الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو يحيى بن أحمد بن يوسف بن منصور بن فضل بن علي بن أحمد بن الحسن بن
(الخبر عن رياسة بني يملول بتوزر وبني الخلف بنفطة وبني أبي المنيع بالحامة)
زعيم هؤلاء الرؤساء ابن يملول صاحب توزر لاتساع بلده وتمدّن مصره واحتلاله منها بأمّ القرى من قطره، وهو يحيى بن محمد بن أحمد بن محمد بن يملول. ونسبهم بزعمهم في طوالع العرب من تنوّخ، استقرار [1] ولده بهذا الصقع كان منذ أوّل الفتح فعفوا [2] وتأثّلوا ووشجت به عروقهم نسبا وصهرا حتى انتظموا في بيوتات الشورى المتقدّمين للوفادة على الملوك وتلقي العمّال القادمين من دار الخلافة والنظر في مصالح الكافّة أيام آل حمّاد بالقلعة، وآل عبد المؤمن بمراكش وآل أبي حفص بتونس، مثل بني واطاس وبني فرقان وبني ماردة وبني عوض. وكان التقدّم فيهم أيام عبد الله الشيعي لابن فرقان، وهو الّذي أخرج أبا يزيد حين شعر به أنه يريد القيام على أبي القاسم القائم، وأيام آل حمّاد ليحيى بن واطاس، وهو النازع بطاعة أهل قسنطينة إليهم عن آل بلكّين ملوك القيروان حين انقسمت دولة آل زيري، وافترق أمرهم. ثم عادت الرئاسة لبني مروان لأوّل دولة الموحّدين، ومنهم كان الّذي لقي عبد المؤمن وآتاه الطاعة عن نفسه وعن أهل بلده توزر، فتقبّله ووصله.
وصار الأمر للموحدين فمحوا منها آثار المشيخة والاستبداد. ونشأ أحمد هذا الجد متراميا إلى الرئاسة بهذا القطر يدافع عنه بالراح، ويزاحم بالمناكب من وجوه البلد
[1] وفي نسخة ثانية: استقر أوّلوه.
[2]
بمعنى كثروا.
وأشراف الوطن. وسعى به إلى شيخ الموحّدين وقائد العسكر أيام السلطان أبي حفص محمد الفازاري فنكبه وصادره على مال امتحنه عليه. كانت أوّل نكباته التي أورت من زناده وأوقدت من جمرة، وتخلّص إلى الحضرة يؤمّل اعتقال مطيته وثبوت مركزه من دار الخلافة فأوطنها أياما يباكر أبواب الوزراء والخاصّة، ويلثم أطراف الأولياء والحاشية وينزل كرائم ماله فيما يزلفه لديهم، ويؤثره بعنايتهم حتى استعمل بديوان البحر مقعد العمّال بمرفإ السفن لجباية الأعشار من تجّار دار الحرب. ثم استضاف بما كان من عنائه فيها واضطلاعه سائر أعمال الحضرة فتقلّدها زعيما بإمضاء الجرايات وإدرار الجباية. واستمرّت على ذلك حاله وتضاعفت فائدته فأثرى واحتجن المال، واستخرج الذخيرة قاطعا لألسنة السعاية بالمصانعة والإتحاف بطرف ما يجلبه الروم من بضائعهم حتى أبطره الغنى، ودلّت على مكانته الثورة، ورفع أمره إلى الحاجب فخرج التوقيع بالقبض عليه واستصفاء ماله لعهد السلطان أبي يحيى اللحياني فنكب الثانية وصودر على مئين [1] . من آلاف الدنانير وامتحن لها، وباع فيها كسوته حين قرأ الكتاب وخلص من النكبة مسلوب [2] الأمانة ممزّق الأديم فقيد الرياش، أحوج ما كان إلى ما يعوز من الكن والدفء وبلالة العيش. ولحق ببلده ناجيا بالرمق ضارعا للدهر.
