الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال آخر:
أكلت حنيفة ربها
…
زمن التقحم والمجاعهْ
لم يحذروا من ربهم
…
سوء العواقب والتباعهْ1
1 الأصنام ص4 هامش، وتاج العروس مادة ث. ع. ل. ب.
ثانيا:
المتشككون في أوثانهم:
الحنيفية:
ما معنى الحنيف؟
في معنى الحنيف أقوال:
1-
هو المائل عن الأديان كلها. قاله ابن عباس.
2-
أو المائل عما عليه العامة. قاله الزجاج.
3-
أو المستقيم. قاله بن قتيبة.
4-
أو الحاج. قاله ابن عباس وابن الحنفية.
5-
أو المتبع. قاله مجاهد.
6-
أو المخلص. قاله السدي.
7-
أو المخالف للكل. قاله ابن حجر.
8-
أو المسلم. قاله الضحاك.
9-
قالوا: فإذا جمع الحنيف مع المسلم فهو الحاج أو المختتن.
10-
أو الحنف هو الاختتان وإقامة المناسك وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات.
روى أبو حيان المفسر1 عشرة أقوال متقاربة في المعنى.
وإنما خص إبراهيم بالإمامة لما سنه من مناسك الحج والختان وغير ذلك من شرائع الإسلام مما تبتدئ به إلى قيام الساعة.
وصارت الحنيفية علما مميزا بين المؤمن والكافر.
1 البحر المحيط "1: 401" وقال الراغب الأصفهاني "1: 290" على هامش النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: وسَمَّت العرب كل من حج أو اختتن حنيفا؛ تنبيها أنه على دين إبراهيم. وابن الأثير في كتابه السابق أورد حنفاء مؤمنين لم أخذ عليهم الميثاق: "ألست بربكم قالوا بلى" فلا يوجد أحد إلا وهو مقر بأن له ربا وأن الحنيف عند العرب: ما كان على دين إبراهيم.
وسمي الحنيف من ابتعد واستقام على هديه وسمي المنكث عن ملته بسائر أسماء الملل، فقيل يهودي، ونصراني، ومجوسي وغير ذلك من ضروب الملل.
والآراء الكثيرة المذكورة تتجه وجهتين:
وجهة الاتجاه اللغوي عند العرب، وتعني المائل أو المخالف.
والوجهة الثانية اصطلاحية: وتعني من اتخذ وجهته نحو إبراهيم دينا، من حديث التوحيد أو شريعة من اختتن أو شعائر الحج. ومن حيث المنهج الإسلامى: سوَّى القرآن بين الحنيفية والإسلام والفطرة.
يقرر الشهرستاني1: إن الصبوة في مقابل الحنيفية، فيقول: وكانت الفرق في زمان إبراهيم راجعة إلى صنفين اثنين: حنفاء وصابئة.
ومدار مذهب الصابئة: التعصب للروحانيين.
والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب.
ومدار مذهب الحنفاء هو: التعصب للبشرية الجسمانيين.
والحنفاء تدعي أن مذهبها الفطرة.
وكانوا يقولون: إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد فوق الروحانيات، ويماثلنا في البشرية، ويمايزنا في الروحانية.
ويتلقى الوحي بطرف الروحانية، ويلقي إلى النوع الإنساني بطرف البشرية.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2، وقال:{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} 3، ولقد قررها: إبراهيم، وأطلق عليها: الملة الكبرى، والأنبياء بعده أطلقوا على دينهم وصف الحنيف، ولا سيما القرآن، فالتوحيد كان من أخص أركان الحنيفية، ولهذا يقترن عدم الشرك بكل موضع ذكرت الحنيفية فيه.
1 الملل والنحل ص6 جـ2.
2 سورة الكهف آية 110.
3 سورة الإسراء آية 94.
قال تعالى: {حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} . [سورة النحل: 123] .
وقال: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [سورة الحج: 31] .
والصابئة بمذهبها الروحي وعمقها التاريخي تضع أمامنا مشكلة وهي:
كيف عرف الإنسان الاتجاه الروحي -وهو أعقد من الاتجاه المادي؟ أعرف بالعقل؟ أم بالوحي؟ وهل الإنسان فكر أو لا.. ماديا أو روحيًّا؟
يجيب الشهرستاني في المناظرة بين الصابئة والحنفاء: إنهم عرفوه أي الاتجاه الروحي من الأنبياء1.
بعد ما قلناه عن معنى الحنيفية ترجع إلى الحنفاء الشاكين في أصنامهم فنقول: إن التعدد في الأصنام، والأنصاب، وإنشاء البيوت المقدسة لها، كي يزاحم بها الكعبة، مع نظرات الساخطين عليها، إلى وجود المسيحية، بجانب اليهود، وأشتات من الصابئة، ولاجئين من المجوس، كل ذلك: حفلت به الجزيرة العربية وله آثاره الواضحة في خلق آفاق جديدة من التفكير لدى بعض أفراد أداهم ميلهم العقلي إلى تقويم ما حولهم من وثنية، واضطلعوا بعبء مسئولية التفكير فيها.
قال الشافعى في الأم: فكانت المجوس يدينون غير دين أهل الأوثان، ويخالفون أهل الكتاب من اليهود والنصارى في بعض دينهم، وكان أهل الكتاب اليهود والنصارى يختلفون في بعض أحكام دينهم.
ويقول الشيخ مصطفى عبد الرازق معلقًا:
وكان هذا الجدل يتناول بالضرورة شئون الألوهية والرسالة والبعث والآخرة والملائكة والجن والأرواح، ويدعو إلى الموازنة بين المذاهب المختلفة في تلك الشئون وقوي أمر هذا الجدل الديني في ذلك العهد حتى تولدت نزعة ترمي إلى تلمس دين إبراهيم أبي العرب2، وبذلك تسرب الشك في الأصنام والأوثان إلى نفوس العرب.
قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوما في عيدٍ لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعطمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويدبرون به، وكان ذلك عيدا لهم في
1 راجع ما سبق في باب الصابئة.
2 التمهيد ص103.
كل سنة يوما، فخلص منهم أربعة نفر نجيا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتمن بعضكم على بعض، قالوا: أجل وهم: ورقة بن نوفل، عبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل1، فقال بعضهم لبعض: "تعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم؛ فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم.
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب، وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هناك نصرانيًّا، وكان عبيد الله بن جحش حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله وهم هناك من أرض الحبشة فيقولون: فقحنا -أي أبصرنا- وصأصأتم؛ أي تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد، وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده.
قال صاحب الروض: إن قيصر الروم كان قد توج عثمان وولاه أمر مكة، فلما جاءهم بذلك أنفوا من أن يدينوا لملك، وصاحَ الأسود بن أسد بن عبد العزى ألا إن مكة حي لقاح لا تدين، فلم يتم له مراده.. قال: وكان يقال له البطريق ولا عقب له ومات بالشام مسمومًا سمه عمرو بن جفنة الغساني الملك.
1 ذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب: أسماء أناس من العرب دعوا قومهم إلى الله ونبهوهم على آياته في زمن الفترة كقس بن ساعدة، ورباب السيتي وبحيرا الراهب، وكان من عبد القيس.
وأما زيد بن عمرو: فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال: أعبد رب إبراهيم ونادى قومه يعيب ما هم عليه.
ثم خرج إلى الشام يسأل عن الدين، ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم وقال: إني لأحب أن أدين بدينكم فأخبروني فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفرُّ إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وإني أستطيعه فهل تدلنى على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقى عالما من النصارى فذكر له مثله، فقال: لن تكون على دين حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضب الله شيئا أبدا وإني أستطيع فهل تدلنى على غيره؟ قال: ما أعلمه أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله.
فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج فلما برز مع ولديه قال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم.
وفي حديث البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قال: رأيت زيد بن عمر بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما منكم على إبراهيم غيري، وكان يحيى الموءودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أكفك مؤنتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها.
ومن الشعر يقول زيد بن عمرو بن نفيل:
أربا واحدا أم ألف رب
…
أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا
…
كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عزَّى أدين ولا ابنيتها
…
ولا صنمي بني عمرو أزور
ولا هبلا أدين وكان ربا
…
لنا في الدهر إذ حلمي يسير
عجبت وفي الليالي معجبات
…
وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالا
…
كثيرا كان شأنهم الفجور
وبينا المرء يعثر تاب يوما
…
كما يتروح الغصن العطير
ولكن أعبد الرحمن ربي
…
ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها
…
متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان
…
وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا
…
يلاقوا ما تضيق به الصدور
وقال مما ذكره أبو الفرج:
أدين إلها يستجار ولا أرى
…
أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا
ومما سبق نلحظ أن هؤلاء الأربعة خرجوا عن الوثنية، ثم بعد ذلك تفرقوا إلى وجهات مختلفة غير وجهة الوثنية، وكانت لهم وجهة نظر في اطراح الوثنية هى: أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وهم إذ يقولون هذا يخرجون عن وصف قطعة الحجر أنها كذلك، غير أنهم لم يبحثوا فيما وراء ذلك من مشكلات دينية، وعلى الرغم من أنهم لم يستهزئوا بالدين استهزءوا بالإله المصنوع من حجر وغيره، فإن من الواضح أن فكرة وجود إله مغاير لما عليه الأصنام كانت تؤرقهم غير أنهم لم يبحثوها ولو من ناحية تحقيق حاجاتهم الدينية التى كانوا يحسون أن ما هم عليه لا يحقق رغبتهم فيها ولا سيما بعد ما بدا لهم أن آلهتهم تعتبر غريبة على هذا العالم.
ولقد رأوا أن عليهم اختيار دين آخر مما هو منتشر بينهم، فمنهم من اتخذ سبيل المسيحية والبحث كورقة، ومن تحير إلى أن تنصر ومات كعبيد الله بن جحش، ومن وقع في براثن السياسة كابن الحويرث، ومن قال: "كذلك يفعل الجلد
الصبور"، فتحسس المسيحية واليهودية إلى أن وقع هواه على الحنيفية دين أبيه إبراهيم، كزيد بن عمرو.
"وسُمِّي هؤلاء المفكرون بـ "الحنفاء"، ولكنهم لم ينتظموا في طائفة ولم يرتبطوا برباط واحد ولم يشتركوا في عبادة واحدة معينة، ثم ظهر الصابئة الذين كانوا يسمون أيضا الحنفاء.
وقد نبذ هذان النوعان من الحنفاء: اليهودية والمسيحية وآمنوا بدين إبراهيم وكانت تعاليمهم فطرية يسيرة تتفق مع سلوك العرب.
ولتصبح الحنيفية دين العرب كانت في حاجة إلى تعاليم محددة وتنظيم قوي وطقوس دينية وكتاب سماوي، ولما كانت الحنيفية تعوزها الأسس السماوية التي تحذب الإنسان فإنها لم تتمكن من الانتشار بحيث تصبح دين العرب.
وخلاصة القول: أن الإسلام منح العرب عقيدة التوحيد في أنقى صورها غير متأثرة بغيرها، وأشعرهم بمسئوليات الحياة وقضى على الفساد الاجتماعي من جذوره وحطم حياتهم الانعزالية وجعلهم رسل الحضارة.
