الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وأمّا هسكورة)
وهم أكثر قبائل المصامدة، وفيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة. وأمّا سواهم من بطون كنفيسة فأنفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها، وإبرام عقدتها، فهلك رجالاتهم في إنفاقها سبل الأمم قبلهم في دولهم، وأمّا هسكورة فكان لهم بين الموحّدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم إلّا أنهم كانوا أهل بدو ولم يخالطوهم في ترفهم ولا انغمسوا في نعيمهم. وكان جبلهم الّذي أوطنوه من حاله دون القنة منها والذروة. واعتصموا منه بالآفاق الفدد واليفاع الأشمّ والطود الشاهق، قد لمس الأفلاك بيده ونظم النجوم في مفرقه. وتلفّع بالحساب في مروطه، وآوى الرياح العواصف الدجوة وألقى إلى خبر السماء باذنه، وأظل على البحر الأخضر بشماريخه، واستدبر القفر من بلاد السوس بظهره، وأقام سائر جبال درن في حجره. ولما انقرض أمر الموحّدين وتغلب بنو مرين على المصامدة أجمع، وساموهم خطة الخسف في وضع الضرائب والمغارم عليهم، فاستكانوا لعزهم وأعطوهم يد الطواعية، واعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم واعتزّوا فيه بمنعتهم، فلم يغمسوا في خدمتهم يدا، ولا أعطوهم مقادا، ولا رفعوا بدعوتهم راية، إنما هي منابذة لأمرهم وامتناع عليهم سائر الأيام. فإذا زحفت الحشود وتمرّست بهم العساكر دافعوهم بطاعة معروفة وأتاوة غير ملتزمة، ورئيسهم مع ذلك يستخلص جبايتهم لنفسه ويدفعهم في المضايق لحمايته، وربّما تخطّاهم إلى بعض قبائل الجبل ومن قاربه من أهل بسائط السوس يعسكر بذلك للرجل من قومه هسكورة وكنفيسة، وبالحشد من العرب الموطنين بأرض السوس.
وسفيان وهم بطن الحارث ومن المعقل وهم بطن الثبانات، وكان رئيسهم في ذكرنا بعد انقراض عبد المؤمن بن يوسف، وحرّروا لسان الأعجمين، هو عبد الواحد، وكان له في الاستبداد والصرامة ذكر. وهلك سنة ثمانين وستمائة وكان منتحلا للعلم واعية له جمّاعة لكتبه ودواوينه، حافظا لفروع الفقه. يقال إن المدوّنة كانت من محفوظاته، محبّا في الفلسفة مطالعا لكتبها، حريصا على نتائجها من علم الكيمياء والسيمياء والسحر والشعوذة، مطلعا على الشرائع القديمة والكتب المنزّلة بكتب
التوراة. ويجالس أحبار اليهود حتى لقد اتهم في عقيدته ورمي بالرغبة عن دينه، ثم ولي من بعده ابنه عبد الله، وكان مقتفيا سنن أبيه في ذلك وخصوصا في انتحال السحر والاستشراف إلى صنعة الكيمياء. ولما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن أخيه عمر، وسكن فتنة المغرب ودوّخ أقطاره وحلّ معتصمه بالعساكر وأوطأ ساحاته لكتائب رجاله دون من يمدّه من أعراب السوس من ورائه، بما كان من تغلّبه على بلادهم واقتضائه بطاعتهم وإنزال عماله بالعساكر بينهم، فلاذ منه عبد الله السكسيوي بطاعة معروفة رهن فيها ابنه، واشترط للسلطان الهديّة والضيافة، فتقبّل منه ومنحه جانب الرضى.
ولما كانت نكبة السلطان بالقيروان، واضطرب المغرب فتنة وخلا جوّ البلاد المراكشية من المشايخ اجتمع رأي الملأ من المصامدة على النزول إلى مراكش، وأحكموا عقد الاتفاق بينهم وأجمعوا تخريبها بما كانت دارا للأمرة ولمقام الكتائب المجمّرة، وزعم عبد الله السكسيوي هذا بإنفاذ ذلك فيها، وضمن هو تخريب المساجد لتجافيهم عنها فكانت مذكورة على الأيام. ثم انحلّ عزمهم وافترقت جماعتهم وكلمتهم بما كانت من استقامة الدولة بفاس واجتماع بني مرين على السلطان أبي عنّان كما يذكر بعد فانحجر كل منهم بوجاره.