ودفعه الملأ إلى ما يستنكفون عنه من خدمة العمّال ومباكرة أبوابهم والامتحان في ضروراتهم، وأنجده في ذلك بخت جذب بضبعه. وكان في خلال ذلك شغل الحضرة شأن الثغور الغربية وأمرائها فتقلّص ظلّ الدولة عن هؤلاء بعض الشيء وحملت الرعايا بالبلاد الجريدية، وصار أمرها إلى الشورى التي كانت عليها قبل. فلما أدرك أحمد هذه الشورى التي كان يسمو لها سموّ حباب الماء ثلج صدره، وأنجح سعيه، واستبدّ بمشيخة توزر. وهلك في أعوام ثماني عشرة فخلفه من بعده في سبيله تلك ولده يحيى طموحا إلى المرتبة منافسا في الاستقلال، ومزاحما بيوتات المصر بمناكب استوطأها [3] بسائر عمره من الدعّار والأوغاد بمعاقرة الخمر والمجاراة في فنون
[1] وفي نسخة ثانية: مئتين.
[2]
وفي نسخة ثانية: مثلوب. ثلبه: عابه ولامه، اغتابه، سبه طرده (قاموس) .
[3]
وفي نسخة ثانية: استوصلها سائر عمره.
الشباب لسير [1] أمره، والاستعلاء [2] على نظائره حتى تطارحوا في هوة الهلاك بين قتيل ومغرّب ونحيب العمران، لم يعطفه عليهم عواطف الرحم ولا زجره وازع التقوى والسلطان، حتى خلا له الجو واستوسق الأمر واستقلّ من أمر البلد والحل والعقد بأوفى من استبداد أبيه. وكان مهلكه قريبا من استبداده لخمس سنين متلقيا [3] الكرة من يده أخوه محمد تربه في الرئاسة ومجاريه في مضمارها، فأجرى إلى الغاية واقتعد كرسي الرئاسة وعفى على آثار المشيخة. واستظهر على أمره بمصانعه أمراء البدو وأولاد أبي الليل، والمتات إليهم بصهر كان عقده أبوه أحمد لأبي الليل جدّهم على أخته أو عمته. فكانوا ردءا له من الدولة فنفذ [4] صيته وعظم استيلاؤه وامتدّت أيامه وعني الملوك بخطابه واسناد الأمور في تلك البلاد إليه خلال ما تعود الكرّة وتهب ريح الدولة. وزحف إليه القائد محمد بن الحكيم سنى أربعين فلاذ منه بالطاعة والمصانعة بالمال، ورهنه ولده يحيى فرجعه إليه ابن الحكيم وتقبّل طاعته من غير رهن استقامة لما ابتلاه من خلوصه. وأقام على ذلك إلى أن هلك لعام أربع وأربعين من المائة الثامنة.
وتصدّى ولده عبد الله للقيام بالأمر فوثب عليه عمه أبو زيد بن أحمد فقتله على جدث أبيه صبح مواراته بعد أن كان أظهر الرضا به والتسليم له فثارت به العامّة لحينه، وكان مصرعهما واحدا. وقام بالأمر أخوه يملول بن أحمد أربعة أشهر كانت شرّ مدة وأسوأ ولاية، لما أصاب الناس بسوء ملكته من سفك الدماء واستباحة الحرم واغتصاب الأموال، حتى كان ينسب إلى الجنون مرّة وإلى الكفر أخرى فمرج أمرهم واستولى الضجر على نفوسهم، وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فراسله أهل توزر سرا وأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذت عليه المواثيق بالطاعة والوفاء بالجباية فصمد إليها بمن في لفّه من الأعراب، وحشد نفزاوة والمجاورين لها في القرى الظاهرة المقدّرة السير، وأجلب عليهم ثم بيّتها فاقتحمها وبادر الناس إلى القبض على يملول أخيه وأمكنوه منه فاعتقله بداره وتبرّأ من دمه، وأصبح لثالثة اعتقاله ميتا بمحبسه.
وكانت قفصة من قبل ذلك لما صار أمر الجريد إلى الشورى قد استبد بها يحيى بن
[1] وفي نسخة أخرى: ليستبد.
[2]
وفي نسخة أخرى: والاستيلاء.
[3]
وفي نسخة أخرى: فتلقف.
[4]
وفي نسخة أخرى: فبعد.
محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد من بيوتها، ونسبهم بزعمهم في بلى ولهم خلف بزعمهم في الشريد من بطون سليم. والله أعلم بأوّلية نزولهم بقفصة حتى التحموا بأهلها وانتظموا أمر بيوتاتها. وكانت البيوت بها بيت بني عبد الصمد وبيت بني أبي زيد، وكانت رياسته لبعض بني أبي زيد لعهد الأمير أبي زكريا الأعلى، كان يستعمله على جباية أموال الجريد، ثم سعى به أنه أصاب منها فنكبه وصودر على آلاف من المال فأعطاها، وأقامت رياستهم متفرّقة في هذه البيوتات.
ولما حدثت العصبية بالبلد أيام صار أمر الجريد إلى الشورى كان بنو العابد هؤلاء أقوى عصبية من سائرهم، واستبدّ بها كبيرهم يحيى بن علي. فلما فرغ السلطان من شغله بزناتة وخيّم السلطان أبو الحسن على تلمسان فحاصرها. وأقبل السلطان على النظر في تمهيد ملكه وإصلاح ثغوره، وافتتح أمره بغزو قفصة ونهض إليها سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في عساكر من الموحدين وطبقات الجند والأولياء من العرب، فحاصرها شهرا أو نحوه وقطع نخيلها فضاق مخنقهم بالحصار وتلاوموا في الطاعة.
واستبقوا بها إلى السلطان وفرّ الكثير من بني العابد فلحقوا بقابس في جوار ابن مكي ونزل أهل البلد على حكم السلطان فتقبّل طاعتهم وأحسن التجاوز عنهم، وبسط المعدلة فيهم وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم، وانكفأ راجعا إلى حضرته بعد أن آثرهم بسكنى الجريد، واحتمل مقدّم روضة يحيى بن علي إلى الحضرة فلم يزل بها إلى أن هلك سنة أربع وأربعين وسبعمائة، واستبد الأمير أبو العبّاس بأمر الجريد واستولى على نفطة كما قدّمناه. وقيل لبني الخلف وهم: مدافع وأبو بكر عبد الله ومحمد وابنه أحمد بن محمد إخوة أربعة، وابن أخيهم بنو الخلف من مدافع، ونسبهم في غسّان من طوالع العرب.
انتقل جدهم من بعض قرى نفزاوة إلى نفطة وتأثّل بها، وكان لبنيه بها بيت. واستبدّ هؤلاء الإخوة الأربعة أزمان الشورى كما قدّمناه. ولما استولى السلطان أبو بكر على الجريد وأنزل أنبه أبا لعبّاس بقفصة، وعقد له على سائر أمصاره وأمضى طاعتهم وامتنعوا فسرّح إليهم وزيره أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين. وجهّزت له العساكر من الحضرة ونازلها وقطع نخلها ولاذ أهلها بالطاعة، وأسلموا بني مدافع المتغلّبين فضرب أعناقهم وصلبهم في جذوع النخل آية للمعتبرين. وأفلت السيف منهم عليّا صغيرهم لذمّة اعتدّها له أبو القاسم بن عتو لنزوعه إليه قبل الحادثة.
فكانت واقيته من الهلكة. واستولى الأمير أبو العباس على نفطة واستضافها إلى عمله.
ثم مرض أبو بكر بن يملول في طاعته فنهض إليه السلطان أبو بكر من تونس سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكان الفتح كما قدّمناه. ولحق أبو بكر بن يملول ببسكرة فلم يزل بها إلى أن أجلب على توزر فنبذ إليه يوسف بن مزني عهده، وانتقل إلى حصون وادي ابن يملول المجاورة لتوزر، وهلك سنة ست وأربعين. ثم كان مهلك السلطان وابنه أبو العبّاس صاحب الأعمال الجريدية إثر ذلك سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ورجع إلى كل مصر من الجريد مقدّموه فرجع أحمد بن عمر بن العابد إلى قفصة من مكانه في جوار ابن مكي واستولى على بلده في مكان ابن عمه يحيى بن علي، ورجع علي بن الخلف إلى نفطة واستبدّ بها. ورجع يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول إلى توزر من مثوى اغترابه ببسكرة، ارتحل إليها مع عمه أبي بكر طفلا، فلمّا خلا الجريد من الإمارة ودرج يحيى هذا من عشّه في جوار يوسف بن منصور بن مزني وأطلقه مع أولاد مهلهل من الكعوب بعد أن وصلهم وشاركهم [1] ، واسترهن فيه أبناءهم فأوصلوه إلى محل رياسته بتوزر، ونصّبه شيعته وأولياء أبيه، وقاموا بأمره.
