الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الخبر عن بني سليم بن منصور من هذه الطبقة الرابعة وتعديد بطونهم وذكر أنسابهم وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم
ونبدأ أولا بذكر بني كعب وأخبارهم. وأمّا بني سليم [1] هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر وأكثرهم جموعا، وكانت منازلهم بنجد. وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وفيهم شعوب كثيرة ورياستهم في الجاهلية لبني الشريد ابن رياح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهنة بن سليم، وعمرو بن الشريد عظيم مضر، وأبناؤه: صخر ومعاوية، فصخر أبو الخنساء وزوجها العباس ابن مرداس صحابي حضرت معه القادسية. (ومن بطون سليم) عطية [2] ورعل وذكوان اللذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتكوا بأصحابه فخمد ذكرهم. وكان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي وفتنة، حتى لقد أوصى بعض خلفائهم ابنه أن لا يتزوّج فيهم. وكانوا يغيرون على المدينة وتخرج الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم وهم منتبذون بالقفر، ولما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهر وبنيه أمراء البحرين من القرامطة مع بني عقيل بن كعب.
ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم. ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه، وطردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر. وأجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى إفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولا، فأجازوا مع الهلاليين وأقاموا ببرقة وجهات طرابلس زمانا ثم صاروا إلى إفريقية كما يذكر في الخبر عنهم.
وبإفريقية وما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون. زغب وذياب وهبيب
[1] كان بنو عقيل وبنو تغلب وبنو سليم يسكنون بالبحرين وكان أظهرهم في الكثرة والعز بنو تغلب، ثم اجتمع بنو تغلب وبنو عقيل على سليم حتى أخرجوهم من البحرين ودخلوا الى مصر فأقام بها بعض وسار البعض الآخر الى افريقيا من بلاد المغرب. (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) .
[2]
وفي نسخة ثانية عصيّة.
وعوف [1] فاما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته: زغب بن نصر بن خفاف بن امرئ القيس بن بهنة بن سليم. وقال أبو محمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحامة: أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف. وزعم أنه أبو ذياب، وزغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بإفريقية. وقال أبو الحسن بن سعيد: هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم، كانوا بين الحرمين وهم الآن بإفريقية مع إخوانهم، ونسب ذياب بن مالك بن بهنة فاللَّه أعلم بالصحيح من ذلك.
ونسب ابن سعيد والتجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض ولعله واحد، وسقط لابن سعيد جدّ وأما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من أول أرض برقة مما يلي إفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية، أقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى إفريقية. وأوّل ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية وجهاتها، وهم عديد يرهبهم الحاج ويرجعون إلى شماخ لها عدد ولهم العز في هيت لكونها صارت خصب برقة الّذي منه المرج. وفي شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد، وهم بطون عديدة. وبين شماخ ولبيد فتن وحروب. وفي شرقيهم إلى العقبة الصغيرة. شمال محارب والرئاسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز وهم المعروفون بالعزة، وجميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خرّبوا مدنه، ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم، وفي خدمتهم بربر ويهود يحترفون بالفلاحة والتجر، ومعهم من رواحة وفزارة أمم، واشتهر لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب. ولا أدري نسبه فيمن هو وهم يقولون من العزة وقوم يقولون من بني أحمد، وقوم يجعلونه من فزارة هنالك قليل عددهم والغلب لهيب، فكيف تكون الرئاسة لغيرهم؟
وأما عوف فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة، ولهم
[1] وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب: زغب: بطن من بهته من سليم وكانت ديارهم بين الحرمين ثم انتقلوا الى المغرب، فسكنوا بإفريقية، جوار قومهم من بني ذباب. وذباب بطن من بهثة من سليم أرضهم بين طرابلس وقابس من بلاد المغرب واما هيب من بهتة من سليم ومساكنهم من السدرة من برقه الى العقبة الكبيرة. ثم الصغيرة من حدود الاسكندرية. وبنو عوف من بهتة من سليم. قال الحمداني:
ومنهم في الصعيد والغيوم والبحيرة أناس كثيرة وفي برقه الى المغرب منهم ما لا يحصى، قال في العبر وديارهم في المغرب فيما بين قابس وبلد العناب من إفريقية وينقسمون الى مرداس وعلاف. واما بالنسبة لزغب فهو زغب بن مالك بن عوف بن امرئ القيس.
