الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد تحدث أهل هذا الجيل فيما يتحدثون به أن أخت يعلى بن محمد اليفرني جاءت بولد من غير أب سموه كلمام. ويذكر له أخبار في الشجاعة خرقت العوائد ودلت على أنه موهبة من الله استأثره بها، لم يشاركه فيها غيره من أهل جلدته. وربما ضاقت حوامل الخواص منهم عن ملتقط هذه الكائنة، ويجهلون ما يتسع لها ولأمثالها من نطاق القدرة، وينقلون أن حملها كان أثر استحمامها في عين حامية هنالك غب ما صدر عنها بعض السباع، كانت ترد فيها على الناس، ويردون عليها ويرون أنها علقت من فضل ولوغه، ويسمون ذلك المولود ابن الأسد لظهور خلعة الشجاعة فيه. وكثير من أمثال هذه الأخبار التي لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملأت الدواوين. ولم يزل هذا دأبهم وحالهم إلى أن مهدوا من الدول وأثلوا من الملك ما نحن في سبيل ذكره.
(الفصل الرابع في ذكر أخبارهم على الجملة من قبل الفتح الإسلامي ومن بعده الى ولاية بني الأغلب)
هؤلاء البربر جيل وشعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف في تاريخ الفتح بإفريقية والمغرب. وفي أخبار ردتهم وحروبهم فيها. نقل ابن أبي الرقيق أن موسى ابن نصير لما فتح سقوما [1] كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد بن عبد الملك ويحك إني أظنها من بعض كذباتك، فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة، ولم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل وإلى الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها ولا ما قبلها. وكان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق والمغرب إلا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم. فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم، فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مرارا على ما ذكر مؤرخوهم، فاستكانوا لغلبهم ودانوا بدينهم.
ذكر ابن الكلبي أن حمير أبا لقبائل اليمانية، ملك المغرب مائة سنة وأنه الّذي ابتني
[1] وفي النسخة التونسية: سقيوما.
مدائنه مثل إفريقية وصقلّيّة واتفق المؤرخون على غزو أفريقش بن صيفي من التبابعة إلى المغرب كما ذكرنا في أخبار الروم، واختطوا بسبب البحر وما يليه من الأرياف مدنا عظيمة الخطة وثيقة المباني شهيرة الذكر باقية المعالم والآثار لهذا العهد مثل:
سبيطلة وجلولاء ومزناق وطاقة وزانة وغيرها من المدن التي خربها المسلمون من العرب لأول الفتح عند استيلائهم عليها. وقد كانوا دانوا العهد هم بما تعبدوهم به من دين النصرانية، وأعطوهم المهادنة وأدوا إليهم الجباية طواعية.
وكان للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة وعدة وعدد وملوك ورؤساء وأقيال. وأمراؤها لا يرامون بذل، ولا ينالهم الروم والإفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة الإساءة، وقد صبحهم الإسلام وهم في مملكة قد استولوا على رومة. وكانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة ومصر يؤدون الجباية له، وكما كان صاحب طرابلس ولبدة وصبرة وصاحب صقلّيّة وصاحب الأندلس من الغوط لما كان الروم غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع. وعنهم كلهم أخذوا دين النصرانية، فكان الفرنجة هم الذين ولوا أمر إفريقية ولم يكن للروم فيها شيء من ولاية. وإنما كان كل من كان منهم بها جندا للإفرنج ومن حشودهم. وما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح إفريقية فمن باب التغليب، لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج، وما قاتلوا في الشام إلا الروم، فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية. فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا اسم الروم على جميع أمم النصرانية.
ونقلت الأخبار عن العرب كما هي فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج وليس من الروم، وكذا الأمة الذين كانوا بإفريقية غالبين على البربر ونازلين بمدنها وحصونها، إنما كانوا من الفرنجة. وكذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم، لقرب الشام وسلطانه منهم كما كان جراءة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح، وكما كانت نفوسة من برابر إفريقية قندلاوة ومدينونة وبهلولة وغياتة وبنو بازاز [1] من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في
[1] وفي نسخة أخرى: بنو فازان.
