر، فعند ما وصلها قام له عنبسة بسائر ما اقترحه عليه، ونزل له عن عدّة ولايات من أعمال الصعيد، مثل قفط والقصير وإسنا وأرمنت وأسوان؛ وأخذ محمد بن عبد الله القمّىّ المذكور فى التّجهيز، فلمّا فرغ من استخدام الرجال وبذل الأموال، حمل «1» ما قدر عليه من الأزواد والأثقال، بعد أن جهّز من ساحل السويس سبع مراكب موقرة بجميع ما تحتاج عساكره إليه: من دقيق وتمر وزيت وقمح وشعير وغير ذلك. وعيّنت لهم الأدلّاء مكانا من ساحل البحر نحو عيذاب، يكون اجتماعهم فيه بعد مدّة معلومة.
ثم رحل محمد من مدينة قوص مقتحما تلك البرارى الموحشة، وقد تكامل معه من العسكر سبعة آلاف مقاتل غير الأتباع، وسار حتى تعدّى حفائر الزمرّذ، وأوغل فى بلاد القوم حتى قارب مدينة دنقلة، وشاع خبر قدومه إلى أقصى بلاد السودان؛ فنهض ملكهم- وكان يقال له على بابا- إلى محاربة العسكر الواصل مع محمد المذكور، ومعه من
تلك الطوائف المقدّم ذكرها أمم لا تحصى، غير أنهم عراة بغير ثياب، وأكثر سلاحهم الحراب والمزاريق، ومراكبهم البخت النّوبية الصّهب، وهى على غاية من الزّعارّة «1» والنّفار؛ فعند ما قاربوا العساكر الإسلاميّة وشاهدوا ما هم عليه من التجمّل والخيول والعدد وآلات الحرب فلم يقدروا على محاربتهم، عزموا «2» على مطاولتهم حتى تفنى أزوادهم وتضعف خيولهم ويتمكنوا منهم كيفما أرادوا؛ فلم يزالوا يراوغونهم مراوغة الثعالب، وصاروا كلّما دنا منهم محمد ليواقعهم يرحلون من بين يديه من مكان إلى مكان، حتى طال بهم المطال وفنيت الأزواد، فلم يشعروا إلّا وتلك المراكب قد وصلت إلى الساحل، فقويت بها قلوب العساكر الإسلامية؛ فعند ذلك تيقّنت السّودان أن المدد لا ينقطع عنهم من جهة الساحل، فصمّموا على محاربتهم ودنوا إليهم فى أمم لا تحصى. فلما نظر محمد إلى السودان التى أقبلت عليه انتزع جميع ما كان فى رقاب جمال عساكره من الأجراس، فعلّقها فى أعناق خيوله، وأمر أصحابه بتحريك الطبول وبنفير «3» الأبواق ساعة الحملة؛ وتم «4» واقفا بعساكره وقد رتّبها ميامن ومياسر بحيث لم يتقدّم منهم عنان عن عنان؛ وزحفت السودان عليه وهو بموقفه لا يتحرّك حتى قاربوه، وكادت تصل مزاريقهم الى صدر خيوله؛ فعند ذلك أمر أصحابه بالتكبير، ثم حمل بعساكره على السودان حملة رجل واحد وحرّكت نقّاراته وخفقت طبوله، وعلا حسّ تلك الأجراس، حتى خيّل للسودان أنّ السماء قد انطبقت على الأرض، فرجعت جمال السودان عند ذلك «5» جافلة على أعقابها، وقد تساقط عن ظهورها أكثر ركّابها؛ واقتحم عساكر الإسلام السودان فقتلوا من ظفروا به منهم، حتى كلّت أيديهم وامتلأت تلك الشّعاب والبرارى بالقتلى، حتى حال «6» بينهم الليل. وفات المسلمين
على بابا (أعنى ملكهم) ، لأنّه كان مع جماعة من أهل بيته وخواصّه قد نجوا على ظهور الخيل. فلما انفصلت الواقعة وتحقّقت السودان أنّهم لا مقام لهم بهذه البلاد حتى يأخذوا لأنفسهم الأمان؛ فأرسل على بابا ملك السودان الى محمد بن عبد الله القمّى يسأله الأمان ليرجع الى ما كان عليه من الطاعة ويتدرّك له حمل ما تأخر عليه من المال المقرّر له لمدة أربع سنين، فبذل له محمد الأمان؛ وأقبل عليه على بابا حتى وطئ بساطه، فخلع عليه محمد خنعة من ملابسه وعلى ولده وعلى جماعة من أكابر أصحابه. ثم شرط عليه محمد أن يتوجّه معه الى بين يدى الخليفة المتوكّل على الله ليطأ بساطه؛ فامتثل على بابا ذلك، وولّى ولده مكانه الى أن يحضر من عند الخليفة؛ وكان اسم ولده المذكور ليعس «1» بابا. ثم عاد محمد بن عبد الله القمىّ بعسكره وصحبته على بابا حتى وصل الى مصر فأكرمه عنبسة المذكور، وكان خرج الى لقائه بأقصى بلاد الصعيد؛ وقيل: بل كان مسافرا معه وهو بعيد. فأقام محمد بن عبد الله مدّة يسيرة ثم خرج بعلى بابا الى العراق وأحضره بين يدى الخليفة المتوكّل على الله؛ فأمره الحاجب بتقبيل الأرض فامتنع؛ فعزم المتوكل أن يأمر بقتله وخاطبه على لسان التّرجمان: إنّه بلغنى أنّ معك صنما معمولا من حجر أسود تسجد له فى كلّ يوم مرتين، فكيف تتأبّى عن تقبيل الأرض بين يدىّ وبعض غلمانى قد قدر عليك وعفا عنك! فلما سمع على بابا كلامه قبّل الأرض ثلاث مرّات؛ فعفا عنه المتوكّل وأفاض عليه الخلع وأعاده الى بلاده. كل ذلك فى أيام ولاية عنبسة على مصر، وابتنى عنبسة فى أيام ولايته أيضا المصلّى «2» المجاورة لمصلّى خولان وكانت من أحسن المبانى؛ ثم صرف عنبسة بيزيد بن عبد الله بن دينار فى أوّل