حرمان عظيمان بمرداس ولعلاق [1] بطنان بنو يحيى وحصن، وفي أشعار هؤلاء المتأخّرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب وغيره، أن يحيى وعلاقا أخوان ولبني يحيى ثلاثة بطون: حمير ودلاج، ولحمير بطنان: ترجم وكردم، ومن ترجم الكعوب [2] بنو كعب بن أحمد بن ترجم، ولحصن بطنان بنو علي وحكيم. ونحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطنا بطنا. وكانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه. وهنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربيّ وأبوه حين غرقت سفينتهم ونجوا إلى الساحل، فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحلته.
ولما كانت فتنة ابن غانية وقراقش الغزّي بجهات طرابلس وقابس وضواحيها كما نذكر في أخبارهم. كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجمع إليهم من ذؤبان العرب أو شاب القبائل فاعصوصبوا عليهم، وكان لهم معهم حروب، وقتل قراقش ثمانين من الكعوب وهربوا إلى برقة، واستصرخوا برياح من بطون سليم، ودبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلّت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش وابن غانية من بعده. وكان رسوخ الدولة الحفصية بإفريقية. ولما هلك قراقش واتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص، ورجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب إفريقية. وكان ابن غانية الزواودة من رياح، وشيخهم مسعود البلط، فر من المغرب ولحق به، فكان معه هو وبنوه، وبنو عرف هؤلاء من سليم مع الشيخ أبي محمد. فلما استبدّ ابنه الأمير أبو زكريا بملك إفريقية رجعوا جميعا إليه والشفوف للزواودة. فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه إلى إخراج رياح من إفريقية لما كانوا عليه من العيث بها والفساد، فجاء بمرداس وعلاق وهما بنو عوف بن سليم هؤلاء من بطونهم بنواحي السواحل وقابس واصطنعهم.
[1] ذكرنا سابقا ان مرداس وعلاف من بني عوف. وعلاف بطن من سليم في الأصل ومساكنهم إفريقية من بلاد المغرب منهم أولاد أبي الليل أمراء العرب بإفريقية، قال في مسالك الابصار ولهم أعداء يعرفون بأولاد أبي طالب (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) .
[2]
الكعوب: بطن من عوف بن بهتة من سليم ذكرهم في العبر ولم يرفع نسبهم وقال: مساكنهم ما بين قابس وبلد العناب من إفريقية مع قومهم بني عوف، قال: ورئيسهم عند دخولهم إفريقية رافع بن حماد ومن أعقابه بنو كعب أمراء العرب الآن بإفريقية (المرجع السابق) .
ورياسة مرداس يومئذ في أولاد جامع، وبعده لابنه يوسف، وبعده هنان [1] بن جابر بن جامع، ورياسة علاق في الكعوب لأولاد شيخه ابن يعقوب بن كعب.
وكانت رياسة علاق عند دخولهم إفريقية لعهد هذا المعز وبنيه لرافع بن حماد، وعنده راية جدّه التي حضر بها مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو جدّ بني كعب فيما يزعمون. فاستظهر بهم السلطان على شأنه، وأنزلهم بساح القيروان، وأجزل لهم الصلات والعوائد وزاحموا الزواودة من رياح بمنكب بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد إفريقية. وكانت أبّة أقطاعا لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص، فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل ونزلوا به، فرأوا نعمة الزواودة في تلولهم تلك، فشرهوا إليها وأجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم، وقتلوا رزق بن سلطان. واتصلت الفتنة. فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعا على فتنة الزواودة وتأهبوا لها.
