الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الخبر عن بني مزني أمراء بسكرة وما إليها من الزاب)
هذا البلد بسكرة هو قاعدة وطن الزاب لهذا العهد، وحدّه من لدن قصر الدوسن بالمغرب إلى قصور هولة [1] وبادس في المشرق، يفصل بينه وبين البسيط الّذي يسمّونه الحضنة جبل جاتم من المغرب إلى المشرق، ذو ثنايا تفضي إليه من تلك الحضنة، وهو جبل درن المتّصل من أقصى المغرب إلى قبلة برقة. ويعتمر بعض ذلك الجبل في محاذاة الزاب من غربيه بقايا عمرت من زناتة، ويتصل من شرقيه بجبل أوراس المطل على بسكرة المعترض في ذلك البسيط من القبلة إلى الجوف [2] .
وهو جبل مشهور الذكر يأتي الخبر عن بعض ساكنيه. وهذا الزاب وطن كبير يشتمل على قرى متعدّدة متجاورة جمعا جمعا، يعرف كلّ واحد منها بالزاب. وأوّلها زاب الدوسن، ثم زاب طولقة ثم زاب مليلة وزاب بسكرة وزاب تهودا وزاب بادس.
وبسكرة أمّ هذه القرى كلها، وكانت مشيختها في القديم بعد الأغالبة والشيعة لعهد صنهاجة ملوك القلعة من بني رمّان من أهلها بما كثروا بساكنها. وملكوا عامّة ضياعها. كان لجعفر بن أبي رمّان منهم له صيت وشهرة.
وربّما نقضوا الطاعة لعهد بلكّين بن محمد بن حمّاد صاحب القلعة في سني خمسين وأربعمائة، وضبطوا البلد وامتنعوا. وتولى كبر ذلك جعفر بن أبي رمانة، ونازلتهم جيوش صنهاجة إلى نظر الوزير خلف بن أبي حديدة [3] من صنائع الدولة فاقتحمها عليهم، واحتملهم إلى القلعة فقتلهم بلكّين جميعا، وجعلهم عظة لمن بعدهم.
وأصار الشوري لبني سندي من أهلها. وكان لعروس منهم بعد ذلك خلوص في الطاعة وانحياش إلى الدولة على حين تقلّص ظلّها وفشل ريحها، وألوى الهرم بشبابها.
وهو الّذي فتك بالمنتصر بن خزرون الزناتي بعد وصوله من المشرق واجتلابه على السلطان بقومه من مغراوة أغرى بالأثبج [4] وبني عديّ وبني هلال، فمكر به
[1] وفي نسخة ثانية: تنوّمه.
[2]
وفي طبعة بولاق: الى الشمال.
[3]
وفي طبعة ثانية: خلف بن أبي حيدرة.
[4]
وفي طبعة ثانية: وأعراب الأثبج
…
السلطان وأقطعه ضواحي الزاب وريغه طعمة. ودسّ إلى عروس في الفتك به ففعل كما قدّمنا ذكره في أخبار آل حمّاد. وانقرضت رياسة بني سندي بانقراض أمراء صنهاجة من إفريقية. وجاءت دولة الموحّدين، والذكرة والبيت لبني زيّان [1] .
وكان بنو مزني لفقا [2] من لفائق الأعراب، وصلوا إلى إفريقية أحلافا لطوالع بني هلال بن عامر في المائة الخامسة كما قدّمنا.
ونسبهم بزعمهم في مازن من فزارة والصحيح أنهم في لطيف من الأثبج. ثم من بني جرى بن علوان بن محمد بن لقمان بن خليفة بن لطيف، واسم أبيهم مزنة بن ديفل بن محيّا بن جرى، هكذا تلقيته من بعض الهلاليّين، وشهد لذلك الموطئ، فإن أهل الزاب كلّهم من أفاريق الأثبج عجزوا عن الظعن ونزلوا قراه على من كان بها قبلهم من زناتة وطوالع الفتح، وإنما ينزعون عن هذا النسب إلى فزارة لما صار إليه أهل الأثبج بالزاب من المغرم والوضائع، فيستنكفون لذلك وينتسبون إلى غرائب الأنساب. وكان أوّل نزولهم بقرية من قرى بسكرة وكانت تعرف بقرية حيّاس. ثم كثروا وتسايلوا وأخذوا مع أهل بسكرة بحظ وافر من تملّك العقار والمياه.