نواحيه من بقايا الأديان والملل، فكان البربر بإفريقية والمغرب قبل الإسلام تحت ملك الفرنج، وعلى دين النصرانية الّذي اجتمعوا عليه مع الروم كما ذكرناه حتى إذا كان الفتح وزحف المسلمون إلى إفريقية زمان عمر رضي الله عنه سنة تسع وعشرين، وغلبهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤيّ، فجمع لهم جرير [1] ملك الفرنجة يومئذ بإفريقية من كان بأمصارها من الفرنج والروم، ومن بضواحيها من جموع البربر وملوكهم.
وكان ملك ما بين طرابلس وطنجة، وكانت دار ملكه سبيطلة فلقوا المسلمين في زهاء مائة وعشرين ألفا، والمسلمون يومئذ في عشرين ألفا، فكان من هزيمة العرب لهم وفتحهم لسبيطلة وتخريبهم إياها وقتلهم جرجير ملكهم. وما نفلهم الله من أموالهم وبناتهم التي اختصت منهن ابنته بقاتله عبد الله بن الزبير لعهد المسلمين له بذلك بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى الخليفة والملأ من المسلمين بالمدينة ما هو كله مذكور مشهور. ثم أرزي الفرنجة ومن معهم من الروم بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى حصون إفريقية، وانساح المسلمون في البسائط بالغارات، ووقع بينهم وبين البربر أهل الضواحي زحوف وقتل وسبي، حتى لقد حصل في أسرهم يومئذ من ملوكهم وزمار بن صقلاب [2] جد بني خزر، وهو يومئذ أمير مغراوة وسائر زناتة، ورفعوه إلى عثمان بن عفان فأسلم على يده، ومن عليه وأطلقه، وعقد له على قومه.
ويقال إنما وصله وافدا، وحصن المسلمين عليهم ولاذ الفرنج بالسلم وشرطوا لابن أبي سرح ثلاثمائة قنطار من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب، ويخرج بهم من بلادهم ففعل. ورجع المسلمون إلى المشرق وشغلوا بما كان من الفتن الإسلامية. ثم كان الاجتماع والاتفاق على معاوية بن أبي سفيان، وبعث معاوية بن خديج السكونيّ من مصر لافتتاح إفريقية سنة خمس وأربعين. وبعث ملك الروم من القسطنطينية عساكره لمدافعتهم في البحر فلم تغن شيئا وهزمهم العرب ساحل أجم.
وحاصروا جلولاء وفتحوها، وقفل معاوية بن خديج إلى مصر فولى معاوية بن أبي سفيان على إفريقية بعده عقبة بن نافع، فاختط القيروان وافترق أمر الفرنجة وصاروا
[1] لعله جرجير كما سيرد بعد قليل.
[2]
وفي النسخة الباريسية: صولات بن وزمار (كتاب قبائل المغرب/ 369.
إلى الحصون وبقي البربر بضواحيهم إلى أن ولي يزيد بن معاوية وولى على إفريقية أبا المهاجر مولى [1] وكانت رياسة البربر يومئذ في أوربة لكسيلة بن لمزم، وهو رأس البرانس، ومرادفه سكرديد بن رومي بن مازرت من أوربة، وكان على دين النصرانية فأسلما الأول الفتح. ثم ارتدا عند ولاية أبي المهاجر واجتمع إليهما البرانس، وزحف إليهم أبو المهاجر حتى نزل عيون تلمسان فهزمهم وظفر بكسيلة فأسلم واستبقاه. ثم جاء عقبة بعد أبي المهاجر فنكبه غيظا على صحابته لأبي المهاجر. ثم استفتح حصون الفرنجة مثل ماغانة [2] ولميس، ولقيه ملوك البربر بالزاب وتاهرت فغضهم جمعا بعد جمع، ودخل المغرب الأقصى، وأطاعته غمارة، وأميرهم يومئذ بليان. ثم أجاز إلى وليلى ثم إلى جبال درن، وقتل المصامدة، وكانت بينهم وبينه حروب، وحاصروه بجبال درن. ونهضت إليهم جموع زناتة وكانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة، وأثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام، ودوخ بلادهم. ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام وهم يومئذ على دين المجوسية، ولم يدينوا بالنصرانية، فأثخن فيهم وانتهى إلى تارودانت وهزم جموع البربر، وقاتل مسوفة من وراء السوس، وساسهم وقفل راجعا. وكسيلة أثناء هذا كله في اعتقاله لجمعه معه في عسكره سائر غزواته.
فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود. وتراسل كسيلة وقومه، فأرسلوا له شهودا وانتهزوا الفرصة فيه وقتلوه ومن معه وملك كسيلة إفريقية خمس سنين ونزل القيروان وأعطى الأمان لمن بقي بها ممن تخلف من العرب أهل الذراري والأثقال، وعظم سلطانه على البربر.
وزحف قيس بن زهير البلوي في ولاية عبد الملك للثأر بدم عقبة سنة سبع وستين، وجمع له كسيلة سائر البربر، ولقيه بجيش من نواحي القيروان فاشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم. وأتبعهم العرب إلى محنة [3] ثم إلى ملوية وفي هذه الواقعة ذل البربر وفنيت فرسانهم ورجالهم وخضت شوكتهم واضمحل أمر الفرنجة فلم يعد، وخاف البربر من زهير ومن العرب خوفا شديدا فلجئوا
[1] هكذا بالأصل وفي النسخة التونسية: مولى (فلان) .
[2]
وفي نسخة أخرى: باغاية.
[3]
وفي نسخة أخرى: مر محنة. وفي النسخة التونسية مر مجنة.
إلى القلاع والحصون. ثم ترهب زهير بعدها وقفل إلى المشرق فاستشهد ببرقة كما ذكرناه. واضطرمت إفريقية نارا وافترق أمر البربر وتعدد سلطانهم في رؤسائهم. وكان من أعظمهم شأنا يومئذ الكاهنة دهيا بنت ماتية [1] بن تيفان ملكة جبل أوراس وقومها من جراوة ملوك البتر، وزعمائهم فبعث عبد الملك إلى حسان بن النعمان الغساني عامله على مصر ان يخرج إلى جهاد إفريقية، وبعث إليه بالمدد، فزحف إليها سنة تسع وسبعين ودخل القيروان وغزا قرطاجنة وافتتحها عنوة، وذهب من كان بقي بها من الإفرنجة إلى صقلّيّة وإلى الأندلس.
ثم سأل عن أعظم ملوك البربر فدلوه على الكاهنة وقومها جراوة فمضى إليها حتى نزل وادي مسكيانة. وزحفت إليه فاقتتلوا قتالا شديدا. ثم انهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وأسر خالد بن يزيد القيسي. ولم تزل الكاهنة والبربر في اتباع حسان والعرب حتى أخرجوهم من عمل قابس، ولحق حسان بعمل طرابلس. ولقيه كتاب عبد الملك بالمقام فأقام وبنى قصوره وتعرف لهذا العهد به. ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها واتخذت عهدا عند أسيرها خالد بالرضاع مع ابنتها [2] . وأقامت في سلطان إفريقية والبربر خمس سنين. ثم بعث عبد الملك إلى حسان بالمدد، فرجع إلى إفريقية سنة أربع وسبعين، وخربت الكاهنة جميع المدن والضياع، وكانت من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا في قرى متصلة.
وشق ذلك على البربر فاستأمنوا لحسان فأمنهم ووجد السبيل إلى تفريق أمرها، وزحف إليها وهي في جموعها من البربر فانهزموا، وقتلت الكاهنة بمكان السر المعروف بها لهذا العهد بجبل أوراس. واستأمن إليه البربر على الإسلام والطاعة وعلى أن يكون منهم اثنا عشر ألفا مجاهدين معه، فأجابوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وعقد للأكبر من ولد الكاهنة على قومهم من جراوة [3] وعلى جبل أوراس فقالوا: لزمنا الطاعة له سبقناها إليها وبايعناه عليها [4] . وأشارت عليهم بذلك لإثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها وانصرف حسان إلى القيروان فدون الدواوين وصالح من
[1] وفي النسخة التونسية: ثابتة.
[2]
وفي نسخة أخرى: ابنيها.
[3]
وفي النسخة التونسية: هوارة وبعض الأحيان جراوة.
[4]
وفي النسخة التونسية: لطاعة سبقا بها إليه بإيعاز أمهما واشارتها عليهما.
التقى بيده إلى البربر على الخراج. وكتب الخراج على عجم إفريقية ومن أقام معهم على النصرانية من البربر والبرانس. واختلفت أيدي البربر فيما بينهم على إفريقية والمغرب فخلت أكثر البلاد، وقدم موسى بن نصير إلى القيروان واليا على إفريقية. ورأى ما فيها من الخلاف، وكان ينقل العجم من الأقاصي إلى الأداني وأثخن في البربر.
