الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بها. وقفل السلطان إلى مقرّه فنزل بها، وسخط وجوها من سليم: من مرداس ودباب، كان فيهم رحاب بن محمود وابنه، فاعتقلهم واشخصهم إلى المهديّة فأودعهم بمطبقها ورجع إلى تونس ظافرا غانما.
(الخبر عن دعوة مكة ودخول أهلها في الدعوة الحفصية)
كان صاحب مكّة ومتولّي أمرها من سادة الخلق وشرفائهم ولد فاطمة، ثم من ولد ابنها الحسن صلوات الله عليهم أجمعين، أبو نمى وأخوه إدريس، وكانوا قائمين بالدعوة العباسيّة منذ حوّلها إليهم بمصر والشام والحجاز صلاح الدين يوسف بن أيّوب الكردي، وأمر الموسم وولايته راجعة إليه، وإلى بنيه ومواليه من بعده إلى هذا العهد. وجرت بينهم وبين الشريف صاحب مكة مغاضبة وافقها استيلاء الططر على بغداد، ومحوهم رسم الخلافة بها، وظهور الدعوة الحفصيّة بإفريقية، وتأميل أهل الآفاق فيها وامتداد الأيدي إليها بالطاعة. وكان أبو محمد بن سبعين الصوفي نزيلا بمكة، بعد أن رحل من بلده مرسية إلى تونس، وكان حافظا للعلوم الشرعية والعقلية، وسالكا مرتاضا بزعمه على طريقة الصوفية. ويتكلم بمذاهب غريبة منها، ويقول برأي الوحدة كما ذكرناه في ذكر المتصوّفة الغلاة، ويزعم بالتصوّف في الأكوان على الجملة، فأرهق في عقيدته، ورمي بالكفر أو الفسق في كلماته، وأعلن بالنكير عليه والمطالبة له شيخ المتكلمين بأشبيليّة. ثم بتونس أبو بكر بن خليل السكونيّ، فتنمّر له المشيخة من أهل الفتيا وحملة السنّة وسخطوا حالته.
وخشي أن تأسره البيّنات فلحق بالمشرق ونزل مكة، وتذمّم بجوار الحرم الأمين، ووصل يده بالشريف صاحبها. فلما أجمع الشريف أمره على البيعة للمستنصر صاحب إفريقية، داخله في ذلك عبد الحق بن سبعين وحرّضه عليه، وأملى رسالة بيعتهم، وكتبها بخطه تنويها بذكره عند السلطان والكافة، وتأميلا للكرة ونصها:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 صلى الله على الإسوة المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ الله نَصْراً
عَزِيزاً، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَكانَ الله عَلِيماً حَكِيماً 48: 1- 4.
هذا النوع من الفتح أعني المبين هو من كل الجهات داخل الذهن وخارجة، وهو الّذي خصّت به مكة، وهو أعظم فتح نذر في أيام الدهر والزمان الفرد منه خير من أيام الشهر، وبه تتم النعمة، ويستقيم صراط الهداية، وتحفظ النهاية، وتغفر ذنوب البداية، ويحصل النصر العزيز، ونور السكينة، وتتمكن قواعد مكة والمدينة.
وكلمة الله عاملة في الموجودات بحسب قسمة الزمان. ثم لا يقال إنها متوقفة على شيء، ولا في مكان دون مكان.
وهذا الفتح قد كان بالقصد الأول والقدر الأكمل، للمتبوع الّذي أفاد الكمال الثاني كالسبع المثاني، فإنه هو الإسوة صلى الله عليه وسلم، وكل نعمة تظهر على سعيد ترجع إليه مثل التي ظهرت على خليقته وعلى يديه. وإن كانت نصبة مولده صلى الله عليه وسلم ورسالته تقتضي ختم الأنبياء بهذا القرن الّذي نحن فيه، وأمامنا فيه هو ختم الأولياء. فمن فتح عليه بفتح مكة تمّت له النعمة، ورفعت له الدرجة، وضفت عليه الرحمة. ومن وصل سلطانه إليها فقد هدي الرشد وسار على صراطه، ورجح ميزان ترجيحه على أقرانه وأرهاطه. ومن حرم هذا فقد حرم من ذلك، والأمر هكذا.