ثم انتقلوا إلى البلد واستمتعوا منها بالمنزل والظلال، وقاسموا أهلها في الحلو والمرّ، وانتظم كبارهم في أرباب الشورى من المشيخة. ثم استنكف بنو زيان [3] من انتظامهم معهم وحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله، وحذّروهم من أنفسهم فاضطرمت بينهم نار العداوة والإحن، وكان أوّلها الكلام والترافع إلى سدّة السلطان بتونس على حين استقلال أبي حفص بإفريقية، ولعهد الأمير أبي زكريا وابنه السلطان مستنصر.
ثم تناجزوا الحرب وتواقعوا بسكك المدينة وكانت صاغية الدولة مع بني زيان لقدمهم في البلد. ولما خرج الأمير أبو إسحاق على أخيه محمد المستنصر لأوّل بيعته، ولحق بالزواودة من العرب وبايع له موسى بن محمد بن مسعود البلط أمير البدو يومئذ، واعتمر به بسكرة وبلاد الزاب، وأناخ عليها بكلكله كما قدّمناه. قام يومئذ فضل بن عليّ بن أحمد بن الحسن بن علي بن مزني بدعوته، وأعلن بين أهل البلد بطاعته
[1] وفي طبعة ثانية: والكثرة والبيت لبني رمّان.
[2]
يقال للرجلين هما لفقان أي لا يفترقان.
[3]
وفي نسخة ثانية: بنو رمّان.
واتبعوه على كره. ثم عاجلتهم عساكر السلطان وأجهضتهم [1] عن الزاب، فاعتلق فضل بن عليّ به، واستمسك بذيله وصحبه في طريقه إلى الأندلس، وبدا غربته منها إلى أن هلك المستنصر أخوه، هيّأ الله له من أمر الخلافة ما هيأ حسبما ذكرناه.
ولما تمّ أمره واقتعد بتونس كرسيّ خلافته عقد لفضل بن عليّ على الزاب ولأخيه عبد الواحد على بلاد الجريد رعيا لذمّة خدمتهما، وذكرا لإيلافهما في المنزل الخشن وصحبتهما، فقدم واليا على الزاب، ودخل بسكرة واستكان بنو زيان لصولته وانقادوا في مرضاة الدولة إلى أمره فلم ينبسوا [2] بكلمة في شأنه، واضطلع بتلك الولاية ما شاء الله.
ثم كان شأن الداعي بن أبي عمارة وتلبّسه، ومهلك السلطان أبو إسحاق على يده. ثم ثأر منه السلطان أبو حفص بأخيه واسترجع ما ضاع من ملكهم، وكان يثق بعنايته [3] ، ويعوّل في أمر الزاب على كفايته. وسيم أعداؤه بنو زيّان أيام ولايته فداخلوا أولاد حريز من لطيف إحدى بطون الأثابج، كانوا نزلوا بقرية باشاش [4] لضيق المدينة حين عجزوا عن الظعن، وخالطوا أهل البلد في أحوالهم وامتزجوا معهم بالنسب والصهر فأغروهم بفضل بن عليّ أن يكون التقدّم لهم في الفتك به، وتناول الأمر من يده، وأن يخرّبوا بيوتهم من قرية باشاش بأيديهم ليسكنوا إليهم ويطمئنوا إلى ولايتهم حلفا عقدوه على المكر بهم. ولما أوقعوا به بظاهر البلد في بعض أيام ركوبه سنة ثلاث وثمانين وستمائة وتولّوا من أمر الزاب ما كان يتولّاه، تنكر لهم بنو زيّان لحولين من ذلك الحلف، ونابذوهم العهد فخرجوا عن البلد وفقدوا ما لهم بها من قريب [5] ، وتفرّقوا في بلاد ريغة، واستبدّ بنو زيان بشورى بسكرة والزاب منتقضين عليهم وعلى السلطان، والزواودة قد تغلّبوا عليه وعلى بلاد الحضنة من ورائه نقاوس ومقرة والميلة. وكان منصور بن فضل بن علي عند مهلك أبيه بالحضرة في بعض شئونه. فلمّا هلك أبوه واستبدّ بنو زيان بعده، بثّوا السعايات فيه إلى السلطان بالحضرة فأنجحت، وتقبّض عليه واعتقل أيام السلطان أبي حفص.
[1] أي أبعدتهم عن الزاب.