وتكررت بينهم وبين رياح الحروب والوقائع حتى أزاحوهم عن إفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسنطينة وبجاية إلى الزاب وما إليه. ثم وضعوا أوزار الحرب وأوطن كل حيث قسمت له قومه. وملك بنو عوف سائر ضواحي إفريقية وتغلبوا عليه، واصطنعهم السلطان وأثبتهم في ديوان العطاء. ولم يقطع شيئا من البلاد. واختص بالولاية منهم أولاد جامع وقومه فكانوا له خالصة، وتم تدبيره في غلب الزواودة ورياح في ضواحي إفريقية وإزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب وبجاية وقسنطينة، وطال بالدولة واختلف حالهم في الاستقامة معها والنفرة، وضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة وسخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة، فذهب مغاضبا عنها. وأقام بناجعته من مرداس ومن إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها، وخاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب إفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله وهي طويلة:
قدّوا المهامة بالمهرية القود
…
واطووا فلاة بتصويب وتصعيد
ومنها قوله:
[1] وفي نسخة أخرى: عنان وهو الصحيح. وهذا ربما تحريف من الناسخ
سلوا دمنة بين الغضا والسواجر
…
هل استن فيها واكفات المواطر
فأجاب عن هذه عنان بقوله:
خليلي عوجا بين سلع وحاجر
…
بهوج عنا جيج نواج ضوامر
يقيم عروة في النزوع عنهم ويستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية. ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضا له على إفريقية وآل أبي حفص، وهلك في سبيله وقبر بسلّا. ولم يزل حال مرداس بين النفرة والأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا واستفحل ملك ابنه المستنصر من بعده، وعلا الكعوب بذمة قوية من السلطان. وكان شيخهم لعهده عبد الله بن شيخة، فسعى عند السلطان في مرداس، وكان أبو جامع مبلغا سعايته واعصوصبت عليه سائر علاق، فحاربوا المرداسيين هؤلاء وغلبوهم على الأوطان والحظ من السلطان، وأخرجوهم عن إفريقية وصاروا إلى القفر، وهم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل ويمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح. ويختصون بالتغلب على ضواحي قسنطينة أيام مرابع الكعوب وصائفهم بالتلول. فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفر أجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد، ويخالطونهم على حلف، ولهم على توزر ونفطة وبلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي مواطنهم ومجالاتهم وتصرفهم، ولأنها في الكثير من أعراضهم.
وصاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها، فاصطفوا منه كثيرا وأصبح منه عمران قسنطينة لهم مرتابا [1] واستقام أمر بني كعب من علاق في رياسة عوف وسائر بطونهم من مرداس وحصين ورياح ودلاج، ومن بطون رياح حبيب وعلا شأنهم عند الدولة. واعتزوا على سائر بني سليم بن منصور، واستقرّت رياستهم في ولد يعقوب ابن كعب، وهم بنو شيخة وبنو طاهر [2] وبنو علي. وكان التقدم لبني شيخة بن يعقوب، لعبد الله أولا ثم لإبراهيم أخيه، ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي. وكان بنو علي يرادفونهم في الرئاسة، وكان منهم بنو كثير بن يزيد بن علي. وكان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه، وكانت له صحابة مع أبي سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاها وثروة، وأقطع له السلطان
[1] وفي النسخة التونسية: وأصبح عمران قسطيلية لهم مرتافا.
[2]
وفي نسخة ثانية: بنو شيحة وبنو طاعن. وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب رباح وليس رباح.
أربعا من القرى أصارها لولده. كان منها بناحية صفاقس وبإفريقية وبناحية الجريد.
وكان له من الولد سبعة، أربعة لأم وهم أحمد وماضي وعلي ومحمد، وثلاثة لأم وهم: بريد وبركات وعبد الغني. فنازع أحمد أولاد شيخة في رياستهم على الكعوب، واتصل بالسلطان أبي إسحاق وأحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره، وكان من شأنه ما قدّمنا.