وسنة الله كذلك، وصلى الله على رسوله الّذي طلع المجد من مدينته بعد ما أطلعه من بلده، ورضي الله عن خليفته المنتخب من عنصر خليفة عمر صاحب نبيه، ثم من عمر صاحبه ووليّه والحمد للَّه على نعمه.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 وصلى الله على سيد ولد آدم محمد. «حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً من عِنْدِنا، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً من رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» 44: 1- 6. قد صح أن هذه الليلة فيها تنزل الآيات وترتقب البيّنات، وفيها تخصيص القضايا الممكنة وأحكام الأكوان ويفرق الأمر، ويفسّر الملك الموكل بقبض الأرواح بحمل الآجال في الأزمان، وفيها تقرر خطة الإمامة والملك، وتقيض الإمامة بالهلك، وهي في القول الأظهر في أفضل الشهور، وفي السابع والعشرين منه كما ورد في الحديث المشهور. ثم هي في أمّ القرى وفي حرمها تقدّر بقدر زائد، ويعم فضلها إلّا للحائد عن الفائد،
وإنما قلت هذا ورسمته ليعلم من وقف على الخطبة التي اقتضبتها، والليلة التي فيها قرأتها، أنها من أفضل المطالب التي قصدت، وأن القرائن التي اجتمعت فيها ولها، زادت على الفضائل التي لأجلها رصدت، وأيضا تأخّر فيها مجد إمام عن إمام، وبعد مجد إمامه وراء إمام هو وراء الإمام، ورحمت فيها نفس خليفة عبرت وتلقّب وعظمت فيها ذات خليفة تحيي التي سلفت، فهذه نعمة بركة ينبغي أن يقرّر حدها ويتحقّق مجدها، ولا يقدر قدرها فإنّها ليلة قدر، ليلة قدرها.
والحمد للَّه حمدا وأصلا: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، وصلى الله على واحد الله في عنايته سيّدنا محمد طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ 28: 1- 2 إلى قوله مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 6 الحق الشاهد لنفسه المتفق من جميع جهاته، وفي سنّة الله التي لا تحول ولا تبدّل والمتعارف من عادته التي ربطها بحكمته التي تعدّل ولا تعدّل، أن لكل هداية نبويّة ضلالة فرعونيّة، وكذا الحال في الأولياء، ومع كل مصيبة فرج، ولا ينعكس الأمر في الأتقياء. ولكلّ ظلم ظالم متجبّر قهر قاهر متكبّر، وعند ظهور ظفر المبطل يظهر قصد المحق المفضل. وفي عقب كل فترة أو فيها كلمة قائم بحق يغلب لا يغلب، وفي كل دور أو قرن أمامة تطلب بشخصها ولا تطلب، وكواكب الكفر إذا طلعت على أفق الإيمان فيه نكب آفلة، وكلمة الله إذا عورضت تكر معارضتها قافلة. وإنما ذكرت ذلك بعد الذكر المحفوظ ليتذكّر بالآيات الظاهرة إلى الآيات القاهرة. وليعلم كل مؤمن أن كلمة الله متّصلة الاستصحاب والسبب، وعاملة في الأشياء مع الأزمان والحقب، وأن رجال الملّة الحنفية أعلى المنازل والرتب. ولذلك يقول في نوع فرعون الأذل، ونوع موسى الأجل: أشخاصها متعددة، وأكوانها متّحدة، والله غالب على أمره. وقد قيل إن الملّة الحنفيّة المضريّة تنصرها السيرة العمريّة المحمديّة المستنصريّة.
ولعلّ الّذي أقام الدين وأطلعه من المشرق وأتلفه منه، يجيره من المغرب ولا ينقله عنه، فينبغي لمن آمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسوله، وبما يجب كما يجب أن لا يتغير قصده ولا يتوقف عند سماع المهلكات حمده، قد قيّدت أقدام قوم بشرك الشرك، وحملهم الضجر إلى الهلك بطاعة الترك وكع [1] كيد الكنود هلك كنعان وكل بصر
[1] كذا، وفي ب: وكم.