[2]
وفي نسخة ثانية: فلم ينشبوا ولا معنى لها هنا.
[3]
وفي نسخة ثانية: وكان يثق بغنائه.
[4]
وفي نسخة ثانية: ماشاش.
[5]
وفي نسخة ثانية: وفقدوا المأوى للتمرّس بها من قريب.
ولما تغلّب المولى أبو زكريا يحيى ابن الأمير أبي إسحاق على بجاية وقسنطينة وبونة، واستقلّ بأمرها وانقسمت دولة آل أبي حفص بملكه ذلك منها، تمسّك أهل الزاب بدعوة صاحب الحضرة المولى أبي حفص وفرّ منصور بن فضل بن عليّ من محبسه بتونس ولحق ببجاية بعد مهلك الحاجب القائم بالأمر أبي الحسين بن سيّد الناس، وتولية السلطان أبي زكريا مكانه كاتبه أبو القاسم بن أبي يحيى سنة إحدى وتسعين وستمائة، فلازم خدمته وخفّ عليه وصانعه بوجوه التخف وتضمّن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه، وشريف أمواله وجبايته إليه واستماله بذلك، فعقد له على الزاب وأمدّه بالعسكر فنازل بسكرة ووفد أهلها بنو زيان على السلطان ببجاية ببيعتهم فرجّعهم على الأعقاب إلى عاملهم منصور، وكتب إليه بقبول بيعتهم، ودخل البلد سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكادهم في بناء القصر لشيعته، وتحصّن العسكر بسورة.
ثم نابذهم العهد، وثار بهم فأجلاهم عن البلد، واستمكن فيها ورسخت قدم إمارته فيها، واستدرّ جباية السلطان، واتسع له نطاق العمالة، فاستضاف إلى عمل الزاب جبل أوراس وقرى ريغه وبلد واركلى وقرى الحصنة: مقرة ونقاوس والمسيلة. فعقد له السلطان على جميعها، ودفعه إلى مزاحمة العرب في جبايتها وانتهاش لحومها إذ كانوا قد غلبوا على سائر الضواحي فساهمهم في جبايتها حتى كاد يغليهم عليها. ووفّر أموال الدولة وأنهى الخراج وصانع رجال السلطان فألقوا عليه بالمحبّة، وجذبوا بضبعه إلى أقصى مراتب الاصطناع، فأثرى واحتجز الأموال ورسخت عروق رياسته ببسكرة، ورسخت منابت عزّه وهلك المولى أبو زكريا الأوسط على رأس المائة السابعة، وولّوا مكانه ابنه الأمير أبا البقاء خالدا كما قدّمناه، وقام بأمره صاحبه أبو عبد الرحمن بن عمر.
وكان لمنصور بن فضل هذا اختصاص به واعتلاق بيد حاجبه [1] فاستنام إليه وعوّل في سائر الضواحي من ممالك السلطان على نظره، وعقد له على بلاد التل من أرض سدويكش وعياض فاستضافها إلى عمله، وجرّد عن ساعد كفايته في جبايتها فلقّح عقيمها وتفجّرت ينابيعها. ثم حدثت بينه وبين الدولة منافرة وأجلب على قسنطينة بيحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق حاجبه من تلمسان [2] ، وبايع له
[1] وفي نسخة ثانية: جاهه.
[2]
وفي نسخة ثانية: جأجأ به تلمسان وهذا تحريف.
واستألف الزواودة لمشايعته، ونازل به قسنطينة ثم اطلع على مكامن صدره فيه وما طوى عليه من التربّص به فحلّ عقدته، ولحق بعسكره ببسكرة، وراجع الطاعة.
ولحق يحيى بن خالد واعتقله إلى أن هلك سنة عشرين وسبعمائة وكانت بينه وبين المرابطين أهل السنّة من العرب أتباع سعادة المشهور الذكر فتن وحروب، وطالبوه بترك المغارم والمكوس تخفيفا عن الرعيّة وعملا بالسنّة التي كانوا ملتزمين لطريقها، ونازلوه من أجل ذلك ببسكرة مرارا. ثم هلك سعادة في بعض حروبه على مليلي كما مرّ في ذكره سنة خمس وسبعمائة. وجمع منصور بن مزني للمرابطين، وبعث عسكره يقوده ابنه عليّ بن منصور مع علي بن أحمد شيخ الزواودة، وعلى المرابط أبو يحيى بن أحمد أخوه ومعه رجالات المرابطين مثل:
عيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد عساكر، وعطيّة بن سليمان بن سبّاع وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة فهزموا عسكر ابن مزني وقتلوا ابنه عليّا وتقبّضوا على عليّ بن أحمد، ثم منّوا عليه وأطلقوه.