ودوخ المغرب وأدّى إليه البربر الطاعة. وولي على طنجة طارق بن زياد، وأنزل معه سبعة وعشرين ألفا من العرب واثني عشر ألفا من البربر، وأمرهم أن يعلموا البربر القرآن والفقه. ثم أسلم بقية البربر على يد إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى ومائة.
وذكر أبو محمد بن أبي زيد: إن البربر ارتدوا اثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة، ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق وموسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوخ المغرب وأجاز معه كثير من رجالات البربر أمرائهم برسم الجهاد. فاستقروا هنالك من لدن الفتح، فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه، ورسخت فيهم كلمة الإسلام وتناسوا الردة. ثم نبضت فيهم عروق الخارجية فدانوا بها، ولقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق. وتعددت طوائفهم وتشعبت طرقها، من الإباضية والصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج.
وفشت هذه البدعة وعقدها رءوس النفاق من العرب وجرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة إلى الانتزاء على الأمر فاختلوا [1] في كل جهة، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر تتلون عليهم مذاهب كفرها، ويلبسون الحق بالباطل فيها إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب، فقتلوا يزيد بن أبي مسلم سنة اثنتين ومائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات. ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس، وأثخن في البربر وسبى وغنم. وانتهى إلى مسوفة فقتل وسبى وداخل البربر منه رعب وبلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه.
وثار ميسرة المطغتي [2] بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله وبايع لعبد الأعلى بن جريج
[1] وفي النسخة التونسية: فأجلبوا.
[2]
وفي نسخة أخرى: ميسرة المطغري وفي كتاب قبائل الغرب ص 382: ميسرة المدغري.
الإفريقي روميّ الأصل ومولى العرب، كان مقدم الصفرية من الخوارج في انتحال مذهبهم، فقام بأمرهم مدة وبايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعيا إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية. ثم ساءت سيرته فنقم عليه البربر ما جاء به فقتلوه وقدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي.
(قال ابن عبد الحكم) هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم، وزحف إلى العرب وسرح إليهم عبد الله بن الحجاب العساكر في مقدمته ومعهم خالد بن أبي حبيب فالتقوا بوادي شلف، وانهزم العرب وقتل خالد بن أبي حبيب ومن معه وسميت وقعة الأسراب وانتقضت البلاد ومرج أمر الناس، وبلغ الخبر هشام بن عبد الملك فعزل ابن حجاب وولى كلثوم بن عياض القشيري سنة ثلاث وعشرين وسرحه في اثني عشر ألفا من أهل الشام. وكتب إلى ثغور مصر وبرقة وطرابلس أن يمدوه، فخرج إلى إفريقية والمغرب حتى بلغ وادي طنجة وهو وادي سبس فزحف إليه خالد ابن حميد الزناتي فيمن معه من البربر، وكانوا خلقا لا يحصى. ولقوا كلثوم بن عياض من بعد أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم، وقتل كلثوم وأضرمت العساكر فمضى أهل الشام إلى الأندلس مع فلح بن بشر القشيري ومضى أهل مصر وإفريقية إلى القيروان.
وبلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك فبعث حنظلة بن سفيان الكلبي فقدم القيروان سنة أربع وعشرين وأربعمائة [1] وهوارة يومئذ خوارج على الدولة، منهم عكاشة بن أيوب وعبد الواحد بن يزيد في قومهما، فثارت هوارة ومن تبعهم من البربر فهزمهم حنظلة بن المعز بظاهر القيروان بعد قتال شديد. وقتل عبد الواحد الهواري وأخذ عكاشة أسيرا، وأحصيت القتلى في هذه الوقيعة فكانوا مائة وثمانين ألفا. وكتب بذلك حنظلة إلى هشام وسمعها الليث بن سعد فقال: ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلى من غزوة القرن والأصنام.
ثم خفت صوت الخلافة بالمشرق والتاث أمرها لما كان من بني أمية من الفتنة، وما كان من أمر الشيعة والخوارج مع مروان. وأقضى الأمر إلى الإدالة ببني العباس من بني أمية وأجاز البحر عبد الرحمن بن حبيب من الأندلس إلى إفريقية فملكها وغلب
[1] الصحيح سنة اربع وعشرين ومائة وهذا الخطأ راجع في الأغلب الى الناسخ.