وهلك أحمد واستقرت الرئاسة في ولده، وكان له من الولد جماعة، فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة: قاسم ومرا أبو الليل وأبو الفضل، ومن الحكمية قائد وعبيد ومنديل وعبد الكريم، ومن السرية كليب وعساكر وجهد الملك [1] وعبد العزيز، ولما هلك أحمد قام بأمرهم بعده ابنه أبو الفضل. ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد، وغلب رياسة بني أحمد هؤلاء على قومهم، وتألفوا ولد إخوتهم جميعا.
وعرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد. ولما كان شأن الدعي بن أبي عمارة، ويئس الفضل بن يحيى المخلوع وأوقع بالسلطان أبي إسحاق وقتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه. لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون إفريقية.
وكان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثر وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به وشيد من رياسته على قومه عند ما أدال الله به من الدعي، فاصطنع أبو الليل هذا بأمرهم.
وزاحم أولاد شيخة بمنكب قوي ولحق آخرهم عبد الرحمن بن شيخة بجباية عند ما اقتطعها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق على ملك عمه السلطان أبي حفص، فوفد عليه مستجيشا به ومرغبا له في ملك تونس، يرجو بذلك كثرة رياسته فهلك دون مرامه، وقبر بجباية وانقرضت رياسة أولاد شيخة بمهلكه واستبد أبو الليل بالرياسة في الكعوب، ووقع بينه وبين السلطان أبي حفص وحشة، فقدّم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيخة، فقدم على الكعوب مكانه محمد ابن عبد الرحمن بن شيخة، وزاحمه به أياما حتى استقام على الطاعة.
ولما هلك قام بأمرهم ابنه أحمد، واتصل أمر رياسته ونكبه السلطان أبو عصيدة فهلك في سجنه، وولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل وزاحمه هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره. ولما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه
[1] وفي نسخة ثانية عبد الملك.
محمد بن أبي الليل، وكفل مولاهم وحمزة ابن أخيه عمر. وكان عمر مضعفا عاجزا فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم وهم: محمد ومسكيانه ومرغم وطالب وعون في آخرين لم يحضرني أسماؤهم، فترشحوا للاستبداد على قومهم ومجاذبة محمد ابن عمهم أبي الليل حبل الرئاسة فيهم. ولم يزالوا على ذلك سائر أيامهم.
ولما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب وعظم ضغائنه وعتوه وإفساد الأعراب من أحيائه السابلة، وساء أثره في ذلك، وأسف السلطان بالاعتزاز عليه والاشتراط في ماله. وتوغلت له صدور الغوغاء والعامة، فوفد على تونس عام خمسة وسبعمائة ودخل المسجد يوم الجمعة لابسا خفيه، ونكر الناس عليه وطأه بين الله بخف لم ينزعه. وربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه، فقال: إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع؟ فاستعظم الناس كلمته وثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد وأرضوا الدولة بفعلهم. وكان أمره مذكورا.
وقتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان وابن عمه شبل بن منديل بن أحمد. وقام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل وهراج بن عبيد مولاهم وحمزة أبناء عمر، واستبد برياسة البدو من سليم بإفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم وأمثالهم وفحول سواهم. وانتقض أحمد بن أبي الليل وابن أخيه مولاهم بن عمر على السلطان سنة سبع وسبعمائة، واستدعى عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن ذباب، فجاءه وأجلب له على تونس. ونزل كدية الصعتر بظاهرها. وبرز إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن [1] فهزمهم، واستخدم أحمد بن أبي الليل.
ثم تقبض عليه واعتقل بتونس إلى أن هلك. ووفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان وسبعمائة فاعتقل معه، ولحق أخوه حمزة بالأمير أبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من إفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة، ومعه أبو علي بن كثير ويعقوب بن الفرس وشيوخ بني سليم هؤلاء. ورغبوا الأمير أبا البقاء في ملك الحضرة. وجاءوا في صحبته، وأطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر وسبعمائة كما نذكره في خبره.
ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكريا ابن اللحياني واتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم. ونزع إلى السلطان أبي يحيى
[1] وفي النسخة التونسية: يرزيكن.