ورجعوا إلى بسكرة فنازلوها وقطعوا نخيلها. ثم عاودوه ثانية وثالثة. ولم يزل بينه وبين هؤلاء المرابطين فتن سائر أيامه. وكان الحاجب ابن عمر قد استخلصه لنفسه وأحلّه محل الثقة بحلّته واستقامة إلى صنائعه [1] . ولما نهض السلطان أبو البقاء إلى تونس صحبه الحاجب في جملته حتى إذا أعمل المكيدة في الانصراف عن السلطان شاركه في تدبيرها إلى أن تمّت كما قدّمناه. ورجع الحاجب إلى قسنطينة وردّه إلى مكان عمله من الزاب. وكان يتردّد إليه ببجاية للزيارة والمطالعة في أعماله إلى أن غدر به العرب في بعض طرقه إليها. وتقبّض عليه من أمراء الزواودة علي بن أحمد بن عمر ابن محمد بن مسعود، وسليمان بن عليّ بن سبّاع بن يحيى بن مسعود على حين اجتذبا حبل الإمارة من يد عثمان بن سبّاع بن شبل بن موسى بن محمد، واقتسما رياسة الزواودة قومهما فاستمكنا من هذا العامل منصور بن فضل في مرجعه من عمله بلاد سدويكش، وأوثقوه اعتقالا، وهمّوا بقتله فافتدى منهم بخمسة قناطير من الذهب وارتاشوا [2] بمسكوبهم، وصرفوا في وجوه رياستهم ألفا منها، وقبض منصور بن فضل عنانه عن السفر بعدها إلا في الأحايين. وبعد أخذ الرهن من العرب إلى أن
[1] وفي نسخة أخرى: والاستقامة الى صفاته.
[2]
ارتاش ربما استعملها ابن خلدون بمعنى راش أي أكل كثيرا (قاموس) .
كانت حركة مولانا السلطان أبي يحيى إلى تونس سنة سبع عشرة وسبعمائة أوّل حركاته إليها، وطالب صاحبه يعقوب بن عمر وهو بثغر بجاية بالأموال للنفقات والأعطيات، فبعث إليه بمنصور بن فضل وأشار بعقده له على حجابته ليقوم بأمره، ويكفيه مهمات شئونه واعتدّها منصور على ابن عمر فساء ظنّه، وتنكّر له ابن عمر، وحالت صبغة ودّه وانكفأ السلطان من حركته تلك مخفق السعي بعد أن نزل ظاهر تونس بعساكره كما قدّمناه. ولمّا احتلّ بقسنطينة بدت له من يعقوب بن عمر صاحب الثغر مخايل الامتناع فأقصر عن اللحاق به، وتردّدت بينهما الرسل وبعث ابن عمر في منصور بن فضل. ونذر منه بالشرّ فأجاب داعيه، وصحب قائد السلطان يومئذ محمد ابن أبي الحسن بن سيّد الناس إليه، حتى إذا كان ببعض الطريق عدل إلى بلده، وهمّ به القائد فأجاره أولياؤه من العرب: عثمان بن الناصر شيخ أولاد حربي ويعقوب بن إدريس شيخ أولاد خنفر ومن معهم من ذويهم. ولحق ببسكرة وبلغ الخبر إلى ابن عمر فقرع سنّ الندم عليه، وشايع منصور بن مزني عدوّهم صاحب تلمسان أبا تاشفين ودخل في دعوته وأوفد ابنه يوسف عليه بالطاعة والهدية.