ورجع أمر الجريد كلّه إلى رياسة مقدّمه كما كان.
ثم وفدوا على السلطان أبي الحسن عند رجعته إلى إفريقية ولقوة بوهران فلقاهم مبرّة وتكرمة ورجّع كلا إلى بلده ومحل رياسته بعد أن أسنى الجائزة، ووفّر الأسهام والأقطاع، وأنفذ الصكوك والكتب، فرجع إلى توزر يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول صبيا مغتلما، وإلى نفطة عليّ بن الخلف. وإلى قفصة أحمد بن عمر بن العابد ونزل كل واحد من هذه الأمصار عاملا وحامية. وعقد على الجريد كلّه لمسعود ابن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه، واستوصى بهؤلاء الرؤساء خيرا في جواره حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة وارتحل عامل الجريد مسعود بن إبراهيم ونزل المغرب بمن معه من العمّال والحامية، ونمي خبره إلى الأعراب من كرفة فصبحوه في بعض مراحل سفره دون أرض الزاب فاستلحموه ومن كان معه من الحامية، واستولوا على أفنيتهم وذخيرتهم وكراعهم، واستبدّ رؤساء تلك البلاد بأمصارهم وعادوا إلى ديدنهم من التمريض، وآذنوا بالدعاء لصاحب الحضرة
[1] وفي نسخة ثانية: شارطهم.
بمنابرهم، واستمرّوا على ذلك. فأمّا يحيى بن محمد بن يملول فنزع إلى مناغاة الملوك في الشارة والحجاب واتخاذ الآلة والبيت المقصور للصلاة، واقتعاد الأريكة وخطاب السمر، [1] بل وفسح للمجون والعكوف على اللذّات مجالا يرى أنّ جماع السياسة والملك في إدارة الكأس وافتراش الآس والحجبة عن الناس والتألّه على الندمان والجلّاس. وفتح مع ذلك على رعيته وأهل إيالته باب العسف والجور. ورعى بيت المشاهير منهم غيلة فأتلفت نفوسهم، وامتدّ أمره في ذلك إلى أن استولى السلطان أبو العباس على إفريقية، وكان من أمره ما نذكره. وأمّا جاره الجنب علي بن الخلف فلم يلبث لما استبدّ برياسته أن حجّ سنة أربع وستين وسبعمائة والتزم مذاهب الخير وطرق الرضا والعدالة، وهلك سنة خمس وستين وسبعمائة بعدها وولي مكانه ابنه محمد جاريا على سننه. ثم هلك لسنة من ولايته، وقام بأمره أخوه عبد الله بن علي فأذكى سياسته، وأوقع [2] حزمه وأرهف للناس حدّه فنقموا عليه سيرته، وسئموا عسفه واستمكن مناهضهم في الشرف ومحاذبهم في رياسة البلد القاضي محمد بن خلف الله من صاحب الحضرة بذمّة كانت له في خدمته قديما واستعمله لرعيها في خطة القضاء بحضرته، وآثره بالمكان منه والصحبة فسعى بعبد الله هذا عنه الخليفة ودلّه على مكامن هلكته، وبصره بعورات بلده. واقتياد عساكر السلطان إليه في زمامه.
ولما احتلّ بظاهر البلد وعبد الله رئيسها أشدّ ما كان قوّة وأكثر جمعا وأمضى عزما استألف أخوه الخلف بن علي بن الخلف جماعة المشيخة دونه، وحرّضهم عليه وداخل القاضي بتبييتها وأنه بالمرصاد في اقتحامها، حتى إذا كانت البيعة دسّ إلى بعض الأوغاد في قتل أخيه عبد الله، ومكر بالقاضي والعسكر وامتنع عليهم واعتصم دونهم. واستقل برياسة بلده وأقام على ذلك يناغي ابن يملول في سيره ويطارحه الكثير من مذاهبه، ويجري في الثناء الّذي بلغ إلى غايته وأولى على بنيته [3] . وأمّا أحمد بن عمر بن العابد فلم يزل من لدن استبداده ببلده قفصة سالكا مسالك الخمول منحطا عن رتبة التكبّر منتحلا مذاهب أهل الخير والعدالة في شارته وزيّه ومركبه، جانحا إلى التقلّل. فلما أوفى على شرف من العمر [4] استبدّ عليه ابنه محمد
[1] وفي نسخة ثانية: وخطاب التمويل.