ولا نجد ما يعبر عن خلاصة هذا البحث خيرا مما قاله الأستاذ براون وهو: "فقد رأينا في موقعة "ذى قار" علاقات تدل على حيوية العرب العظيمة وشدة بأسهم بينما كان جيرانهم ينظرون إليهم على أنهم كميات مهملة بشكل غير مألوف كما كانوا في عصر ما قبل الإسلام1.
أما الإسلام ذلك القانون الإلهى الفريد الذي لا يستطيع أي متعلم منصف أن ينكر عظمته فقد جعل العرب يأخذون نصيبا كبيرا من أسباب العظمة والمجد ويؤدون دورهم في الحضارة على خير وجه.
بعد ذلك نحب أن نذكر بعض التعليقات حول بعض الأسماء التي أطلقت على ذلك النفر من بعض كتب السيرة فبعضها أطلق على هؤلاء النفر "حنفاء"، والبعض الآخر أطلق عليهم لفظة "المتحنثين".
فمن ناحية كلمة "حنفاء" يجوز إطلاقها عليهم من جهة المعنى اللغوي أي الذين خرجوا على دين قومهم.
1 حضارة الإسلام "ص31" صلاح الدين جودا أبخش، ترجمة علي حسنى الخربوطلي.
ومن ناحية المعنى الاصطلاحي نراه يشملهم جميعا من باب قصدهم؛ فهم قصدوا جميعا -عند ما انسحبوا من عبادة الأوثان ودين قومهم الحنيفية، أو من باب التغليب أي لما كان منهم من انتسب إلى الحنفاء سموا جميعا بالحنفاء؛ لأن الذى اعتنق الحنيفية بعد أن بحث عنها واحد منهم فقط.
أما من ناحية: أهل الحنث.
حنث في اليمين: أي نقضها.
قال الجوهري: بلغ الغلام الحنث: أي بلغ المعصية أو الطاعة.
وفيه أن الرسول كان يأتي حراء، فيتحنث فيه: أي يتعبد فيه.
يقال: فلان يتحنث: أي يفعل فعلا يخرج به من الإثم والحرج.
ومنه حديث حكيم بن حزام: أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية؛ أي أتقرب بها إلى الله.
ومنه حديث عائشة: ولا أتحنث إلى نذري؛ أي: لا أكسب الحنث وهو: الذنب والإثم.
ومنه: تكثر فيهم أولاد الحنث؛ أي: أولاد الزنا.
ما عرضناه من معانٍ لكلمة "الحنث" هو معانٍ صالحة لإطلاقها على أهل الحنث، فهم حنثوا؛ أي: نقضوا ما توعدوا عليه وهو طلب الحنيفية، ثم لم يطلبها غير واحد.
وبعضهم بلغ بحنثه "عبادته" المعصية، ولا سيما ما كان من بعضهم عندما ترك الحق واتبع السياسة فأهلكته، والبعض الآخر بلغ بحنثه الطاعة، وكلهم طلبوا أمورا صالحة في نظرهم لتعبدهم، وكلهم فعلوا فعلا خرجوا به من الإثم إلى الطاعة بحسب اجتهادهم.
وهكذا أوقفتنا معاجم اللغة -كما رأينا- أمام حشد من المعاني دون تنبيه منها يبين متى نشأ المعنى الاصطلاحي للفظ أو متى نقل من معناه اللغوي إلى معناه المذهبي.
وقد وردت لفظة "حنيفًا" في عشر مواضع من القرآن الكريم1، ووردت لفظة "حنفاء" في موضعين منه2، وبعض الآيات التى وردت فيها: آيات مكية، وبعضها مدنية. وقد نص في بعض منها: على "إبراهيم" وهو على الحنيفية؛ لم ينص في مواضع منها على "اسمه".
وقد وردت لفظة "حنفاء" في: سورتين فقط3، وهما من السور المدنية، وقد لخص الفخر الرازى، والطبرسي: آراء العلماء في الحنيفية، وأجملاها في تفسيرهما للآية الكريمة؛ قوله تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} فقالا: وفي الحنيفية أقول: أحدها- أنها: حج البيت؛ عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد.
ثانيها- أنها: اتباع الحق؛ عن مجاهد.
ثالثها- أنها: اتباع "إبراهيم" فيما يأتى به من الشريعة، التي صار بها إماما للناس بعده، من الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام.
رابعها: أنها الإخلاص لله وحده، والإقرار بالربوبية، والإدغان للعبودية.
يقول جواد على ونلاحظ أن أهل الأخبار لم يكونوا على بينة تامة، وعلم واضح بأحوال "الحنيفية"؛ وبآرائها، وقواعد أحكامها وأصولها، وأنهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما:"رهبنة النصرانية"4، فأدخلوا فيها من يجب إخراجهم عنها؛ لأنهم: كانوا نصارى، على ما يذكره نفس أهل الأخبار في أثناء تحدثهم عنهم. ومن هؤلاء:"قس بن ساعدة الإيادي، وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث".
فقد نصوا نصوصًا صريحة على أنهم كانوا من العرب المتنصرة؛ ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة "الأحناف".
1 انظر سورة البقرة آية 135، سورة آل عمران آية 67، 95، والنساء آية 125؛ والأنعام آية 79، 161، ويونس آية 105؛ والنحل آية 120، والروم آية 30.
2 انظر سورة الحج آية 231. سورة البينة آية 5.
3 الهامش السابق.
4 المفصل ص451، 452، 453 مجمع البيان جـ1 ص 215، التفسير الكبير جـ 4 ص89.