وملك السلطان خلال ذلك تونس وسائر بلاد إفريقية وهلك ابن عمر سنة تسع عشرة وسبعمائة ولم يزل منصور بن مزني ممتنعا سائر أيامه على الدولة، والعساكر من بجاية تتردّد لمنازلته إلى أن هلك سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقام بأمره من بعده ابنه عبد الواحد فعقد له السلطان على عمل أبيه بالزاب، واستضاف إليه ما وراءه من البلاد الصحراوية قرى: ريغة وواركلى. وكان السلطان قد عقد على الثغر بعد مهلك ابن عمر لمحمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس، وجعل له كفالة ابنه يحيى ودفعه إليه فتجدّدت الوحشة بين عبد الواحد هذا وبين صاحب الثغر في سبيل المنافسة في المرتبة عند السلطان بما كانوا جميعا صنائع وبطانة للحاجب ابن عمر. وبعث العساكر لحربه ومنازلة حصنه. وناول عبد الواحد هذا لآل زيّان الخائفين [1] الدولة طرفا من حبل طاعته فقبل فيها مذهب أبيه آخر عمره. وطال تمرّس الجيوش به إلى ان استجنّ منه عبد الواحد بصهر عقده له على ابنته، واشترط المهادنة وتسليم الجباية، وتودع أمره إلى أن اغتاله أخوه يوسف سنة تسع وعشرين وسبعمائة بمداخلة بطانتهم من بنى
[1] وفي نسخة ثانية: مخانقي.
سماط وبني أبي كواية. ولما أحكم مداخلتهم في شأنه آذنه عشاء للشورى معه في بعض المهمات، وطعنه بخنجره فأشواه وهلك لحينه. واستقلّ يوسف بن منصور بإمارة الزاب ووصله مرسوم السلطان بالتقليد والخلع على العادة، وأجرى الرسم في الدعاء له على منابر عمله.
وكان السلطان قد استدعى محمد بن سيّد الناس من الثغر ببجاية [1] ، وفوّض له أمور ملكه، فهاجت نار العداوة والإحن القديمة بما بينه وبين يوسف بن منصور عامل الزاب، وهمّ به لولا ما أخذ بحجزته من الشغل الشاغل للدّولة بتحيّف آل زيّان وهلك الحاجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة في نكبة السلطان إيّاه كما ذكرناه، وعقد لمحمد بن الحكيم على القيادة وجعل بيده زمام العساكر، وفوّض له في سائر القرى والضواحي، فأجرى رياسته وحكمه في دولته وتغلّب على أمره على حين فرغ السلطان من الشغل بمدافعة عدوّه، وحطّ ما كان من أمرهم على كاهل دولته. ونهض السلطان أبو الحسن إلى آل يغمراسن فقلّم أظفار اعتدائهم [2] وفلّ شبا عزائمهم كما شرحنا قبل، فأذكى القائد محمد بن الحكيم مع يوسف بن منصور نار العداوة، وأثار له من السلطان كأمن الحفيظة وصرف وجوه العزائم إلى حمله على الجادة وتقويمه عن المراوغة في الطاعة، وناهضه بالعساكر مرّات ثلاثا يدافعه في كلّها بتسليم الجباية إليه. ثم كانت بينه وبين علي بن أحمد كبير الزواودة فتن وحروب دعا إليها منافسة علي في استئثاره بمال الجباية دونه فواضعه الحرب، ودعا العرب إلى منازلته مموّها بالدعاء إلى السنّة، وحشد أهل ريغة لذلك ونازلة، وانحرف عنه ابنه يعقوب ودخل إلى بسكرة فأصهر له ابن مزني في أخته بنت منصور بن فضل، وعقد له عليها، فحسن دفاعه عنه، وبعث ابن مزني عن سليمان بن عليّ كبير أولاد سبّاع، وقريع علي بن أحمد في شئونه، فكان عنده ببسكرة يغاديه القتال ويراوحه إلى أن امتنع ابن مزني.
ورحل علي بن أحمد عن بسكرة وصار مع ابن مزني إلى الاتفاق والمهادنة أعوام الأربعين من المائة الثامنة. ثم كانت غزاة القائد بن الحكيم إليه نهض من إفريقية بعد أن نازل بلاد الجريد، واقتضى طاعتهم ومغارمهم، واسترهن ولد ابن يملول. ثم
[1] وفي نسخة ثانية: لحجابته.
[2]
وفي نسخة ثانية: أعدائهم.
