الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحامة في ملك قابس فأجابوه وساروا معه فبيّتها ودخلها وقبض على يحيى بن عبد الملك فضرب عنقه، وانقرض أمر بني مكي من قابس، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد، وهو خير الوارثين.
(الخبر عن بني ثابت رؤساء مدينة طرابلس واعمالها)
قد تقدّم لنا شأن هذا البلد لأول الفتح الإسلامي، وأن عمرو بن العاص هو الّذي تولّى فتحه، وبقي بعد ذلك من جملة أعمال إفريقية، تنسحب عليه ولاية صاحبها، فلم يزل ثغرا لهذه الأعمال من لدن إمارة عقبة ومن بعده وفي دول الأغالبة. وكان المعزّ لدين الله من خلفاء الشيعة لمّا ارتحل إلى القاهرة، وعقد على إفريقية لبلكّين ابن زيري بن مناد أمير صنهاجة، عقد على طرابلس لعبد الله بن يخلف من رجالات كتامة. ثم لمّا ولي نزار الخلافة سنة سبع وستين وثلاثمائة طلب منه بلكّين أن يضيف عمل طرابلس إلى عمله فأجاب وعهد له بها، وولّى عليها بلكّين من رجالات صنهاجة. ثم عقد عليها الحاكم بعد مهلك المنصور بن بلكّين ليأنس الصقليّي سنة تسعين وثلاثمائة بمداخلة عاملها يمصول من صنهاجة، وأعانه على ذلك برجوان الصقليي المتغلّب على الدولة يومئذ لمنافسته ليأنس، فوصل إليها في ألف وخمسمائة فارس فملكها، فسرّح باديس جعفر بن حبيب لحربه في عسكر من صنهاجة، وتزاحفا يومين بساحة زنزور، ثم انفضّ عسكر يأنس في الثالث وقتل، ولحق فلّه بطرابلس فاعتصموا بها. ونازلهم جعفر بن حبيب القائد، وزحف فلفول بن سعيد ابن خزرون الثائر على باديس وابنه بإفريقية إلى قابس فحاصرها.
ثم قصد جعفر بن حبيب بمكانه من حصار طرابلس فأفرج عنها جعفر ولحق بنفوسة، وأميرهم يحيى بن محمد فامتنع عليهم، ثم لحق بالقيروان ومضى فلفول بن سعيد إلى طرابلس فخرج إليه فتوح بن علي ومن معه من أصحاب يأنس فملكوه، وقام فيها بدعوة الحاكم من خلفاء الشيعة وأوطنها. وعقد الحاكم عليها ليحيى بن علي بن حمدون أخي جعفر صاحب المسيلة النازع إليه من الأندلس فوصل إليها واستظهر بفلفول على بجاية، ونازل قابس فامتنعت عليه. ثم عجز عن الولاية ورأى استبداد
فلفول عليه بعصبته فرجع إلى مصر، واستبدّ فلفول بطرابلس وتداولها بنوه مع ملوك صنهاجة إلى أن استبدّوا بها آخرا. ودخل العرب الهلاليّون إلى إفريقية فخرّبوا أوطانها وطمسوا معالمها. ولم تزل بأيدي بني خزرون هؤلاء إلى أن غلبهم عليها جرجي بن ميخائيل صاحب أسطول رجّار ملك صقلّيّة من الإفرنج سنة أربعين وخمسمائة، وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم كما فعل في سواحل إفريقية فأقاموا في ملكة النصارى أياما. ثم ثار بهم المسلمون بمداخلة أبي يحيى بن مطروح من أعيانهم وفتكوا بهم. ولما افتتح عبد المؤمن المهديّة سنة خمس وخمسين وخمسمائة وفد عليه ابن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم تكرمة وردّهم إلى بلدهم، وولّى عليهم ابن مطروح إلى أن كبر سنّه وعجز. وارتحل إلى المشرق سنة ست وثمانين وخمسمائة بإذن السيد زيد بن عمر بن عبد المؤمن عامل إفريقية من قبل عمّه يوسف واستقر بالإسكندريّة.
وتعاقبت عليها ولاة الموحدين، ثم كان من أمر ابن غانية وقراقش ما قدّمناه، وصارت طرابلس لقراقش. ثم استبد بنو أبي حفص بإفريقية على بني عبد المؤمن.