بصيرته، ولبس لهم ثوب الذلّ بالعرض، وجعل مصيبة الدين تفئته مع جحوده لسلطان السنّة والفرض. وأما هامان المرتدّين فليس هم بالمؤمنين، وعلا فرعون الشر في الأرض، والله يمنّ على المستضعفين في الأرض بنصر من عنده، ويهلك المفسدين بجند من رفده. وينبغي أو يجب أن نضرب عن ذكر كائنة مدينة السلام، فإنّها تزلزل الطبع وتحمل الروح إلى ساحة الشام أو تفزع في صلاة كسوف شمس سرورها إلى التسليم بالاستسلام وتكبر أربع تكبيرات على الأنس ويودع بعد ذلك وعد وسلام، وينتظر قيامه بقيام أمر محيي الدين والإسلام، والحمد للَّه على كل حال.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 وصلى الله على الّذي أعجزت خصاله العدّ والحدّ، مسلم والطبقة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعدّه عدا. وقال صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعد. زاد أبو العبّاس الهمدانيّ، وأشار بيده إلى المغرب. وذكر بهاء الدين التبريزي في ملحمته التي زعم أنه لا يثبت فيها من الأخبار إلا ما صحّحته روايته، ولا يذكر من الأحكام المنسوبة إلى الصنائع العمليّة إلّا ما أبرزته درايته. ولا يعتبر من الأعلام الدينيّة إلى ما أدركته هدايته. قال في الترجمة الأولى: إذا خرجت نار الحجاز يقتل خليفة بغداد، ويستقيم ملك المغرب وتبسط كلمته في الأقطار، ويخطب له على منابر خلفاء بني العبّاس، ويكثر الدر بالمعبر من بلاد الهند.
ذكرت هذا ليعلم المقام أيّده الله أنه هو المشار إليه، وأنه الّذي يعوّل في إصلاح ما فسد بحول الله عليه. ومن تأمّل قوله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان الحديث، تبين له ما أردناه وذلك يظهر من وجوه، منها: أن الخليفة المذكور لم يسمع به فيما تقدم، ولا ذكر في الدول الماضية، ولو ذكر لرددنا القول به وأهملناه لأجل تقييده بآخر الزمان. والثاني: أن آخر الزمان الّذي يراد به ظهور الشروط المتوسطة، وأكثر العلامات المنذرة بالساعة هو هذا بعينه. الثالث: لا خليفة لأهل الملة في وقتنا هذا غير الّذي قصدناه.
وهذه أقطار الملّة منحصرة ومعلومة لنا من كل الجهات، والّذي يشاركه في الاسم ويقاسمه في إطلاقه فقط لا يصدق عليه، إذ هو أضعف من ذرّة في كرّة، ومن نملة في رملة. وأفقر من قصد طالب السراب، ويده مع هذا أيبس من التراب فصحّ
السبر والتقسيم، وبتصفح الموجودات والأزمان والدول والمراتب والنعوت إنه هو لا شريك له فيها، والمصحّح لذلك كله، والّذي يصدق وينطبق عليه مدلول الحديث كرمه الّذي يعجز عنه الحدّ، ولا يتوقّف فيه العد. وهذا خليفة الملّة كذلك، وهذه دلائله هي أوضح من نار على علم. وهذه خصاله شاهدة له بفضائل السيف والقلم، وهذه خزائنه تغلب الطالب وتعجز عن الدافع، وهذه سعوده في صعوده، وهذه متاجر تعويله على الله رابحة وهذه أخواله بالكلية صالحة، وهذه سعايته ناجحة.
ثم هذه موازين ترجيحه راجحة، والحمد للَّه كما يجب.