[2]
وفي نسخة ثانية: ايقظ.
[3]
وفي نسخة ثانية: وأوفى على ثنيته.
[4]
أي أصبح شيخا كبيرا.
وترفع عن حال أبيه بعض الشيء إلى مناغاة هؤلاء الرؤساء المترفين، فبينما هؤلاء المتقدّمون في هذه الحالة من الاستبداد على السلطان والتخلف بأخلاق الملوك، والتثاقل عن الرعايا بالعسف والجور، واستحداث المكوس والضرائب إذ طالما خصهم [1] السلطان أبو العباس بالحضرة مستبدا بدعوته، صارفا سهم عزائمه [2] فوجموا وتوجسوا الخيفة منه. وائتمروا في المظاهرة واتصال اليد بعد أن كانوا يستحثّونه إلى الحضرة، ويبعثون إليه بالانحياش على البعد زبونا على صاحب الحضرة ونزوعا على مصدوقية الطاعة. فلما استبدّ السلطان أبو العباس بالدعوة استرابوا في أمرهم وسرّبوا أموالهم في الأعراب المخالفين على السلطان من الكعوب، يؤمّلون مدافعتهم عنهم فشمّر لها أولاد أبي الليل بما كان وقع بينهم وبين السلطان من النفرة.
ونهض إليهم السلطان فغلبهم على ضواحي إفريقية على الظواعن التي كانت جبايتها لهم من مرنجيزة كما قلناه، واستلحمهم فأوهن ذلك من قوّتهم.
ثم زحف الثانية إلى أمصار الجريد فلاذوا بالامتناع، فأناخ السلطان بعساكره وأوليائه من العرب أولاد مهلهل على قفصة فقاتلوها يوما أو بعض يوم، وعدا في ثانية على السلطان ونزل على حكمه فتقبّض عليه وعلى ابنه شهر ذي القعدة من سنة ثمانين وسبعمائة وتملّك البلد، واستولى على ديار ابن العابد بما فيها. وكان استيلاء لا يعبّر عنه لطول أيامه في الولاية وكثرة احتجانه للأموال. وعقد السلطان على قفصة لابنه أبي بكر وارتحل يريد توزر، وطار الخبر لابن يملول في توزر فقوّض عنها بأهله، ونزل على أحياء مرداس وسرّب فيهم المال فرحلوا معه إلى الزاب، ولحق ببسكرة مأوى نكباته ومنتهى مقره، فنزل بها على أحمد بن يوسف بن مزني وأقام هنالك على بلغة [3] من توقع مطالبة السلطان له ولجاره ابن مزني من خسارة أموالهم في لفوف [4] العرب وسوء المغبّة إلى أن هلك لسنة أو نحوها وائتمر أهل توزر. بعد تقويضه عنهم، بعثوا إلى السلطان ببيعتهم فلقيه في أثناء طريقه، وتقدّم إلى البلد فنزل بقصور ابن يملول واستولى على ذخيرته وتبرّأ إليه أهل البلد من ودائع كانت له عندهم من خالص
[1] وفي نسخة ثانية: إذ أطل على مفاحصهم.
[2]
وفي نسخة ثانية: صارفا الى فتحها عزائمه.
[3]
وفي نسخة ثانية: على قلعة.
[4]
وفي نسخة ثانية: زبون.