وهلك قراقش وابن غانية، وانتظم عمل طرابلس في أعمال الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن انقسمت دولتهم، واقتطعت الثغور الغربية عن الحضرة. وفشل ريح الدولة بعض الشيء وتقلّص ظلّها عن القاصية، فصارت رياسة طرابلس إلى الشورى ولم يزل العامل من الموحّدين يجيء إليها من الحضرة إلّا أنّ رئيسها من أهلها مستبدّ عليها، وحدثت العصبيّة في البلد لحدوث الشورى والمنافسة فيها. ثم نزلها السلطان أبو يحيى بن اللحياني سنة سبع عشرة وسبعمائة حين تجافى عن ملك الحضرة، وأحسّ بزحف السلطان أبي يحيى صاحب بجاية إليها فأبعد عن تونس إلى ثغر طرابلس، وأقام بها وأقام أحمد بن عربي من مشيختها بخدمته.
ولما فارق ابن اللحياني تونس ويئس الموحدون من عوده أخرجوا ابنه محمد المكنّى بأبي ضربة من الاعتقال، وبايعوا له. وخرج للقاء السلطان أبي بكر ومدافعته فهزمه السلطان أبو بكر وحمله الأعراب الذين معه على قصد طرابلس لانتزاع الأموال والذخائر الملوكيّة من يد أبيه. ولما أحسّ بذلك أبوه ركب البحر من طرابلس إلى الإسكندرية كما هو مذكور في خبره، واستخلف على طرابلس صهره محمد بن أبي عمر بن إبراهيم بن أبي حفص فقام بأمرها، وولّى حجابته رجلا من أهله يشهر
بالبطيسي، فساء أثره في أهل طرابلس، وحجب عنهم وجه الرضى من سلطانه، وحمله على مصادرتهم واستخلاص أموالهم حتى أجمعوا الثورة بالسلطان فركب السفين ناجيا منهم بعد أن تعرّض بعضهم لوداعه فأطلعه على سعايات البطيسي بهم فقتلوه لوقته، وقتلوا قاضيا بطرابلس من أهل تونس كان يمالئ على ذلك. وتولّى كبر ذلك أحمد بن عربي. ثم هلك وقام بأمر طرابلس محمد بن كعبور فقتله سعيد ابن طاهر المزوغي وملك أمر البلد، وكان معه أبو البركات بن أبي الدنيا فمات حتف أنفه. واستقلّ ابن طاهر بأمر طرابلس اثنتي عشرة سنة. ثم هلك وقام بأمرها ثابت ابن عمّار الزكوجي من قبائل هوّارة. وثار به لستة أشهر من ولايته أحمد بن سعيد بن طاهر فقتله واستبدّ به. ثم ثار به جماعة زكوجة وقتلوه في مغتسله عند الآذان بالصبح، وولّوا محمدا ابن شيخهم ثابت بن عمّار أعوام سبعة وعشرين فاستبدّ بأمر طرابلس نحوا من عشرين سنة وظل الدولة متقلّص عنه. وهو يغالط عن الإمارة بالتجارة والاحتراف بها ولبوس شارتها، والسعي راجلا في سكك المدينة يتناول حاجاته وما عونه بيده ويخالط السوقة في معاملاته، يذهب في ذلك مذهب التخلّق والتواضع يسر منه حسوا في ارتغاء، ويطلب العامل من تونس، فيبعثه السلطان على طرابلس يقيم عنده معتملا في تصريفه. وهو يبرأ إليه ظاهرا من الأحكام والنقض والإبرام إلى أن كان تغلّب بني مرين على إفريقية. ووصل السلطان أبو الحسن إلى الحضرة على ما نذكره، فداوله طرف الحبل وهو ممسك بطرفه، ونقل إلى الإسكندرية ماله وذخيرته. ثم اغتاله أثناء ذلك جماعة من مجريش عند داره فقتلوه، وثار منهم للحين بطانته وشيعه. وولي بعده ابنه ثابت، فتزيّا بزي الإمارة في اللبوس والركوب بحلية الذهب، واتخاذ الحجاب والبطانة.
وأقام على ذلك إلى أن اجتمع بها أسطول من تجّار النصارى أغفلوا أمرهم لكثرة طروقهم وتردّدهم في سبيل التجارة، وكثرة ما يغشاها من سفنهم، فغدروا ليلا وثاروا فيها وكثروا أهلها فأسلم الحامية إليهم باليد. وفرّ مقدّمهم ثابت إلى حلّة أولاد مرغم أمراء الجواري في انحائها [1] فقتلوه صبرا لدمّ كان أصابه منهم في رياسته، فكانت مدته ست سنين، وقتلوا معه أخاه عمارا. واكتسح النصارى جميع ما كان بالبلد من
[1] كذا، وفي ب: انجابها.