وما النصر إلا من عند الله وصلى الله على عبده محمد بن عبد الله إنه من بكة وإنه للحق وإنه بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، وإنه إلى خضر لا تحصر الحصر ويحدر فيها الندر [1] ويحافظ على سنّة الرؤوف الرحيم. صلى الله عليه وسلم أمّا بعد فبهداهم اقتده، الحمد للَّه الّذي أحسن بمقام الإحسان وتمّم النعمة، وبيّن لمن تبيّن علم البيان، وحكم لمن أحكم الحكمة وسبقت في صفات أفعاله صفة الرحمة وذكر الهداية في كتابه بعد ذكر النعمة، هو الرؤوف بالبرية وهو الرحيم والحفي بالحنفية، وهو القاهر الماضي المشيئة الّذي يقبض ويبسط ويمضي المشيئة. شهد له بالكمال الممكن الّذي أبرزه وخصّصه وعرّفه بالجلال من يسره لذلك وخلصه. هو الّذي استعمل عليها من اختاره لإقامة النافلة والفرض، وأعمى من أهلها من توسّل له بنيّة العرض وأعتق العقاب وسر العقاب وأهمل العقاب بطاعة من يستعمر به الربع المعمور، وأنعم على المستضعفين في الأرض بإمام نجر المجد في بحر خصاله يعد بعض البعض.
سنته محمديّة، وسيرته بكريّة وسريرته علويّة، وسلالته عمريّة. فهذه ذرّية وأنواع مجد بعضها من بعض، بل هذه خطوط فصل الطول فيها مثل العرض. عرف بالرياسة العالية، ووصف بالنفاسة السالية، وشهد له بذلك الخاص والعام ونزه من النقائص. النزيه النفس ومن نزهه في سلطانه علمه العام. صلى الله على الإسوة الرؤوف بالمؤمنين، سيّدنا محمد الّذي أنزل عليه التنزيل، وكتب اسمه في صحيح القصص والنصوص، ونبي الله به وبأئمة أمّته الذين شبّههم بالبنيان المرصوص،
[1] كذا، وفي ب: النذر.
وعلى آله وصحبه الكرام البررة الذين اصطفاهم وطهّرهم، ثم أيّدهم فطهّروا الأرض من الكفرة الفجرة. وأخرج من ظهورهم ذرياتهم بالدين أظهرهم، ويسّر بهم السبيل ثم السبيل يسّرهم.
ومنهم الخليفة المستنجد باللَّه المفضّل على الناس، ولكن أكثرهم ورضي الله عنهم وعنه، وضاعف للمحب الثواب الدائم منهم ومنه. وبعد خدمة يتقدم فيها بعد الحمد والتصلية والدعاء للدولة الدالة على قبول الدعوة أصلية، تحيّة بعضها مكية وكلها ملكوتيّة، وروضة ريحها حضرة القدس ونشرها يدرك فيه صحبة النفث، روح القدس. وتكبر عن أن تشتبه بالعنبر والند والورد وأزهار الربى والرياض. لأن المفارق للمادة مفارق لغير المفارق لها مفارقة السواد للبياض. ثم هي مع هذا واجبة القصد عذبة الورد، تذكر الذاكر الذكي بعرفها الذكي لمدركات جنّة الخلد والنعيم. وفي مثل هذه فليتنافس المتنافسون.
وتدرك النفس النفيسة لذة النعيم لأنها ظاهرة طيبة، وكريمة صبيّة، واقفة على حضرة الملك والسلطان، ومدار فلك النسك ومستقر الإمامة والجلالة، ومعقل الهداية والدلالة، وأصل الأصالة ودار المتقين، وبيت العدالة وحزب اليقين. وإنسانها الأعظم معلي الموحدين على الملحدين وقائم الدين وقيمه، ومقر الإسلام ومقدّمه، القائم بالدعوة العامّة بعد أبيه إمام المجد والفخر، ثم الأمّة الّذي إذا عزم أوهم بتخصيص مهمل، اتخذ في خلده ما هو بالفعل مع ما هو بالقوّة، وأن يعرض له في طريق إعراضه الممكن العسير يسره سعده وساعده ساعد القوة وإن سمع بالحمد في جهة حد به [1] بخاصة خصاله بعد مجد الأبوّة وفخر النبوّة، لا يذكر معه ولا عنده صعب الأمور إلّا بالضد، فإنه مظهر العناية الإلهية، ومرآة المجد والجد.
هو علم العلم ثم هو محل الحلم، اسمه متوحّد في مدلوله كالاسم العلم، وعهده لا يتوقّف على اللسان ولا على رسوم القلم.