وللمستشرقين بحوث في أصلها، ومعناها، وفي ورودها عند العرب قبل الإسلام، ومنهم من يرى: أن اللفظة من أصل "إرمى" وقد كانت معروفة عند النصارى؛ وأخذها الجاهليون منهم؛ وأطلقت على القائلين "بالتوحيد" من العرب - على أولئك الذين ظهروا في اليمن خاصة، ونادوا:"بالتوحيد وعبادة الرحمن" وهى: ديانة "توحيد" ظهرت بتأثير اليهودية، والنصرانية. غير أن أصحابها لم يكونوا "يهودا، ولا نصارى"؛ وإنما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين1.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل "عبراني" وهو: "تحينوت". Thinath. أو من "حنف" Tnef. ومعناه: "التحنث" في العربية. وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهاد.
وقال "نولدكه": إنها من أصل "عربي"، وهو:"تحنف" على وزن "تبرر"، وهى من الكلمات التي لها معانٍ دينية، ويلاحظ أن السريان يطلقون لفظة "حنف" على "الصابئة". وقد وردت لفظة "حنف" في النصوص العربية الجنوبية بمعنى:"صبأ" أي: مال وتأثر بشيء ما.
وعندي: أن لفظة "حنيف" هي في الأصل بمعنى "صابئ"؛ أى: خارج عن ملة قوم، وتارك لعبادتهم، ويؤيد رأيي هذا ما ذهب إليه علماء اللغة من أنها من الميل عن الشيء ونزله، ومن ورودها بهذا المعنى في النصوص العربية الجنوبية؛ وبمعنى "الملحد" -المنافق، الكافر- في لغة بنى "إرم"؛ ومن إطلاق المسعودى ابن العبري لهذه اللفظة على "الصابئة"، ومن ذهاب "المسعودي" إلى أن اللفظة من الألفاظ السريانية المعربة.
وقد أطلقت على "المنشقين" على عبادة قومهم، الخارجين عليها كما أطلق أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أتباعه "الصابئ"، "الصباة"، فصارت علما على من تنكر لعبادة قومه، خرج على الأصنام.
ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على: نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على دين "إبراهيم".
1 المفصل جـ6 ص453.
ولما كان التنكر للأصنام هو عقيدة الإسلام، لذلك صارت مدحًا لمن أطلق عليهم تلك اللفظة لازما1.
وقد عدَّ بعض المستشرقين "الحنفاء" شيعة من شيع "النصرانية" وعدوهم نصارى عربا زهادا، كيفوا النصرانية بعض التكييف، وخلطوا فيها بعض تعاليم من غيرها.
وقد استدلوا على ذلك بما ورد من تنصُّر بعضهم؛ وبما ورد في بعض الأشعار الجاهلية من مواضع يفهم منها على تفسيرهم أن المراد بهم شيعة من شيع "النصرانية"2.
غير أن: "القرآن الكريم" قد نص نصا صريحا على أن الحنفاء لم يكونوا يهودا، ولا نصارى، وأنهم ينتمون في عقيدتهم إلى:"إبراهيم".
ثم إن: الإخباريين وإن أدخلوا في الأحناف أناسا نصوا على أنهم كانوا نصارى إلا أنهم نصوا في الوقت نفس نصا صريحا على أن البقية كانت واقفة، لم تدخل في "يهودية"، ولا "نصرانية"، وإذا وجدت في كل ديانة من الديانتين أمورًا جعلتها تتريث، فلم تدخل في إحداهما، وبقيت مخلصة لسنة إبراهيم.
لذلك: فلا يمكن اعتبار "الأحناف""نصارى" خلصًا، أو شيعة من الشيع "النصرانية"3.
وجُلُّ هؤلاء الأحناف هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة، أو فوق مستوى الوسط بالنسبة إلى تلك الأيام. ولهذا صار في إمكانهم الحصول على ثقافة، وعلى شراء الكتب، وقد كانت غالية الثمن إذ ذاك؛ لنيل العلم منها.
كما صار في إمكانهم الطواف في خارج جزيرة العرب؛ لامتصاص المعرفة من البلاد المتقدمة بالنسبة إلى تلك الأوقات مثل: العراق، وبلاد الشام، وقد اتصلوا -كما يزعم أهل الأخبار- فعلا برجال العلم والدين فيها، وتحادثوا معهم، وأخذوا الرأي منهم. ومن يدري فلعلهم قرأوا عليهم الكتب، وفي جملتها كتب اليونان، أو ترجمات كتبهم بالسريانية فحصلوا نتيجة لذلك على علم بمقولات اليونان، وبآرائهم في الفلسفة والدين والحياة.
1 المفصل جـ4 ص454.
2 السابق جزءا وصفحة.
3 السابق ص456.
وقد تكون بعض الآراء المنسوبة إليهم -والتي ترجع إلى أصل يوناني- قد قالوها من أخذهم لها من تلك الكتب، ومن دراستهم على من اتصلوا بهم من العلماء في أثناء وجودهم في العراق، وفي بلاد الشام1.
وقد ذهب "ولهوزن" إلى أن: الأحناف هم من النصارى، وإن حركتهم حركة نصرانية، وإنهم كانوا القنطرة التى توصل بين النصرانية والإسلام غير أن ما لدينا من معارف عن الأحناف لا يكفى لإبداء رأي كهذا الرأي، وللتسليم بمثل هذا القول ينبغي لنا الوقوف على آرائهم وقوفا دقيقا، ومقارنة ما لدينا بما نعرفه من النصرانية؛ لنتمكن من التوصل إلى رأي علمي في هذا الشأن2.
وقد أدخل "المسعودي": بعض الأحناف في جماعة "أهل الفترة" ممن كان بين "المسيح ومحمد" عليهما السلام ومن أهل "التوحيد" ممن يقر بالبعث، ثم قال: وقد اختلف الناس فيهم، فمن الناس من رأى: أنهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك3.
وقد ذكر من بينهم: "حنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان العبسى، ورئاب الشنى، وأمية بن أبي الصلت، وقس بن ساعدة الإيادي، وعبد الله بن جحش الأسدي، وبحيرا الراهب".