الذخيرة والمتاع والخرثيّ والماعون، وشحنوا السفن بها وبالأسرى من العقائل والحامية مصفّدين، وأقاموا بالبلد أياما على قلقة [1] ورهب من الكرّة لو كان لها رجال. ثم تحدّثوا مع من جاورها من المسلمين في فدائها فتصدّى لذلك صاحب قابس أبو العبّاس أحمد بن مكي وبذل لهم فيها خمسين ألفا من الذهب استوهب أكثرها من جماعة المسلمين بالبلاد الجريدية تزلفا إلى الله باستخلاص الثغر من يد الكفر، وذلك سنة [2] وخمسين ولحق ولد ابن ثابت بثغر الإسكندرية فأقاموا به يحترفون بالتجارة إلى أن هلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وسبعمائة، وقام بأمره ولده عبد الرحمن.
فسما أبو بكر بن محمد بن ثابت إلى رياسة أبيه، وذكر عهود الصبا في معاهد قومه فاكترى من النصارى سفنا شحنها بصنائعه وموالي أبيه، ونازلها سنة إحدى وسبعين وسبعمائة في أسطول من أساطيلهم. واجتمع إليه ذؤبان العرب ففرّق فيهم الأموال وأجلب عليها بمن في قراها وأريافها من الرجل، فاقتحمها على عبد الرحمن بن أحمد بن مكي عنوة، وأجاره العرب من أولاد مرغم بن صابر، تولّى ذلك منهم إلى أن أبلغوه مأمنه في إيالة عمّه عبد الملك بمكان إمارتهم بقابس.
واستوسق أمر طرابلس لأبي بكر هذا، واستقلّ بولايتها. ودخل في طاعة السلطان أبي العبّاس بتونس، وخطب له على منابرة، وقام يصانعه بما للسلطان من الضريبة، ويتحفه حينا بعد حين بالهدايا والطرف إلى أن هلك سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وولي مكانه علي ابن أخيه عمّار، وقام بكفالته عمّه. وكان قائده قاسم ابن خلف الله متّهما بالتشيع للصبي المخلف عن أبي يحيى، فارتاب ودفعوه لاقتضاء المغارم من مسرتة، فتوحّش الخليفة من علي وانتقض. ثم بعث إليه بأمانه فرجع إلى طرابلس، ثم استوحش وطلب الحج فخلّوا سبيله وركب البحر إلى الإسكندرية. ولقي بها خالصة السلطان محمد بن أبي هلال عام حج فأخذ منه ذمّة، وكرّ راجعا في السفين إلى تونس يستحث السلطان لملك طرابلس. فلما مرّ بهم راسلوه ولاطفوه واستعادوه إلى مكانه فعاد إليهم. ثم جاءته النذر بالهلكة ففرّ، ولحق السلطان بتونس واستحثّه لملك طرابلس. وبلغ الخبر إلى السلطان فبعث معه ابنه
[1] كذا، والأصح: قلق.
[2]
كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة.
الأمير أبا حفص عمر لحصار طرابلس فنزل بساحتها، وافترق عرب دباب عليه وعلى ابن ثابت، وقام ابن خلف الله في خدمته المقام المحمود، ووفّر له جباية الوطن ومغارمه ونقل العرب إلى طاعته ويستألفهم به، وأقام عليها حولا كريتا [1] يمنع عنهم الأقوات ويبرزون إليه فيقاتلهم بعض الأحيان. ثم دفعوه بالضريبة التي عليهم لعدّة أعوام نائطة [2] وكان قد ضجر من طول المقامة فرضي بطاعتهم وانكفأ راجعا إلى أبيه سنة خمس وتسعين وسبعمائة فولّاه على صفاقس وافتتح منها قابس كما قدمناه. وأقام عليّ بن عمّار على إمارته بطرابلس إلى هذا العهد، والله مدبّر الأمور بحكمته.
هذا آخر الكلام في الدولة الحفصيّة من الموحّدين وما تبعها من أخبار المقدّمين المستبدّين بأمصار الجريد والزاب والثغور الشرقية، فلنرجع إلى أخبار زناتة ودولهم، وبكمالها يكمل الكتاب إن شاء الله تعالى.
تم طبع الجزء السادس ويليه الجزء السابع
[1] حولا كريتا أي كاملا.
[2]
النائط معلق كل شيء. ويقال مفازة بعيدة النياط: أي الحد. وأظنه يقصد بها هنا: لعدة أعوام غير محدودة.