حنظلة عليها سنة ست وعشرين ومائة فعادت هيف إلى أديانها، واستشرى داء البربر وأعضل أمر الخارجية ورءوسها، فانتقضوا من أطراف البقاع، وتواثبوا على الأمر بكل ما كان داعين إلى بدعتهم. وتولى كبر ذلك يومئذ صنهاجة، وتغلب أميرهم ثابت بن وزيدون وقومه على باجة، وثار معه عبد الله بن سكرديد من أمرائهم فيمن تبعه.
وثار بطرابلس عبد الجبار والحرث من هوارة، وكانا يدينان برأي الإباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عيسى القيسي لما خرج إليهم يدعوهم إلى الصلح، وبقي الأمر على ذلك مدة، وثار إسماعيل بن زياد في قتل البربر. وأثخن فيهم وزحف إلى تلمسان سنة خمس وثلاثين ومائة فظفر بها ودوخ المغرب وأذل من كان فيه من البربر. ثم كانت بعد ذلك فتنة وربجومة [1] وسائر قبائل نفزاوة سنة أربعين ومائة، وذلك لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر وقتله أخواه إلياس وعبد الوارث، فولي مكانه ابنه حبيب، وطالبهما بثأر أبيه فقتل إلياس ولحق عبد الوارث بوربجومة فأجاره أميرهم عاصم بن جميل، وتبعه على شأنه يزيد بن سكوم أمير ولهاصة واجتمعت لهم كلمة نفزاوة ودعوا لأبي جعفر المنصور، وزحفوا إلى القيروان ودخلوها عنوة، وفر حبيب بن قابس فأتبعه عاصم في نفزاوة وقبائلهم.
وولي على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد النغزي، ثم انهزم حبيب إلى أوراس، واتبعه عاصم، فاعترضه عبد الملك بن أبي الجعد وجموع نفزاوة الذين كانوا بالقيروان وقتلوه واستولت وربجومة على القيروان وسائر إفريقية، وقتلوا من كان بها من قريش وربطوا دوابهم بالمسجد الجامع، واشتد البلاء على أهل القيروان وأنكرت ذلك من فعل وربجومة ومن إليهم من نفزاوة برابرة طرابلس الإباضية من هوارة وزنانة فخرجوا واجتمعوا إلى أبي الخطاب عليها واجتمع إليه سائر البربر الذين كانوا هنالك من زناتة وهوارة وزحف بهم إلى القيروان فقتل عبد الملك بن أبي الجعد وسائر وربجومة ونفزاوة، واستولى على القيروان سنة إحدى وأربعين ومائة ثم ولي على القيروان عبد الرحمن بن رستم وهو من أبناء رستم أمير فارس بالقادسية، كان من موالي العرب ومن رءوس هذه البدعة. ورجع أبو الخطاب إلى طرابلس واضطرم المغرب نارا،
[1] وفي النسخة التونسية: ورفجومة وقد مرت معنا من قبل.
وانتزى خوارج البربر على الجهات فملكوها، واجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب منه أربعين ومائة، وقدموا عليهم عيسى بن يزيد الأسود، وأسسوا مدينة سجلماسة ونزلوها، وقدم محمد بن الأشعث واليا على إفريقية من أبي جعفر المنصور فزحف إليه أبو الخطاب ولقيه بسرت، فهزموا ابن الأشعث وقتل البربر ببلاد ريفا [1] وفر عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تاهرت بالمغرب الأوسط، واجتمعت إليه طوائف البربر الإباضية من لماية ولواتة ورجالة ونفزاوة فنزل بها، واختط مدينتها سنة أربع وأربعين ومائة وضبط ابن الأشعث إفريقية وخافه البربر.