ومن هؤلاء من كان على النصرانية، وقد نص المسعودي على ذلك4.
والرجال الذين قال أهل الأخبار عنهم أنهم كانوا على دين، وكانوا من "الأحناف" هم "قس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبى الصلت، وزهير بن أبي سلمى، وخالد بن سنان، وكعب بن لؤي"، وغير هؤلاء كثير ذكرهم المسعودي5.
وقد اقتصر محمد بن حبيب على ذكر بعض من تقدم، حين تكلم عن أسماء الذين رفضوا عبادة الأصنام؛ فذكرهم على النحو الذي نذكر بعضه:"عثمان ابن الحويرث، ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، عبيد الله بن جحش"، وذكر منهم من تنصر ومات على النصرانية.
مثل "عثمان، وورقة، وعبيد الله".
1 المفصل جـ6 ص458.
2 السابق جـ6 ص460.
3 السابق جـ6. ص461، مروج الذهب جـ1 ص78.
4 المفصل جـ6 ص462، مروج الذهب جـ1 ص78.
5 المفصل جـ6 ص463. والمروج جزءا وصفحة.
وأما قس بن ساعدة، فقد رفعه الإخباريون من مصافِّ أسوياء البشر، ووضعوه في صف المعمرين، الذين عاشوا مائتين من السنين قبل سبع مئة سنة أو أقل من ذلك، غير أنه لا يقل عن ثلاث مائة سنة على كل حال1.
وقس هو: مخترع؛ أوجد للعرب أشياء عديدة على زعم أهل الأخبار، أحدث لهم أمورا كثيرة: فهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ عند خطبته على سيف أو عصا، وأول من علا على شرف، وأول من قال "أما بعد"، وأول من قال:"البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فكل ما عرفه العرب من مثل هذه الأمور هو من صنعة قس وعمله، ثم إنه كان أحد حكماء العرب وخطيبهم كافة، كما ذكروا أن له ولقومه فضيلة ليست لأحد من العرب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم روى كلامه وموقفه على جمله الأورق بعكاظ، وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وقال فيه:"يحشر أمة وحدة".
وذهب "شبرنكر": إلى أن: قسا كان من "الركوسية"؛ وهم فرقة عرفهم أهل اللغة بأنهم: بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في أمر دينهم؛ ولذلك عمدوا إلى: السياحة، والترهيب، والإنزواء، وقد حسبهم العرب نصارى فأدخلوهم فيهم في أثناء كلامهم على هؤلاء2.
وجميع هذا القصص المروي عن "قس" هو من النوع الذي يحتاج إلى تمحيص.
1-
زيد بن عمرو بن نفيل:
هو: زيد بن عمرو بن نفيل بن رباح بن عبد الله، ينتهى نسبة غالب بن فهر فهو من "قريش" ولم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها، وهزئ منها، ووقف فلم يدخل في "يهودية" ولا "نصرانية" وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة وامتنع عن الذبح للأنصاب، ومن أكل الميتة، وما ذبح على النصب.
وترجع إحدى الروايات: سبب خروج "زيد" على عبادة قومه أنه حضر يوما، وحضر معه في ذلك اليوم: ورقة بن نوفل، وعبد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث -عيدًا من أعياد قريش عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه، ويعكفون
1 السابق جـ6 ص465، المؤتلف والمختلف ص338.
2 المفصل جـ6 ص467.
عنده، وينحرون له فلما خلا بعضهم إلى بعض، وتصادقوا قالوا: ليكتم بعضكم على بعض واتفقوا على ذلك؛ ثم قال قائلهم: تعلمون والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين "إبراهيم" وخالفوه؛ وما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم؛ فإنكم والله ما أنتم على شيء، فخرجوا يطلبون، ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب1.
وقد زار "زيد" الشام، والبلقاء، وعاش إلى خمس سنين قبل البعثة فهو: من أولئك الرهط الثائرين على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول؛ وقد نسبوا إليه شعرًا في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقه دينهم، وما لقيه منهم، كان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه؛ حتى أكره على ترك مكة والنزول بـ "حداء" وكان الخطاب بن نفيل" عمه. وقد وكل به شبابًا من شباب قريش، وسفهاء من سفهائهم كلفهم ألا يسمحوا له بدخول البلدة ويمنعه من الاتصال بأهلها مخافة أن يفسد عليهم دينهم، وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه، واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل معتزلا قومه إلا فترات كان يهرب خلالها سرًّا؛ ليذهب إلى موطنه ومسكنه؛ فكانوا إذا أحسوا بوجوده هناك آلموه وآذوه2.
وقالوا إنه التقى في أثناء أسفاره هذه بأحبار من اليهود، وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادئ إبراهيم لذلك لم يدخل في ديانة ما من هاتين الديانتين حتى قتل.
وهناك روايات أخرى تفيد رجوع "زيد" إلى قومه بعد عودته من الشام، ووفاته وفاة طبيعية لا قتلا بيد إنسان، ودفن بأصل حراء3.
2-
عبيد الله بن جحش:
هو: "عبيد الله بن جحش بن رئاب بن أسد بن عبد العزى بن قصى".
وقد بقى مرتابا في دين قومه، بعيدا عنهم وعن عبادتهم، حتى إذا ظهر الإسلام دخل فيه؛ ثم هاجر مع هاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته "أم حبيبة" بنت
1 المفصل جـ6 ص469.
2 المفصل جـ6 ص470.
3 المفصل جـ6 ص477 بلوغ الأرب جـ2 ص251.
أبي سفيان، وكانت مسلمة كذلك. فلما صار في الحبشة فارق الإسلام، وتنصر وهلك هناك1.