الطويل أمر الخلافة. ولي سبعا ببجاية وثلاثين بعد استيلائه على الحضرة وسائر بلاد إفريقية، فاستخلصه السلطان لدولته ونابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحدا بعد واحد كما نذكره، وداهن أخوه مولاهم في مناصحة السلطان ومالأ حمزة على شأنه، وربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان وعلى ابنه منصور وعلي ربيبه زغدان ومغران بن محمد بن أبي الليل. وكان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد، وأحمد بن عبد الواحد أبو عبيد، وأبو هلال بن محمود بن فائد، وناجي بن أبي علي بن كثير ومحمد بن مسكين وأبو زيد بن عمر بن يعقوب، ومن هوارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وبعث أشلاؤهم إلى حمزة فاشتدّ حنقه، ولحق صريخا بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن، ومعه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك. وأمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة، وزحفوا إلى إفريقية فخرج إليهم السلطان وهزمهم برغيش. ولم يزل حمزة من بعدها مجلبا على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي، وأبو تاشفين صاحب تلمسان يمدّهم بعساكره. وتكررت بينهم الوقائع والأيام سجالا كما نذكره في مواضعه، حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن وقومه من بني مرين على تلمسان والغرب الأوسط سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، واستتبعوا بني عبد الواد وسائر زناتة أقصي حمزة عن فتنته وانقطع حبلها في يده، ولحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعا به، فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته وعفا له عن جرائمه وأحله محل الأصفاء والخلوص. فشمر عن نصحه واجتهاده وظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ إفريقية، وظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة وتؤثر مهادها. وهلك حمزة سنة أربعين وسبعمائة بيد أبي عون نصر ابن أبي علي عبد السلام من ولد كثير بن زيد المتقدم الذكر في بني علي من بطون بني كعب، طعنه في بعض الحروب فأشواه، وكان فيها مهلكه. وقام بأمرهم من بعده ابنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة. ولكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة والقرابة، واستبد برياسة بني كعب وسائر بني يحيى، وأقتاله بنو مهلهل ينافسونه ويرتقبون الإدالة منه. وكان مساهمه في أمره معن بن مطاعن من فزارة وزير أبيه. وخرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم واتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس، وجمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم. ثم اختلفوا ورحلوا عن البلد
وانخذل طالب بن مهلهل وقومه إلى السلطان. ونهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان، ووفدت مشيختهم على ابنه الأمير أبي العباس بقصره يداخلونه في الخروج على ابنه. وكان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه وقتله وأفلت الباقون.
وراجعوا الطاعة وأعطوا الرهن.
(ولما هلك) السلطان أبو يحيى وقام بالأمر ابنه عمر، انحرفوا عنه وظاهروا أخاه أبا العباس صاحب الجريد وولي العهد، وزحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها، وقتله أخوه عمر كما نذكره في موضعه، وقتل معه أخاهم أبا الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك.
ووفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة وكافة المشيخة من إفريقية، وجاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة وأخذ الإتاوة، وانتزع الأمصار التي كانت مقتطعة بأيديهم وألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل وزغبة، فثقلت وطأته عليهم وتنكروا له وساء ظنه بهم، وفشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم، ووفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم، فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته، كما نذكره في موضعه، فتقبض عليهم وبلغ خبرهم إلى الحي فناشبوا بقسطيلة والجريد فظفروا بزنابي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العباس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش واستيلاؤه على المغرب، وهو أحمد بن عثمان بن إدريس، فنصبوه وبايعوه واجتمعوا عليه.
وناشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم وكان طالب هلك، وقام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه واتفقوا جميعا على حرب زناتة. ونهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع وأربعين وسبعمائة فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان. ثم ناجزوه ففضوا جموعه وملئوا حقائبهم بأسلابه وأسلابهم، وخضدوا من شوكة السلطان، وألانوا من حدّ الملك، وخفضوا من أمر زناتة، وغلبهم الأمم وكان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام. وهلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته، واستبد بالرياسة عليه أخوه خالد، ثم من بعده أخوهما منصور،
واعتز على السلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهده اعتزازا لا كفاء له.