ثم انتقل بنو يفرن من زناتة ومغيلة من البربر بنواحي تلمسان، وقدموا على أنفسهم أبا قرة من بني يفرن، ويقال إنه من مغيلة وهو الأصح في شأنه، وبويع له بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة. وزحف إليه الأغلب بن سود التميمي عامل طبنة، فلما قرب منه هرب أبو قرة، فنزل الأغلب الزاب. ثم اعتزم على تلمسان ثم طنجة، ورجع إليه الجند فرجع. ثم انتقض البربر من بعد ذلك أيام عمرو بن حفص من ولد قبيصة ابن أبي صفرة أخي المهلب. وكان تغلب هوارة منذ سنة إحدى وخمسين ومائة [2] واجتمعوا بطرابلس، وقدموا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب بن مرين [3] بن تطوفت من أمراء مغيلة، ويسمى أبا قادم. وزحفت إليهم جنود عمر بن حفص فهزموها وملكوا طرابلس، وزحفوا إلى القيروان فحاصروها. ثم زحف البرابرة من الجانب الآخر بجنود عمر بطبنة في اثني عشر معسكرا. وكان منهم أبو قرة في أربعين ألفا من الصفرية وعبد الرحمن بن رستم في ستة آلاف من الإباضية، والمسور بن هانئ في عشرة آلاف كذلك، وجرير بن مسعود فيمن تبعه من مديونة، وعبد الملك ابن سكرديد الصنهاجي في ألفين منهم من الصفرية. واشتد الحصار على عمر بن حفص فأعمل الحيلة في الخلاف بين جماعتهم. وكان بنو يفرن من زناتة أكثر البرابرة يومئذ جمعا، وأشدّهم قوة، فصالح أبو قرة زعيمهم على أربعين ألفا وأعطى ابنه في إتمام ذلك أربعة آلاف، وافترقوا وارتحلوا عن طبنة. ثم بعث بعثا إلى ابن رستم فهزمه، ودخل تاهرت مفلولا، وزحف عمر بن حفص إلى أبي حاتم والبربر
[1] وفي نسخة أخرى: وقتل البربر قتلا ذريعا.
[2]
وفي نسخة أخرى: وكان يلقب هزارمرد سنة احدى وخمسين.
[3]
وفي نسخة أخرى: مدين.
الإباضية الذين معه. ونهضوا إليه فخالفهم إلى القيروان، وشحنها بالأقوات والرجال.
ثم لقي أبا حاتم والبربر وهزموه، ورجع إلى القيروان وحاصروه. وكانوا في ثلاثمائة وخمسين ألفا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا، وكانوا كلهم إباضية. وطال الحصار وقتل عمر بن حفص في بعض أيامه سنة أربع وخمسين ومائة. وصالح أهل القيروان أبا حاتم على ما أحب وارتحل. وقدم يزيد بن قبيصة بن المهلب سنة أربع وخمسين ومائة واليا على إفريقية، فزحف إليه أبو حاتم بعد أن خالف عليه عمر بن عثمان الفهري، وافترق أمرهم فلقيه يزيد بن حاتم بطرابلس فقتل أبو حاتم، وانهزم البربر ولحق عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن من أصحاب أبي حاتم بكتامة وبعث المخارق بن غفار الطائي فحاصره ثمانية أشهر. ثم غلب عليه فقتله ومن كان معه من البربر، وهربوا إلى كل ناحية. وكانت حروبهم مع الجند من لدن قتل عمر بن حفص بطبنة إلى انقضاء ثلاثمائة وخمسة وسبعين حربا.
وقدم يزيد إفريقية فزال فسادها ورتب القيروان، ولم تزل البلاد هادئة، وانتقض ورفجومة سنة سبع وخمسين ومائة وولوا عليهم رجلا منهم اسمه أبو زرجونة، فسرح إليهم يزيد من عشيرة ابن محراة المهلبي فهزموه. واستأذنه ابنه المهلب وكان على الزاب وطبنة وكتامة في الزحف إلى ورفجومة فأذن له، وأمده بالعلاء بن سعيد ابن مروان المهلبي من عشيرتهم أيضا، فأوقع بهم وقتلهم أبرح قتل. وانتقض نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة ابنه داود من بعد مهلكه سنة إحدى وستين ومائة، وولوا عليهم صالح بن نصير النفزي ودعوا إلى رأيهم رأي الإباضية، فسرح إليهم ابن عمه سليمان بن الصمّة في عشرة آلاف فهزمهم وقتل البربر أبرح قتل. ثم تحيز إلى صالح بن نصير، ولم يشهد الاولى من البربر الإباضية واجتمعوا بشقبنارية فهزمهم إليها سليمان ثانية وانصرف إلى القيروان.
وركدت ريح الخوارج من البربر من إفريقية، وتداعت بدعتهم إلى الاضمحلال، ورغب عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت سنة إحدى وسبعين ومائة في موادعة صاحب القيروان روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، فوادعه وانحصدت شوكة البربر واستكانوا للغلب وأطاعوا للدين، فضرب الإسلام بجرانه، وألقت الدولة الضريبة على البربر بكلكلها، وتقلد إبراهيم بن الأغلب التميمي أمر إفريقية والمغرب من قبل