3-
عثمان بن الحويرث:
وأما عثمان هذا: فقد بقى مغاضبا قومه في دينهم، ثم رأى الذهاب إلى الروم، فذهب إليهم، وتقرب إلى قيصر، وحسنت منزلته عنده، وتنصر ومنحه لقب "بطريق"؛ وأراد تنصيبه "ملكا" على "مكة". ولكن قومه أبوا عليه ذلك، فلم يتم له مراده، ومات بالشام مسمومًا، سمه عمرو بن جفنة الغساني.
وذكر الزبيري: أن والدة "عثمان" هي "تماضر" بنت عمير، وأنه خرج إلى قيصر فسأله أن يملكه على قريش، وقال:"أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل وكتب له عهدًا وختمه بالذهب فهابت "قريش" "قيصر" وهموا أن يدينوا له؛ ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة فصاح، والناس في الطواف: إن قريشًا لقاح لا تَملُك، ولا تُملَك، فاستمعت قريش إلى كلامه ومنعوا عثمان مما جاء له، فمات عند ابن جفنة، فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله، وكان ابن جفنة حبس أبا ذئب عنده وأبا أحيحة بسبب عثمان بن الحويرث، ويقصدون بابن جفنة: عمرو بن جفنة الغساني2.
4-
أمية بن أبي الصلت:
وأما أمية فهو أحسن الحنفاء حظا في بقاء الذكر؛ بقي كثير من شعره؛ وربما وضع كثير منه على لسانه، وحفظ قسط لا بأس به من أخباره، وسبب ذلك: بقاؤه إلى ما بعد البعث، واتصاله بتأريخ النبوة، والإسلام اتصالا مباشرًا وملاءمة شعره بوجه عام لروم الإسلام، لم يكن مسلمًا ولم يرضَ أن يدخل في الإسلام؛ لأنه كان يأمل أن تكون النبوة فيه، وأن ينزل الوحي عليه؛ فيكون نبي العرب والعالم أجمعين، فلما رأى النبوة في الرسول حسده وأثار المشركين عليه، ورثى قتلاهم في معركة بدر،
1 المفصل جـ6 ص477 سيرة ابن هشام جـ1 ص243.
2 المفصل جـ6 ص476، ص477، سيرة ابن هشام جـ1 ص243.
وحرض قريشًا عليه حتى مات على حسده وعناده سنة تسع بالطائف قبل أن يسلم قومه الثقفيون؛ فهو لم يمت مسلمًا، ولم يمت على دين الوثنيين من قومه، بل مات كافرا بالديانتين1.
وقد ورد في بعض الأخبار أن أمية سافر مرة مع أبي سفيان والد معاوية في تجارة إلى بلاد الشام، فكان كلما نزل منزلا أخذ فيه سفرًا له يقرؤه على من معه، كما كان يزور علماء النصارى، ويتباحث معهم، وكان يلبس ثوبين أسودين حينما يقابلهم.
ولأمية ديوان ضم أكثر ما نسب إليه من شعر، وفي بطون كتب الأدب والأخبار أشعار أخرى لم يرد ذكرها في هذا الديوان، ومعظم شعره عن الدين، والآخرة، وعن الجنة والنار والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في أيامه، أو في أيام قريبة من أيامه مثل قصة الفيل. كما تضمن بعض قصصالأنبياء، ولتعرض شعره إلى هذه النواحى نعت بشاعر الآخرة.
ومما ذكره الإخباريون، ورواة شعر أمية من أمثلة على استعماله للكلم الغريب أنه استعمل:"الساهور للقمر"؛ وأنه ذكر السلطليط "اسما لله تعالى"، وأطلق كلمة "التغرور" على الله تعالى. وأنه سمى السماء "صاقورة"، و"حاقورة".
ولولعه باستعمال الغريب رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره2.
والساهور كلمة آرامية الأصل من أصل "سهرو" بمعنى "القمر" وذكر ابن دريد: كان بعض العلماء يقول له: لولا النبي صلى الله عليه وسلم لادعت ثقيف أن أمية نبي؛ لأنه قد دارس النصارى، وقرأ معهم، ودارس اليهود وقرأ كل الكتب3.
وقد كسف وتألم كثيرا وأكل الحسد قلبه حين فلت الأمر منه، إذ سمع بإعلان الرسول رسالته، ودعوة الناس إلى دين الله تعالى، الذي كان أمية نفسه يدعو إليه، وقد ورد أنه لما سمع بنبوة الرسول قال: إنما كنت أرجو أن أكونه.
1 المفصل جـ6 ص479، الأغاني جـ4 ص120.
2 المفصل جـ6 ص478.
3 المفصل جـ6 ص481.
ويروي أهل الأخبار أن أمية كان قد مات، وهو معتقدٌ بأن "الحنيفية حق"؛ إذ رووا أنه قال في مرض موته: قد دنا أجلى، وهذه المرضة فيها منيتى، وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك: يداخلنى في "محمد"، وقال: لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر1.
ويذكرون عنه أنه: بعد أن صبأ عن قومه وتحنف لبس المسموح على زي المترهبين الزاهدين في هذه الدنيا، ورافق الكتب ونظر فيها؛ ليستلهم منها العلم والحكمة والرأي الصحيح؛ ثم حرم الخمر على نفسه مثل: بقية المتألهين، وتجنب الأصنام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وأنه كان أول من أشاع بين قريش افتتاح الكتب، والمعاهدات والمراسلات بجملة:"باسمك اللهم"، وهي الجملة التي نسخت في الإسلام بجملة:"بسم الله الرحمن الرحيم"2.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع شعر أمية، وقال:"كاد يسلم"، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث له عنه: آمن شعره، وكفر قلبه، وإنه لما سمع شعره في الحنيفية والدين، والذي مطلعه:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا
…
بالخير صبحنا ربي ومسَّانا
قال: "إن كاد أمية ليسلم"3.