كتب في السماء وسمع به في الكرسي وكذلك العرش، وما هنا إنما هو مما هنالك فهو الأعلى. وإن كان في الفرش هو شامخ القدر ظاهر الفضل شديد البطش. ثم هو مما ظهر عليه علم أن الشجاعة لم تتنقل من الإنسان إلى الأسد. ولا يقال هذا بحر العلم
[1] كذا، وفي ب: حد له.
فينقل من الطبيعة إلى بحر الخلد، لأن ذلك كله فيه بوجه أكمل وبه وعليه، وفي يديه بنوع أفضل بلغ ذروة النهاية المخصوصة، بالمطالب العالية وحصل في الزمان الفرد ما حصله الفرد في الأيام الخالية. وبلغ في تبليغ حمده بصفاته ما بلغ الأشد عمره ونال غاية الإنسان، ويتعجّب منه في القيامة عمره، ويسره أمره طلعت سعوده على مولده، ومطالعه كلمة مجده لأحكام الفلك وطالعة. إن حرّر القول فيه وفهم شأنه، قيل هو من فوق الأطلس والمكوكب، وإن قيس سعده بالكمالات الثلاثة كان كالبسيط مع المركّب.
أي غاية تطلب بعد طاعته، وأي تجارة تنظر مع بضاعته، له الحمد بيده الملك والأمانة، بل له الكل بفضل الله وفيه المقصد والسلامة، لا بل له الفتح المبين وتتميم النعمة والهداية ونور السكينة، وفيه الإمارة والعلامة. منير مكة بإزاء بيت بكة خطب بخطبته، والّذي ذهب بالمدينة يطلب فلعله يسعفه في خطبته أفئدة السرّ تطير إذا سمعت بذكره، والمهندات البتر تلين لباس ساعده. ويقول طباع أربابها بشكره دولة التوحيد، توحّدت له إذ هو واحدها الأوحد، وسياسة التسديد تحكمت له فهو مدبّرها الأرشد. ومع هذا كتابته أهملت صيت الصادين، وكورت شمس الفتح، ثم الفتح والصادين.
وكذلك الثلاثة الذين من قبلهم لا نذكر معه الأديب حبيب في رد الأعجاز على الصدور، فإنه الّذي يعتبر في ذلك والّذي يصدر عنه هو واقع في الصدور، وأفعل في طباع المهرة وفي نفوس الصدور يتأخر عن شعره شعر الرجلين. وبعده نذكر الطبقة، ثم شعراء نجد، والخبب والجبليّ والولد بعده والهذلي، والمؤكد هو تقديمه في المغرب من ذلك. والهذلي علوم الأدب، الخمسة تممها وسادسها وسابعها زاده من عند نفسه. وخليل النحو لو حضر عنده كان خليله في تحصيل نوعه وجنسه، والفارسيّ تلميذه ثم الآخر بعده والأخفش الكبير ثم الصغير ما ضرب لهم من قبل في مثله بنصيب. وأقام أئمّة النحو تنحو نحوه بنحو ينحوه نحو نحوه، ثم لا يكون كالمصيب. وكل كوفي بل كل بصري يحب الظهور إذا سمع به اختفى، والمنصف منهم هو الّذي بنحوه اكتفى. أقيسة الفقه الثلاثة هذّبها وحصّلها، وأصوله كما يجب علمها وفصلها. والمسائل الطبولية تكلم على مفصلها ومجملها، وسهّل الصعب من مخصّصها ومهملها.