ارتحل إلى الزاب في جنوده ومعه العرب من سليم فأجفل بالزاب ونزل بلد أوماش من قراه، وفرّت العرب من الزواودة وسائر رياح أمامه، ودافعه يوسف بن مزني بهديّة دفعها إليه وهو بمكانه من أوماش، وارتحل عنه إلى بلاد ريغة فافتتح تقرّت معقلهم واستباحها ودوّخ سائر أعمالها. ورجع إلى تونس ونكب السلطان قائده محمد ابن الحكيم هذا سنة أربع وأربعين وسبعمائة وولّى ابنه أبا حفص عمر. وخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته وسعاية بطانته فلحق بملك المغرب المرهوب الشبا [1] المطل على الممالك، يعسوب القبائل والعشائر الحسن، وأغراه بملك إفريقية واستجرّه إليها، فنهض في الأمم العريضة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كما ذكرنا ذلك كلّه من قبل. ووفد عليه يوسف بن منصور أمير الزاب بمعسكره من بني حسن فلقّاه برّا وترحيبا واستتبعه في جملته إلى قسنطينة. ثم عقد له على الزاب وما وراءه من قرى ريغة وواركلى، وصرفه إلى عمالته. واستقبل تونس، وأمره برفع الجباية إليه مع العمّال القادمين من أقصى المغرب على رأس الحول فاستعدّ لذلك، حتى إذا سمع بوصولهم من المغرب لحقهم بقسنطينة وفجأهم هنالك جميعا الخبر بنكبة السلطان على القيروان كما ذكرناه، ونذكره فاعتزم على اللحاق ببلده.
واعصوصب عليه يعقوب بن علي بن أحمد أمير البدو بالناحية الغربية من إفريقية لأذمّة صهر كانت بينهما ومخالصة، وتحيّز إليهم من كان بقسنطينة من أولياء السلطان وحاشيته وعماله، ورسل الطاغية والسودان الوافدين مع ابنه عبد الله من أصاغر بنيه، وآواهم يوسف بن منصور جميعا إليه، وأنزلهم ببلده وكفاهم مهمّاتهم شهورا من الدهر حتى خلص السلطان من القيروان إلى تونس، ولحقوا به مع يعقوب بن علي فكانت تلك يدا اتخذها يوسف بن منصور عند السلطان أبي الحسن وبنيه باقي الأيام. ثم اتبع ذلك بمخالفة رؤساء النواحي من إفريقية جميعا في الانتقاض عليه، وأقام مستمسكا بطاعته يسرّب الأموال إليه بتونس وبالجزائر عند خلوصه إليها من النكبة البحرية كما سنذكره، ويدعو له على منابره بعد تفويضه على الجزائر إلى المغرب الأقصى لاسترجاع ملكه، إلى أن هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة من أقصى المغرب سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة واستقام أمر الدولة المرينيّة لابنه السلطان أبي
[1] شبا الشيء: علا وأضاء، وشبا النار: أوقدها وقد تكون شباة وهي حد كل شيء.
عنّان الحيّة الذكر، ولما استضاف إلى ملكه ملك تلمسان، ومحا ما جدّده بنو عبد الواد بها من رسوم ملكهم وجمع كلمة زناتة، وأطلّ على البلاد الشرقية سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة بادر يوسف بن منصور بطاعته فآتاها طواعية، وأوفد على السلطان رسله بكتاب بيعته. ثم وفد عليه ثانيا مع حاجبه الكاتب أبي عبد الله محمد بن أبي عمر، وبعثه بالعساكر لتدويخ إفريقية وتمهيد ملكه ببجاية كما سنذكره. ووفد عليه أمراء القبائل والبدو ورؤساء النواحي سنة أربع وخمسين وسبعمائة ووفد في جملتهم يوسف بن منصور أمير الزاب ويعقوب بن علي أمير البدو وسائر رؤساء الزواودة فلقاهم السلطان تكرمة ورعيا لأذمة خلوصهم لأبيه وقومه من بين أهل إفريقية، وأسنى جوائزهم. وعقد ليوسف بن مزني على الزاب وما وراءه من بلاد ريغه وواركلى على عادتهم وانقلب محبوا محبورا وقد ثبت له من ولاية السلطان ومخالصته حظّ، ورفع له ببساطه مجلس، ولما نهض السلطان إلى إفريقية لافتتاح قسنطينة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة كما سنذكره تلقّاه يوسف بن منصور على قسنطينة فخلطه بأوليائه، ونظّمه في طبقات وزرائه. واستوحش يعقوب بن علي يومئذ من مطالبته بالرهن له ولقومه وانتقض، فأجفلت أحياؤه إلى بلاد الزاب وما وراءها من الصحراء، وارتحل السلطان بعساكره في طلبهم إلى أن احتل بلاد الزاب وخرّب بلاد يعقوب بن علي بالزاب والتل بقطع أشجارها وتغوير مياهها وهدم بنائها ونسف آثارها، ودخل يعقوب بأحيائه الرمل وأعجزوا السلطان فانكفأ راجعا، واحتلّ بظاهر يسكرة فتلوّم بها ثلاثا لإراحة العساكر وإزاحة عللهم من وعثاء السفر وشعث الصحراء، ففرّق [1] يوسف بن منصور في قرى عساكره أيام مقامه يشملهم فيها من العلوفة والحنطة واللحمان والأدم بما أرغد عيشهم وكفاهم همّهم. وتحدّثت بها الناس دهرا، ورفع إليه جبايته لعامه قناطير من الذهب بعثه بين المال فقبضه القهارمة من ثقاته، وأجزل السلطان مثوبته وأسنى عطيته، واختصّه بكسوة ثيابه وعياله من كسا حرمه وثياب قصره. وانكفأ راجعا إلى حضرته. ثم أوفد موسى بن منصور ابنه أحمد على السلطان بسدّته من فاس عند منصرف وزيره سليمان بن داود من حركة إفريقية سنة تسع خمسين وسبعمائة وأصحبه هدية من عتاق الخيل وفاره الرقيق. وأقام أياما في نزل
[1] وفي نسخة ثانية: مغرّب.