الذخيرة فدفعوها إلى السلطان. وعقد لابنه المنتصر على توزر، واستقدم الخلف بن الخلف من نفطة، وكان يخالف أصحابه إلى الطاعة حتى نقضوها زبونا على ابن يملول وسالفه من العداوة ينقلها [1] . فلما أحيط بهم أدركه الدهش وبادر إلى السلطان بطاعته فأتاها، وقدم عليه فتقبّل السلطان ظاهره وأعطى له عن غيرها طمعا في استصلاحه، وعقد له على حجابة ابنه المنتصر وأنزله معه بتوزر وأمره باستخلافه بلده نفطة، وعقد له على ولايتها وانكفأ راجعا إلى حضرته، وقدّم ابن الخلف على أمره ورأى أنه قد تورّط في الهلكة فراسل ابن يملول بمكانه من توزر، وعثر أولياء السلطان على كتابه إلى يعقوب بن علي شيخ رياح ومدرة [2] حروبهم يحرّضه على صريخ ابن يملول ومعونته، فعلموا نكثه ومداجاته وبادروا إلى القبض عليه، وولّوا على نفطة من قبلهم وخاطبوا السلطان بالشأن وأقام في ارتحاله إلى أن كانت حادثة قفصة، فبادر الأمير المنتصر إلى قتله.
وكان من خبر قفصة أنّ ابن أبي زيد من مشيختها كان ينزع إلى السلطان قبل فتحها هو وأخوه لمنافسة بينهما وبين ابني العابد وهما: محمد وأحمد ابنا عبد العزيز بن عبد الله ابن أحمد بن عليّ بن عمر بن أبي زيد. وقد ذكر أوليتهم واستعمال سلفهم أيام الأمير زكريا الأعلى في جبايته الجريد. فلما استولى السلطان على البلاد رعى لهما تشيعهما وبدارهما إلى طاعته مع قومهما فأمر لهما مع ابنه بقفصة وكبيرها [3] رديف لحاجبه عبد الله من الموالي الأتراك ومدبّر لأمور البلد في طاعة السلطان. ثم نزغ الشيطان في صدره وحدّثته نفسه بالاستبداد، وأقام يتحيّن له الفرض وذهب الأمير أبو بكر إلى زيارة أخيه بتوزر فكاده بالتخلف عنه، وجمع أوباشا من الغوغاء والزعانف وتقدّم بهم إلى القصبة وبعث بالصريخ للفتك بعبد الله التركي ونذر بذلك فأغلق أبواب القصبة وبعث الصريخ في أهل القرى، وقاتلهم ساعة من نهار حتى وافى إليه المدد.
فلما استغلظ بمدده أدركهم الدهش وانفضّ الأشرار من حوله ونجوا إلى الاختفاء في بيوت البلد، وتقبّضوا على الكثير ممن داخلهم في الثورة، ووصل الخبر إلى الأمير
[1] وفي نسخة ثانية: كان يتقبلها.
[2]
مدرة: دره عليهم: طلع وهجم، ودره لهم وعنهم: دافع (القاموس) .
[3]
وفي نسخة ثانية: مع قديمهما فانزلهما مع ابنهما بقفصة، وكبيرهما رديف لحاجة.
أبي بكر بتوزر فبادر إلى مكانه، وقد سكن جأشه [1] واستلحم جميع من تقبّض عليه حاجبه ونادى في الناس بالبراءة من ابن أبي زيد فتبرّءوا منه. وعثر الحرس عليه وعلى أخيه خارجين من أبواب البلد في زي النساء فقادوهما إليه فقتلهما بعد أن مثّل بهما.