وإن فسّر كتاب الله المعجز عجز أرباب البلاغة بإعجاز بعد إعجازه، وإن تعرّض لعوارض ألفاظه أظهر العجب في اختصاره [1] وإيجازه. وإن شرع في شرح قصصه وجدله، وفي تفسير ترغيبه وترهيبه. ومثله يبصر الناظر فيه والمستمع لما لم يسمع وما لم يبصر، فإنه سلك بقدم كماله وتكميله على قنطرة بعد لم تعبر ويضطر الزعيم به بتحصيله إلى تجديد قنطرة أخرى، وبعد هذا يفتقر في بيانه إليه في الأولى وإلى الله في الأخرى. وإن تكلّم على متشابهه ومحكمه علم الاصطلاح. ثم بيان النوع للخبير به وبمحكمه، وكذلك القول على الناسخ والمنسوخ والوعد والوعيد. وإن يشاء طول في مطولاتهم واختصر من مختصراتهم، فبيده الزيادة وضد المزيد، وأما تحرير أمره ونهيه وأسراره ورقائقه، وفواتح سوره وحقائقه. والّذي يقال إنه لا من جنس الّذي يكتسب والّذي هو أعظم من الّذي يرد، وإليه الأحوال تنتسب فهو الشارح لها والخبير بها، وإن تأخّر. وينوّع في ذلك ويزيد غير الأول وإن تكرّر. وأما علوم الحديث وأنواعها السبعة فهو بعلمها، وصناعته بجملتها للعلماء يعلمها. والوراقة والضبط والخط وقفت عليه مهنة غايتها، وحمله الأمر علوم الشريعة كلّها عرفها ووعاها ورعاها حق رعايتها. وكل العلوم العقليّة والنقليّة ورجالها على ذهنه الطاهر من دنس النسيان، والمقامات السنيّة المستنزلات العلويّة أدركها بعد التبيان. فمن أراد أن يمدحه ويعدل عن إطلاق القول فقد اقترف أعظم الذنب. ومن ذكره ولم يتلذّذ بذلك فقد جاء بما ينضح حمله الخبب، ونعوت جمالها يمنع عن إدراكها نور المتصل، وحضرة جلاله محفوظة بجدّها وجدّها وقاطعها المنفصل. ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ من يَشاءُ، 5: 54 قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ 3: 26 الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. 6: 124 هذه كلّها. آياته والرابعة: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوها 16: 18 فإنّها هباته إن حدّث المحدّث بكرمه يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده، ونصر الله إذا جاء لا يردّه، وفتحه من ذا الّذي عن السعيد يصدّه، والمؤرّخ يتذكّر بتذكره الكلمات الهذلي من حيث المطالب، إذ قال: وقد سئل عن الإمام علي بن أبي طالب هو الإمام وفيه أربعة وهو واحدها حتى في رفع التشبيه وقطع السبب، العلم والحلم والشجاعة وفضل الحسب، يسرّ
[1] كذا، وفي ب: اختياره، وهو تحريف.
بحكمته ويغتبط بها متى يتبع جملته، الباحث الحكيم ولا يشعر بشعره إذا تصفّح نعوته الشاعر العليم، وينشد طبعه في الحين والوقت والحزّة ويخرج الحروف من مخارج الهمزة.
شهدت لقد أوتيت جامع فضله
…
وأنت على علمي بذاك شهيد
ولو طلبت في الغيب منك سجيّة
…
لقد فرّ [1] موجود وعزّ وجود
أدام الله له المجد الّذي يسلك به على النجدين، وحفظ عليه مقامه الّذي لا يحتقر فيه إلّا جوهر النقدين، وبسط له في العلم والقدرة، وبارك له في نصيب النصرة، وجهّز به العسرة، وردّ به على الشرك والفتن الكرّة، وعرفه في كل ما يعتزمه صعا جميلا، ولطفا خفيا جليلا. وكفاه الشرّ المحض وخير الشرين، كما كشف له عن الخير المحض وعلم السريّن، وأيّده بروح منه في السّر والسريرة، وحفظه في حركاته وسكناته من الصغيرة والكبيرة. وجعل كلمته غالبة للضد والجند، وبلغ صيته الجزائر والبربر، ثم الى السند والهند. وخلّد ملكه وسلّم فلكه، ورفعه على أوج المجد بحدّه الطويل العريض. وأهبط عدوّه من الشرف الأعلى إلى الحضيض.
