الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورجع فى شهر ربيع الأوّل من السنة الى مصر؛ وعند حضوره الى مصر بلغه ثانيا نزول الروم إلى دمياط، فخرج أيضا من مصر لوقته وتوجّه الى دمياط فلم يلقهم، فأقام بالثغر مدّة ثم عاد الى مصر. ثم بدا له تعطيل الرّهان الذي كان لسباق الخيل بمصر وباع الخيل التى كانت تتّخذ للسّباق بمصر. ثم تتبّع الروافض بمصر وأبادهم وعاقبهم وامتحنهم وقمع أكابرهم، [وحمل منهم «1» جماعة الى العراق على أقبح وجه] ؛ ثم التفت الى العلويّين، فجرت عليهم منه شدائد من الضّيق عليهم وأخرجهم من مصر. وفى أيّامه فى سنة سبع وأربعين ومائتين بنى مقياس النيل بالجزيرة المنعوتة بالرّوضة.
ذكر أوّل من قاس النّيل بمصر
أوّل من قاسه يوسف الصدّيق بن يعقوب نبىّ الله عليه السلام. وقيل: إنّ النيل كان يقاس بأرض علوة الى أن بنى مقياس منف، وإنّ القبط كانت تقيس عليه الى أن بطل لما بنت دلوكة العجوز صاحبة مصر مقياسا بأنصنا «2» ، وكان صغير الذّرع؛ ثم بنت مقياسا آخر بإخميم. ودلوكة هذه هى التى بنت الحائط المحيط بمصر من العريش الى أسوان، وقد تقدّم ذكرها فى أوّل هذا الكتاب عند ذكر من ملك مصر من الملوك قبل الإسلام. وقيل: إنهم كانوا يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرّصاصة، وقيل غير ذلك. فلم يزل المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيساريّة الأكسية الى أن ابتنى المسلمون بين الحصن والبحر أبنيتهم الباقية الآن. وكان للروم أيضا
مقياس بالقصر «1» خلف الباب يمنة من يدخل منه فى داخل الزّقاق، أثره قائم الى اليوم، وقد بنى عليه وحوله.
ولما فتح عمرو بن العاص مصر بنى بها مقياسا بأسوان، فدام المقياس بها مدّة الى أن بنى فى أيام معاوية بن أبى سفيان مقياس بأنصنا أيضا؛ فلم يزل يقاس عليه الى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان. وكان عبد العزيز بن مروان أمير مصر إذ ذاك من قبل أخيه عبد الملك بن مروان، وقد تقدّم ذكر عبد العزيز فى ولايته على مصر. وكان عبد العزيز يسكن بحلوان. وكان مقياس عبد العزيز الذي ابتناه بحلوان صغير الذرع. ثم بنى أسامة بن زيد التّنوخىّ فى أيام الوليد بن عبد الملك مقياسا وكسر فيه ألف قنطار «2» . وأسامة هذا هو الذي بنى بيت المال بمصر، وكان أسامة عامل خراج مصر. ثم كتب أسامة المذكور الى سليمان بن عبد الملك بن مروان لما ولى الخلافة ببطلان هذا المقياس المذكور، وأن المصلحة بناء مقياس غير ذلك؛ فكتب إليه سليمان ببناء مقياس فى الجزيرة (يعنى الروضة) فبناه أسامة فى سنة سبع وتسعين- قال ابن بكير «3» مؤرّخ مصر: أدركت المقياس بمنف ويدخل القيّاس بزيادته كل يوم إلى الفسطاط (يعنى مصر) - ثم بنى المتوكّل فيها مقياسا فى سنة سبع وأربعين ومائتين
فى ولاية يزيد بن عبد الله هذا، وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد. وقدم من العراق محمد بن كثير الفرغانىّ المهندس فتولّى بناءه؛ وأمر المتوكّل بأن يعزل النّصارى عن قياسه؛ فجعل يزيد بن عبد الله أمير مصر على القياس أبا الرّدّاد الفقيه المعلّم، واسمه عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى الرّدّاد المؤذن وكان القمّىّ «1» يقول:
أصل أبى الرّدّاد هذا من البصرة. وذكر الحافظ ابن يونس قال: قدم مصر وحدّث بها وجعل على قياس النيل، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج مصر سبعة «2» دنانير فى كلّ شهر، فلم يزل القياس من ذلك الوقت فى أيدى أبى الرّدّاد وأولاده الى يومنا هذا. ومات أبو الردّاد المذكور فى سنة ست «3» وستين ومائتين.