واستبدّ السلطان بالجريد ومحا منه آثار المساءة [2] وعفا عليهما وانتظمه في عمالات السلطان. وأمّا بلد الحامة وهي من عمالة قسطيلية وتعرف بحامة قابس وحامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطنين كانوا بها من البربر، وهم فيما يقال الذين اختطّوها، ففيها الآن ثلاث قبائل من توجر وبني ورتاجن [3] وهم في العصبية فرقتان: أولاد يوسف ورياستهم في أولاد أبي منيع وأولاد حجاف [4] ورياستهم في أولاد وشاح، ولا أدري كيف نسب الفرقتين. فأمّا أبو منيع فالحديث في رياستهم في قومهم أنّ جدّهم رجاء بن يوسف كان له ثلاثة من الولد وهم بوشباك وأبو محمد [5] وملالة وأنّ رياسته بعده كانت لابنه بوشباك، ثم ابنه أبي منيع من بعده، ثم لابنه حسن بن أبي منيع، ثم لابنه محمد بن حسن، ثم لأخيه موسى بن حسن ثم لأخيهما أبي عنّان [6] إلى أن كان ما نذكر. وأمّا أولاد حجاف فكانت أوّل رياستهم لمحمد بن أحمد بن وشاح، وقبله خاله القاضي عمر بن كلى، وكان العمّال من الحضرة يتعاقبون فيهم إلى أن أسقط السلطان عنهم الخراج والمغارم بأسرها. وكان مقدّمهم لأوّل دولة السلطان أبي بكر من أولاد أبي منيع، وهو موسى بن حسن. وكان المديوني قائد السلطان واليا عليهم، وارتاب بهم بعض الأيام وأحبّوا الثورة به، فدسّ بها إلى السلطان في بعض حركاته، وغزاهم بنفسه ففرّوا، وأدرك سبعة من أولاد يوسف هؤلاء وتقبّض عليهم فقتلوا. ثم رجع الأمير وولّى موسى بن حسن. ولمّا هلك تولّى بعده أخوه أبو عنّان، وطال أمد ولايته عليهم وكان منسوبا إلى الخير والعفاف. وهلك سنة اثنتين
[1] وفي نسخة ثانية: وقد سكنت الهيعة.
[2]
وفي نسخة ثانية: آثار المشيخة.
[3]
كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: توجن وبني ورياجن.
[4]
كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: جحاف.
[5]
وفي نسخة ثانية: بوساك ويحمد وملالت.
[6]
كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: علّان.
وأربعين وسبعمائة وولي بعده ابنه الآخر أبو زيان. ثم ولي بعدهما ابن عمّهما مولاهم ابن محمد. ووفد على السلطان أبي الحسن مع وفد أهل الجريد كما مرّ. ثم هلك فولي بعده من بني عمّهم حسّان بن هجرس، وثار به محمد بن أحمد بن وشاح من أولاد حجاف المذكور فعزله، وأقام في ولايته إلى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فثار به على الحامة وقتلوا عمر بن كلبى القاضي، وولّوا عليهم حسّان بن هجرس واليهم.
وثار به يوسف واعتقله وهو يوسف بن عبد الملك بن حجّاج بن يوسف بن وشاح وهو الآن مقدّمها يعطي طاعة معروفة، ويستدعي العامل في الجباية ويراوغ عن المصدوقية والغلب والاستيلاء، قد أحاط به من كل جهة. وأملي عليّ بعض نسّابتهم أنّ مشيخة أهل الحامة في بني بوشباك. ثم في بني تامل بن بوشباك. وأنّ تأمل رأس عليهم وأنّ وشاحا من ولد تأمل وأن بني وشاح، على فرقتين: بنو حسن وبنو يوسف، وحسّان ابن هجرس ومولاهم وعمر أبو علّان كلّهم من بني حسن، ومحمد بن أحمد بن وشاح من بني يوسف، وهذا مخالف للأوّل، والله أعلم بالصحيح في أمرهم. وأمّا نفزاوة وأعمال قسطيلية فتنسب لهذا العهد إلى توزر وهي القرى العديدة المعروفة السير، يعترض بينها وبين توزر إلى القبلة عنها السبخة المشهورة المانعة في الاعتساف، ولها معالم قائمة من الخشب يهتدي بها السالك، وربما يضل خائضها فتبتلعه. ويسكن هذه القرى قوم من بقايا نفزاوة من البرابرة البتر الذين بقوا لك بعد انقراض جمهورهم، ولحق العرب بسائر بطون البربر، ومعهم معاهدون من الفرنجة ينسبون إلى سردانية نزلوا على الذمّة والجزية وبها الآن أعقابهم. ثم نزل عليهم من أعراب الشريد وزغب من بني سليم كل من عجز عن الظعن، وملكوا بها العقار والمياه وكثرت نفزاوة، وهم لهذا العهد عامّة أهلها وليس في نفزاوة هذه رياسة لصغرها ورجوعها في الغالب إلى أعمال توزر ورياستها. هذا حال المتقدّمين ببلاد الجريد في الدولة الحفصيّة أوردنا أخبارهم فيها لأنهم من صنائعها، وفي عداد ولاتها ومواليها، والله متولي الأمور أهـ
.