وفتح الله به باب الفتح في المشرق والمغرب بعد فتح الثغور، وشرح بنصره وفتحه أوساط الصدور، وما استنبطته الضمائر من نفثات الصدور وجبر به كسر الظفر، ووصل به ما انقطع من الأسباب. وعصم جنده من ضد الدنف الأنف، وردّهم إلى ردم الأبواب وقدّس كلمته بعد الحرمين في البيت المقدّس، وسلك به مسالك السبل في المقيل والمعرس. وبعد هذا فهذه أدعيتنا، بل هذه أوديتنا، وهذه مسائلنا بل هذه وسائلنا، وهذه تحيّة حيّاها ذو الفطرة السليمة، وهذه خدمة يفتخر بها طبيعة النفس العليمة. واستنبت فيها الكتاب واستثبت فيها الجواب، والموجب لإصدارها محبّة أصلها ثابت وفرعها في العلى وحفز عليها حافزان: شوق قديم، ورعاية الآخرة والأولى، بل الأمر الّذي هو في خير الأمور من أوسطها، وإذا نظم في عقد الأسباب الموجبة لهذه الخطابة يكون في وسطها، فإنه يحكي أحكام الشأن والقصّة، ويعلم المقام أيّده الله الّذي حصل له في حرم الله وحرم نبيه من النصيب والحصّة، وفيه ينبغي أن تذهب الألفاظ وتلحظ عيون الأغراض وينفح المقاصد ويحمل على جواهر
[1] كذا. وفي ب: قر.
الكمالات كالأعراض، فمن ذلك ذكر الملّة التي كملت وكبرت، والأخرى التي كانت ثم غمرت وصغرت. والمنبر الّذي صعد خطب خطبته على الخطيب، وعرج إلى سماء السموّ وهو على درجه، والآخر الّذي درج عنه خطيبه وضاق صدره الأمر حرجه، وقرئت سورة الإمام بحرف المستنجد المستبصر، لا بحرف المستعصم بن المستنصر.
بسط القول وأطلق ترجمة عبد الله بعد ما قبضه الّذي أمات وأحيا، وقبض على مقامه ودفع للإمام محمد بن يحيى، وكان ذلك في يوم وصول الخبر بمصيبة الاختبار، ثم في ليلة الآيات والاعتبار. ومن ذلك أيضا بعمة الحمد والدعاء الظاهر القول والمقبول في الحرم الشريف، وانقياد الّذي ظهر على طائفة الحق والسيد والشريف. ومن ذلك صعود علم الأعلام على جبل معظم الحجّ ومقرّ وفوق الحاج، ووقف به المتكلم في مقام من كانت له سقاية الحاج، وذكر كما يجب بما يجب في موقف الإمام مالك، وعرف هنالك أنه الإمام والمالك لكل مالك، وتعرّفت نكرة دعوة التوحيد بتخصيص خصوصية المخصوص بعرفة، وتعارف بها من تعارف معه هناك ونعم التعارف والمعرفة.
ثم ذكر عند المشعر الحرام وفي جهات حدود حرم المسجد الحرام، وعظم اسمه بعد ذكر الله وذكر الوالدين، وطلع الذاكر بالتركيب إلى الجدّين الساكنين في الخلد والخالدين. فلمّا وصل الحجيج إلى عقبة الجمرات، ذكر مع السبع الأولى سبع مرّات. وكذلك عند الركوع في مسجد الخيف، وكل كلمات تمجيده بالكم والكيف، وعند التوجّه من هناك ويوم النفر قرّرت آياته المذكورة في كتاب الجفر.
ثم جدد الذكر حول البيت العتيق بالحمد والشكر. فلمّا وصل العلم بانتقال بيت الملك والسلطان من بغداد في شهر رمضان، أظهر الخفي المكنون فكان ذلك مع التسبيح والقرآن، وكان الخادم في الزمان الأول وفي الذاهب ينتظر الخطفة من نحو عراق والمغرب. والآن وجد نفسها من نحو اليمن إقليم الأعراب والعرب.
والّذي حمل على هذا كلّه طاعة كاملة وغبطة عاملة، والله تعالى بفضله يعصمه من كيد المعاند، فإنه في إظهار دعوة التوحيد كالمجاهد والمكابد، ومعاد التحيّة على المقام الأرفع والمقرّ الأنفع، وعلى خدام حضرته العلية، وأرباب دعوته الجليّة وأنواع رحمته تعالى وبركاته. والحمد للَّه كما يجب وصلى الله على نبيّه محمد وعلى آله وسلّم.