وانبسطت أيدي العرب على الضاحية وأقطعتهم الدولة حتى الأمصار وألقاب الجباية ومختص الملك، وانتفضت الأرض من أطرافها ووسطها، وما زالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية، وقاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفا وصحراء وتلولا وجريدا. ويحرضون بين أعياص الدولة ويجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة. ويرميهم السلطان باقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها. ويحرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله إنقاذ الأمّة من هوة الخسف وتخليصهم من مكاره الجوع والخوف، وإدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة، بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العباس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة. فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربيّ، ونزل إليه أمير البدو ومنصور بن حمزة هذا، وذلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحاق مقتعد كرسي الحضرة وصاحب عصا الخلافة والجماعة.
وقام ابنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى إفريقية ودخل تونس عنوة، واستولى على الحضرة سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بعدها، وأرهف حدّه للعرب في الاعتزاز عليهم وقبض أيديهم عن المفاسد وذويهم، فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة، ونصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدّهم الأكبر، كان في أحياء العرب منذ سنين كما نذكر ذلك كله في اخبار الدولة، وأجلب به على تونس سنة ثلاث وسبعين، فامتنعت عليهم ولم يظفروا بشيء وراجع منصور حاله عند السلطان، وكشف عن وجه المناصحة. وكان عشيرته قد ملوا منه حسدا ومنافسة بسوء ملكته عليهم، فغدا عليه محمد ابن أخيه أبي الليل وطعنه فأشواه، وهلك ليومه سنة خمس وسبعين، وافترق جمعهم.
وقام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة، ويرادفه أولاد مولاهم بن عمر، فجهد بعض الشيء في خدمة السلطان ومناصحته. ثم رجع إلى العصيان وكشف القناع في الخلاف، واتصل حاله على ذلك ثلاثا، وأدال السلطان منه ومن قومه باقتالهم أولاد مهلهل، ورياستهم لمحمد بن طالب، فرجع إليهم رياسة البدو، وجعل لهم المنع والإعطاء فيهم ورفع رتبهم على العرب، وتحيز إليه معهم أولاد
مولاهم بن عمر بن أبي الليل، ونقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلاف، ونهض السلطان سنة ثمانين وسبعمائة إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة، وحملهم على جادّة الطاعة، فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء ومشارطتهم لهم على ذلك، وبعد أن جمعوا له الجموع من دومان [1] العرب الأعراب وذياب البدو، فغلبهم عليها جميعا، وأزاحهم عن ضواحيها، وظفر بفرائسة من أولئك الرؤساء، وأصبحوا بين معتقل ومشرد. واستولى على قصورهم وذخائرهم، وأبعد أولاد حمزة وأحلافهم من حكيم المفر، وجاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب، واعتزت عليهم الدولة اعتزازا لا كفاء له، فنامت الرعايا في ظل الأمن وانطلقت منهم أيدي الاعتمار والمعاش وصلحت السابلة بعد الفساد، وانفتحت أبواب الرحمة على العباد.
وقد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان والدولة لا ينتهي إليه اعتزاز، ولهم عنجهية وإباية وخلق في التكبر الّذي هو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهدا للذل، ولا يسامون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول. أما في دولة بني أمية فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض، يشهد بذلك أخبار الردة والخلفاء معهم مع أمثالهم، مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز والغلظة، فليس في إعطائها كثير غمط ولا مذلة. وأما أيام بني العباس حين استفحال الملك وحدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد وتهامة وما وراءهما. وأما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم وبين بني العباس. وأما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة وإفريقية فكانوا ضاحين من ظل الملك. ولما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان [2] من الذل وسوم الخسف حتى كانت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن وقومه من زناتة بالقيروان، فنهجوا سبيل الاعتزاز لغيرهم من العرب على الدول بالمغرب، فتحامل المعقل وزغبة على ملوك زناتة، واستطالوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة الغلب عن التطاول إلى مثلها. والله مالك الأمور.
[1] وفي نسخة ثانية ذؤبان العرب.
[2]
وفي نسخة التونسية: بمنجاة.