ولما فرغ أبو عنّان من شأن أبيه واستولى على المغرب الأوسط وغلب عليه بنو عبد الواد، ولحق أخوه أبو الفضل بن مطرح اغترابه في الأندلس بالطاعة يروم الإجازة إلى المغرب لطلب حقّه، فأركبه السفير إلى مراحل السوس فنزل به، ولحق بعبد الله السكسيوي فآواه وظاهره على أمره. فجرّد أبو عنّان العزائم إليهم وعقد لوزيره فارس ابن ميمون بن وادرار على حربهم. واستخرج جيوش المغرب وأناخ بساحته سنة أربع وخمسين وستمائة واختطّ بسفح الجبل مدينة لحصاره سمّاها القاهرة. وأخذت بمخنقه وزاحمت بمناكبها أركان معقلة حتى لاذت للسلم، واشترط أن ينبذ العهد إلى أبي الفضل المصري عنده يذهب حيث يشاء فتقبل منه. وعقد له سلما على عادته وأفرج عنه. وخرج على عبد الله السكسيوي لأيام السلطان أبي سالم ابنه محمد المعروف في لغتهم ايزم ومعناه الأسد، فغلبه على أمره ولحق عبد الله بعامر بن محمد الهنتاتي كبير المصامدة لعهده، وعامل السلطان عليهم، فاستجاش به ووعده عامر النصرة وأمهله عاما ونصفه حتى وفد على السلطان، واستوهب في ذلك. ثم أجمع
على نصره من عدوه فجمع له الناس وخاطب أهل ولايته أن يكون معه يدا. وزحف عبد الله حتى نزل بالقاهرة وأخذ بمخنق أبيه وأشياعه. ثم داخله بعض بطانته ودلّه على بعض العورات اقتحم منها الجبل وثاروا بابنه ايزم فصاح به عبد الله وقومه. وفرّ محمد أمامهم فأدرك بتلاسف من نواحي الجبل وقتل واسترجع عبد الله ملكه، واستقلّت قدمه إلى أن مكر به ابن عمه يحيى بن سليمان حين بلغ استبداد الوزير عمر ابن عبد الله على سلطان المغرب واستبداد عامر بن محمد بولاية مراكش، وثأر منه يحيى هذا بأبيه سليمان وهو عمّ عبد الله، كان قتله أيام إمارته الأولى وأقام مملكا على سكسيوة إلى سني خمس وسبعين وستمائة، فثار عليه أبو بكر بن عمر بن خرو فقتله بأخيه عبد الله، واستقلّ بأمر سكسيوة ومن إليهم. ثم خرج عليهم لأعوام من استقلاله ابن عمّ له من أهل بيته لم ينقل لي من تعريفه إلّا أنّ اسمه عبد الرحمن، لأن ثورته كانت بعد رحلتي الثانية من المغرب سنة ست وسبعين وستمائة، فأخبرني الثقة بأمره وأنه ظفر بأبي بكر بن عمر وقتله. واستبدّ بأمر الجبل إلى هذا العهد فيما زعم وهو سنة تسع وسبعين وستمائة ثم بلغني سنة ثمان وثمانين وستمائة أنّ عبد الرحمن هذا ويعرف بأبي زيد بن مخلوف بن عمر آجليد قتله يحيى بن عبد الله بن عمر، واستبدّ بأمر هذا الجبل وهو الآن مالكه، وهو أخو ايزم بن عبد الله والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(وأما بقية قبائل المصامدة) من سوى هؤلاء السبع مثل هيلانة وحاحة ودكالة وغيرهم ممن أوطن هضاب الجبل أو ساحته فهم أمم لا تنحصر. ودكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب. وهناك رباط آسفي المعروف ببني ماكر من بطونهم وبين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة، ومجاورهم من جانب الغرب في بسيط ينعطف ما بين ساحل البحر وجبل درن في بسيط هناك يقضي إلى السوس، يعمّره من حاحة هؤلاء خلق أكثرهم في خمر الشعراء من الشجر المعروف بأرجان، يتحصّنون بملتقها وأدواحها ويعتصرون الزيت لادامهم من ثمارها. وهو زيت شريف طيب اللون والرائحة والطعم يبعث منه العمّال إلى دار الملك في هداياهم فيطرفون به.
وبآخر مواطنهم مما يلي أرض السوس وفي القبلة عن جبل درن بلدة دنست وبها معظم هذه الشعراء ينزلها رؤساؤهم، ورياستهم في بطن منهم يعرفون بمغراوة وكان شيخهم
لعهد السلطان أبي عنان إبراهيم بن حسين بن حماد بن حسين، وبعده ابنه محمد بن إبراهيم بن حسين وبعده ابن عمّهم خالد بن عيسى بن حمّاد واستمرّت رياسته عليهم إلى أعوام ست وسبعين وسبعمائة أيام استيلاء السلطان عبد الرحمن بن بطوسن على مراكش، فقتله شيخ بن مرين علي بن عمر الورتاجي من بني ويغلان منهم وما أدري لمن صارت رياستهم من بعده، وهم دكالة جميعا أهل مغرم واسع وجباية موفورة فيما علمناه، وللَّه الخلق والأمر وهو خير الوارثين.
كان الواثق جهّز لحرب أحد أمراء المصامدة، فكان وزيره داخله في ذلك وسائل من ذلك السيد أبا زيد ابن السيد أبي عمران خليفته وأخبره بما سمع، وأمره بالقبض عليه وقتله فأنفذ ذلك. ثم ارتحل الى السوس لتمهيده، وحسم هلال بن بدر فيه وقدّم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم، وسار يتعدّى المنازل ويستنفر القبائل وهو بتارودنت فوجدها قفرا خلاء إلّا قليلا من الدور بخارجها، ونزل على حميدين صهر علي بن بدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس، كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن بدر وملكه فنازله أبو دبّوس وحاصره أياما وهزم فيها جموعه.
وداخل محمد بن علي بن زكدان في إفراج أبي دبّوس على سبعين ألف دينار يؤدّيها إليه، فأعجله الفتح من ذلك ونجا بدمائه إلى بيته، وطولب بالمال وبقي معتقلا عند ابن زكدان، وامتنع على ابن بدر بحصنه، ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وستمائة وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنهى إليه فبعث بمرتبة إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن. خرج إليهم من مراكش ابن أبي مديون الونكاسي دليلا وسلك بهم على الثغر إلى سجلماسة، وبها يحيى بن يغمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه، وألفوه بجهة مليانة فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين ونزل بضواحي مراكش، وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبّوس بعساكر الموحّدين فاستجرّه يعقوب إلى وادي أعفر. ثم ناجزه الحرب فاختلّ مصافه وفرّ عسكره وانهزم يريد مراكش والقوم في اتباعه، فأدرك وقتل وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرّم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة، وفرّ بقية المشيخة من الموحّدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا
بايعوا عبد الحق أحد بني أبي دبّوس وسمّوه المعتصم مدّة من خمسة أيام وخرج في جملتهم وانقرض أمر بني عبد المؤمن والبقاء للَّه وحده أهـ.