كريم ومحل من المجلس رفيع إلى أن هلك السلطان خاتمة تسع وخمسين وسبعمائة فأرغد القائم بالدولة من بعده جائزته وأسنى صلته وصرفه إلى عمله، واستوصى به أمراء النواحي والثغور في طريقه. ولم ينشب أن شبّت نار الفتنة وانتزى الخوارج بالجهات بعد مهلك السلطان فخلص إلى أبيه بعد عنائه وعلى يأس من النجاة بعد أن حصل في قبضة أبي حمو سلطان بني عبد الواد عند استيلائه على تلمسان، وهو بها مع بني مرين، وقد مرّ بهم مجتازا إلى وطنه فأجاره عليه صغير بن عامر من زغبة رعيا لأذمة ابنه يوسف صاحب الزاب، وتأميلا للعرب فيه وفي أعماله. وبعد أن بذل له من ذات يده ومن طرف ما وصله به بنو مرين من ذخائرهم بعث معه صغير وفادا [1] من قومه أبلغوه مأمنه، فكانت إحدى الغرائب في نجاته.
واسترجع الموحّدون ثغورهم: بجاية وقسنطينة من يد بني مرين وأزعجوا عنها العساكر المجمّرة بها من قبائلهم كما قدّمناه، فراجع يوسف بن منصور طاعته المعروفة لهم إلى أن هلك سنة سبع وستين وسبعمائة يوم عاشوراء، وقام بأمره ابنه أحمد، وجرى على سننه وهو لهذا العهد أمير على الزاب بمحل أبيه من إمارته متقبّل في مذهبه وطريقه إلّا أن خلق أبيه كان سجية وخلق هذا تقليد لما فيه من التحذلق [2] ، وربك يخلق ما يشاء ويختار. وله أولاد كبيرهم أبو يحيى من بنت محمد بن يملول أخت يحيى، وهو لهذا العهد مرشح لمكانه. ولما حلّت بأهل الجريد الفاقرة [3] ونزل به يحيى بن يملول الشؤم على وطنه توجّس الخيفة من السلطان وتوقّع المطالبة بطاعة غير طاعته المعروفة، فسرّب الأموال في العرب ومدّيده إلى حبل صاحب تلمسان ليستمسك به فوجده قاصرا عنه، وأقام يقدّم في أمره رجلا ويؤخّر أخرى. ثم قذف الله نور الهداية في قلبه، وأراه سنن رشده. وبادر إلى الاستقامة في الطاعة والعدول عن المراوغة، ووصله فأوفد السلطان أبو العبّاس شيخ الموحدين أبا العباس بن أبي هلال، وكشف له قناع المخالصة والانحياش، وبعث معه وفده بهديته واستقامته وتقبّله السلطان وأعاده إلى أحسن الأحوال ورضي عنه والله متولي الأمور سبحانه لا ربّ سواه، ولا معبود إلّا إيّاه.
[1] وفي نسخة أخرى: ركابا.
[2]
وفي نسخة أخرى: ان خلق أبيه كان سخية وخلق هذا تلهوقا.
[3]
الفاقرة: الداهية الشديدة.