5-
ورقة بن نوفل:
هو: ورقة بن نوفل بن أسد
…
يلتحم نسبه بنسب الرسول صلى الله عليه وسلم في جد جده.
ذكروا أنه: ساح على شاكلة من شك في دين قومه، وتتبع اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وعد في جملة المتنصرين في أغلب الروايات فقد ذكروا أنه تنصر واستحكم في النصرانية، ومات عليها؛ وهذا هو رأي أكثر أهل الأخبار.
1 السابق جـ6 ص482.
2 المفصل جـ6 ص484.
3 السابق جـ6 ص485، صحيح مسلم 7/ 48.
وهو: ابن عمِّ السيدة "خديجة" الكبرى، زوج "الرسول"؛ وقد أشير إليه في خبر مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حراء، وله كلام مع الرسول على ما ورد في بعض الروايات1.
يقال: إنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد ذهب إليه مع زوجته "خديجة"؛ ليسأله رأيه فيما رآه من الرؤيا: ليتني كنت حيا حين يخرجك قومك! " وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أوَمُخرجيَّ هُم؟ "، قال: نعم. إنه لم يجئ رجل قط بما جئت به إلا عودى؛ ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا.
وجاء في خبر: أن ورقة كان يمر بمكة فيرى بلالًا وهو يعذب؛ يعذبه المشركون برمضاء "مكة" يلصقون ظهره بالرمضاء، ويضربونه، يريدون منه أن يشرك "بالله تعالى"، فلا يشرك، ويأبى إلا أن يقول:"أحد أحد"، فيرثي ورقة لحاله، ويقول:"أحد أحد والله يا بلال"، ولئن قتلتموه فأنتم من الخاسرين2.
وورد في بعض الروايات: أنه كان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب.
ورود في رواية أخرى: أنه كان يكتب الكتاب "العبراني" فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب.
ولما كان الإنجيل باليونانية، وبلغة بني "إرم" التي كانت لغة العلم والأدب، فقد أخطأ الرواة بجعل لغة الإنجيل هي:"العبرانية".
وهم يتوهمون كثيرا فيخلطون بين العبرانية والسريانية، والغالب أنهم كانوا يريدون بالعبرانية لغة بني "إرم" التي كانت لغة العلم والأدب والدين في العراق، وفي بلاد الشام3.
1 السابق جـ6 ص500 ص501، اليعقوبي جـ1 ص298.
2 المفصل جـ6 ص502.
3 المفصل جـ6 ص503، النصرانية 10/ 119.
6-
وكيع بن سلمة:
هو: وكيع بن سلمة بن زهير الريادي، زعم ابن الكلبي أنه ولي البيت بعد "جرهم". فبنى صرحا بأسفل "مكة"، وجعل فيه أمة يقال لها:"حزورة"، وبها سميت "حزورة مكة". وجعل في الصراح سلما، فكان يرقاه، ويزعم أنه يناجي الله تعالى1.
7-
عمير بن جندب:
كل ما عرفه أهل الأخبار عنه: أنه كان من "جهينة"، أنه كان موحدا لم يشرك بربه أحدا، وأنه مات قبل الإسلام2.
8-
عامر بن الظرب العَدَوَاني:
كان من الحكماء، ونسبت إليه أقوال في الحكم والدين؛ منها:"إني ما رأيت شيئا خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء"، ثم قال:"إني أرى أمورا شتى وحتى، قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيًّا ويعود اللاشيء شيئا؛ ولذلك خُلِقَت السماوات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين"3.
9-
المتلمس بن أمية الكناني:
ذكروا أنه: كان قد اتخذ من فناء الكعبة موضعًا يخطب فيه، ويعظ قومه عظات دينية، فكان في جملة ما قاله لهم:"إنكم قد تفردتم بآلهة شتى؛ وإني لأعلم ما الله تعالى راضٍ به، وإن الله تعالى رب هذه الآلهة، وإنه ليحبُّ أن يعبد وحده، فنفرت كلماته هذه وأمثالها القوم منه وتجنبوه. وقالوا عنه: إنه على دين بني تميم"4.
1 السابق جـ6 ص61. وما بعدها.
2 السابق جزءا وصفحة، وبلوغ الأرب جـ2 ص261. وما بعدها.
3 السابق جزءا وصفحة.
4 السابق جـ6 ص506، البيان والتبين جـ1 ص226.
10-
عبيد بن الأبرص:
هو شاعر جاهلي شهير، له في قتله قصة هي من ذيول قصة "الغربيين" للمنذر بن ماء السماء. نجد في الشعر المنسوب إليه: اسم الله "تعالى" يتردد في كثير من المواضع؛ ونراه من المتشائمين، المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوب؛ ونراه في القصيدة البائية يتوكل على الله تعالى، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه. فيقول:
من يسأل الناس يحرموه
…
وسائل الله لا يخيبُ
بالله يدرك كل خير
…
والقول في بعضه تلغيبُ
والله ليس له شريك
…
علام ما أخفت القلوبُ
ونراه يقول في المنايا:
فأبلغ بنيَّ وأعمامَهُمْ
…
بأن المنايا هي الواردهْ
لها مدة فنفوس العباد
…
إليها وإن كرهت قاصدهْ
فلا تجزعوا للحمام دنا
…
فلملوت ما تلد الوالده1
11-
كعب بن لؤي بن غالب:
كان على الحنيفية؛ وهو: جدٌّ من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وإليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة، فكان يعظهم، ويوجههم، ويرشدهم ويأمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام، وإفشاء السلام، وحفظ العهد، ومراعاة حق القرابة، والتصدق على الفقراء والأيتام2.