قلت: وهذا المقياس هو المعهود الآن، وبطل بعمارته كلّ مقياس كان بنى قبله من الوجه القبلىّ والبحرىّ بأعمال الديار المصرية. واستمرّ على ذلك الى أن ولى الأمير أبو العباس أحمد بن طولون الدّيار المصريّة، وركب من القطائع فى بعض الأحيان فى سنة تسع وخمسين ومائتين ومعه أبو أيّوب صاحب خراجه والقاضى بكّار بن قتيبة الحنفىّ الى المقياس وأمر بإصلاحه وقدّر له ألف دينار.
قلت: وأما مصروف عمارة هذا المقياس فشىء كثير، وبنى بعد تعب زائد وكلفة كبيرة يطول الشرح فى ذكرها؛ وفى النظر الى بنائه ما يغنى عن ذكر مصروف عمارته. وبنى أيضا الحارث مقياسا بالصناعة «4» لا يلتفت اليه ولا يعتمد عليه ولا يعتدّ به، وأثره باق الى اليوم.
وقال الحسن بن محمد بن عبد المنعم: لما فتحت العرب مصر عرّف عمرو بن العاص عمر بن الخطاب ما يلقى أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حدّ مقياس لهم فضلا عن تقاصره، وأن فرط «1» الاستشعار يدعوهم الى الاحتكار، ويدعو الاحتكار الى تصاعد الأسعار بغير قحط. فكتب عمر بن الخطاب الى عمرو بن العاص يسأله عن شرح الحال؛ فأجابه عمرو: إنى وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحدّ الذي تروى منه الى سائرها حتى يفضل منه عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنّهايتان المخوفتان فى الزيادة والنّقصان، وهما الظمأ والاستبحار، اثنا عشر ذراعا فى النقصان وثمانية عشر ذراعا فى الزيادة. وكان «2» البلد فى ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عند ما تسلّموه من القبط، وخميرة «3» العمارة فيه.
قلت: وقد تقدّم ذكر ما تحتاج مصر اليه من الرجال للحرث والزراعة وحفر لجسور، وكميّة خراج مصر يوم ذاك وبعده فى أوّل هذا الكتاب عند ذكر النيل، فلا حاجة لذكره هنا ثانيا اذ هو مستوعب هناك. ولم نذكر هنا هذه الأشياء إلا استطرادا لعمارة هذا المقياس المعهود الآن فى أيام صاحب هذه الترجمة؛ فلزم من ذلك التعريف بما كان بمصر من صفة كلّ مقياس ومحلّه وكيفيّته، ليكون الناظر فى هذا الكتاب على بصيرة بما تقدّم من أحوال مصر.
ولما وقف عمر بن الخطاب على كتاب عمرو بن العاص استشار عليّا رضى الله عنهما فى ذلك؛ ثم أمره أن يكتب اليه ببناء مقياس، وأن ينقص ذراعين من
اثنى عشر ذراعا، وأن يقرّ ما بعدهما على الأصل، وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين؛ ففعل ذلك وبناه عمرو (أعنى المقياس) بحلوان؛ فاجتمع له كلّ ما أراد.
وقال ابن عفير وغيره من القبط المتقدّمين: اذا كان الماء فى اثنى عشر يوما من مسرى اثنى عشر ذراعا فهى سنة ماء، وإلا فالماء ناقص؛ وإذا تمّ ستة عشر ذراعا قبل النّوروز فالماء يتمّ. فاعلم ذلك.
قلت: وهذا بخلاف ما عليه الناس الآن؛ لأن الناس لا يقنعهم فى هذا العصر إلا المناداة من أحد وعشرين ذراعا، لعدم معرفتهم بقوانين مصر، ولأشياء أخر تتعلّق بما لا ينبغى ذكره.
وقد خرجنا عن المقصود فى ترجمة يزيد بن عبد الله هذا، غير أننا أتينا بفضائل وغرائب. ودام يزيد بن عبد الله على إمرة مصر إلى أن مات الخليفة المتوكّل على الله جعفر، ويخلّف بعده ابنه المنتصر محمد. وقتل أيضا الفتح بن خاقان مع المتوكّل، وكان الفتح قد ولّاه المتوكّل أمر مصر وعزل عنه ابنه محمدا المنتصر هذا. وكان قتل المتوكّل فى شوّال من سنة سبع وأربعين ومائتين التى بنى فيها هذا المقياس. ولمّا بويع المنتصر بالخلافة أرسل الى يزيد بن عبد الله المذكور باستمراره على عمله بمصر.
فدام يزيد بن عبد الله هذا على ذلك إلى أن مات الخليفة المنتصر فى شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وأربعين ومائتين، وبويع المستعين بالله بالخلافة. [و] أرسل المستعين إليه بالاستسقاء لقحط كان بالعراق؛ فاستسقوا بمصر لسبع عشرة خلت من ذى القعدة، واستسقى جميع أهل الآفاق فى يوم واحد؛ فإن المستعين كان قد أمر سائر عمّاله