خلاصة ما تقدم:
يقول جواد علي: لقد جعل أهل الأخبار معظم من تحدثنا عنهم -إن لم نقل: كلهم- من القارئين الكاتبين؛ ونسبوا إلى بعضهم قراءة الكتب والصحف والزبور ومجلة لقمان، يريدون بذلك الكتب المقدسة.
1 السابق جـ6 ص506، البيان والتبيين جـ1 ص226.
2 المفصل جـ6 ص507، طبقات ابن سعد جـ1 قسم أول ص39.
ويفهم من كلامهم في بعض الأحيان أن منهم من كان يحسن فهم "العبرانية" أو لغة بنى "إرم".
ولكن الإخباريين -عفا الله تعالى عنهم- لم يتبسطوا لنا في الحديث عن ماهية تلك الصحف، وعن محتويات مجلة لقمان، وعن الكتب المنزلة؛ ولم يأتوا بنماذج مفصلة طويلة، أو قطع ترشد إلى المظان التى نقلت منها، فأضاعوا علينا -بعدم الإشارة إلى هذه الأمور- أشياء كثيرة مهمة بنا حاجة ماسة إلى معرفتها؛ للوقوف على الحالة الدينية في جزيرة العرب قبيل الإسلام، وإبان ظهوره، ويؤكد أهل الأخبار أن بعض أولئك الحنفاء كانوا يسيرون على سنة "إبراهيم" وشريعته؛ وإن بعضًا آخر منهم كان يتلمس كلماته، ويسأل عنها، وإنهم في سبيل ذلك تحملوا المشاق، والأسفار والصعاب.
وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز، وبلاد الشام وأعالي العراق أى: المواضع التي كانت غالبية أهلها على النصرانية يومئذ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان، وقد أضافوا إليهم الأخبار أحيانا وذكروا أن الرهبان والأحبار أشاروا عليهم بوجوب البحث والتأمل، فليس عندهم ما يأملونه ويرجونه من دين "إبراهيم" و"إسماعيل"؛ ولذلك لم يدخلوا في "يهودية"، ولا "نصرانية" بل ظلوا ينتظرون الوعد الحق، ومنهم من مات وهو على هذه العقيدة، مات معتقدا بدين "إبراهيم" حنيفا غير مشرك بربه أحدا.
أما كيف كانت شريعة "إبراهيم"؟، وعلى أي نهج سار الحنفاء؟ وهل كان لهم كتاب، أو كتب، أو نحو ذلك؟ فأسئلةلم يجب عنها أهل الأخبار إجابة صريحة واضحة، لذلك صرنا في جهل بأمر تلك الشريعة -شريعة إبراهيم- شريعة التوحيد الحق1.
ويذكر أهل الأخبار: أنه كان لأتباع "إبراهيم" من العرب علامات وعادات ميزوا أنفسهم بها عن غيرهم، منها:"الختان، وحلق العانة، وقص الشارب"، وهي
1 المفصل جـ6 ص508 وما بعدها.
علامات جعلها بعض المفسرين من كلمات "إبراهيم"، التي ذكرت في القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] .
ذهب القائلون بهذا الرأي: إلى أن تلك الكلمات هى عشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ فأما التي في الرأس، فالمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وفرق الرأس، والسواك، وأما التي في الجسد فهي: الاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط وخلق العانة، والختان، ومن سنن شريعة "إبراهيم" الاختتان، وهو من العادات القديمة الشائعة بين العرب الجاهليين الوثنيين.
أما العرب النصارى فلم يكونوا يختتنون، فالحنفاء في هذه العادة والوثنيون سواء.
وفي أخبار معركة "حنين" أن الأنصار حينما أجهزوا على قتلى "ثقيف" ممن سقط في هذه المعركة مع "هوازن" وجدوا عبدا عندما كشف؛ ليستلب ما عليه وجد "أغرل"، فلما تبين ذلك للأنصار نادى أحدهم بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفا "غرل" ما تختتن، فقام إليه:"المغيرة بن شعبة" -وهو من ثقيف- فأخذ بيده، وخشي أن يذهب ذلك عن قومه في العرب، فقال له: لا تقل ذلك فداك أبي وأمي؛ إنما هو غلام لنا نصرانى، ثم جعل يكشف له قتلى قومه ويقول له: ألا تراهم مختتنين.
ويتبين من هذا الخبر: أن العرب كانوا يعدون "الغرل" شيئًا معيبًا ومنقصة تكون حديث الناس.
وهناك خبر آخر يفيد أن العرب جميعا كانوا يختتنون، وأن الاختتان كان من السمات التى تميزهم عن غيرهم، وأنهم في ذلك "كاليهود".
وقد ورد في: الموارد اليهودية ما يفيد اختتان العرب، ولعل التوارة التي ذكرت قصة اختتان "إسماعيل" أخذت خبرها هذا من تقاليد العرب الشماليين، التي كانت شائعة بينهم في ذلك العهد1، ومن جهة نظرنا أن هؤلاء الحنفاء -من بين قومهم- خرجوا يبتغون الثقافة في رحلة علمية من مراكزهم المنتشرة على مشارف الجزيرة التي أشرنا إليها سابقا وليست طلبا للتجارة، وحين رجع بعضهم إلى مكة اعتزل الأصنام وهيأ بما دعيا إليه الذهن للتوحيد فكان ورقة أول من بشر الرسول
…
وأمية بن الصلت قال عنه الرسول: آمن لسانه وكفر قلبه.. وعبد الله بن الزبعرى يحاجج الرسول عندما سمع قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 2 قال للرسول: إن النصارى تعبد عيسى فهل هو كذلك..
وما ذلك كان منهم إلا من ثقافتهم.
1 المفصل جـ6 ص509، الطبرى 1/ 414، روح المعانى 1/ 374.
2 سورة الأنبياء آية 98.