الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول المؤرخون: وكان موظفو البلاط بعد سنوات من هذا الحادث حين يريدون أن يهدئوا الأمير المعتوه "يوستين" وهو ابن أخ يوستنيان ووريثه يتفوهون بالقول:
اسكت: وإلا استدعينا الحارث.
وحصل الحارث أثناء وجود بالقسطنطينية على تعيين يعقوب البرادعي1 أسقفًا على الكنيسة فكان يعقوب من أتباع نسطور ومذهبه القائل بالطبيعة الواحدة للمسيح.
وأصبحت بصرى -التي بنيت كاتدرائيتها في عام 512- العاصمة الدينية في المنطقة، ووصلت المملكة حينذاك ذروة اتساعها؛ إذ كانت تمتد من قرب البتراء إلى الرصافة شمالي تدمر وتشتمل على البقاع، والصفا، وحران.
1 وكان الحارث مسيحيا يعقوبيا، وقد دافع عن مذهبه بحماسة وتوفيق عظيمين في وقت كان التعلق بأهداب هذا مجازفة خطيرة، كما كان لا يدخر وسعا في الدفاع عن أصحاب الطبيعة الواحدة وتحريرهم من الاضطهاد أن يقع عليهم، وبفضله توطدت دعائم الكنسية اليعقوبية بعد أن كانت مهددة بالخطر. نولدكه: أمراء غسان ص14 ترجمة دابندي جوزي ود قسطنطين زريق.
4-
دويلة المناذرة:
وقامت في بداية القرن الثلاث الميلادي في البادية المحاذية للفرات في منطقة الكوفة دويلة عربية مهمة هي مملكة الحيرة، وأصل أهلها وملوكها من عرب اليمن، عرفوا بالمناذرة واللخميين، وتقع الحيرة، عاصمتها على بعد نحو 3 أميال جنوب الكوفة، وكان أهلها نصارى على المذهب النسطوري وكان ملوكها موالين أو محالفين لملوك الدولة الساسانية، ومن ملوكها الأوائل امرؤ القيس الأول "القرن الرابع الميلادي"، والنعمان الأول ابن امرئ القيس، والمنذر الأول "418-462" ابن النعمان، وقد عظم في زمنه شأن الحيرة، والمنذر الثاني "505-554" وهو الذي سماه العرب "ابن ماء السماء"، وأعقبه ابنه المسمى: عمرو بن هند "554-569" الذي خلده شعراء العرب من الجاهلية مثل: طرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، وانتهى حكم السلالة في حكم النعمان الثالث الذي يكنى "أبو قابوس""580-602"، صاحب النابغة الذبياني، حيث صار الملوك الساسانيون
يتدخلون في شئونها وأخيرا انحاز عرب الحيرة إلى خالد بن الوليد في فتحه العراق "633"1.
وقد بذلت داخل الصحراء نفسها محاولات للتنظيم السياسي كدولة كندة التي وحدت تحت حكمها عدة قبائل من وسط الجزيرة.
ولكن ظل البدو في جملتهم أحرارا من مثل هذه التنظيمات السياسية فلم يطلبوا وحدة فوق قرابة الدم التي وحدت بينهم في قبائل، وإنما كانوا يجوبون بلادهم الرملية الشاسعة مستقلين بعضهم عن بعض، وقد حكت لنا الرواية الإسلامية ذكريات تنافسهم وتصارعهم، "فأيام العرب" مملوءة بحروب وثارات نشأت في الأصل عن نزاع على الماشية أو المراعي، أو عيون الماء، وهنا تبرز شخصية البدوي حية نابضة بصفات الشجاعة والكبرياء والإصرار والحيلة وهي صفات كان لها دور لا يستهان به في النظام العظيم الذي انبثقت عنه أحداث الجزيرة العربية فيما بعد، وقد قامت مدن في واحات الحجاز خاصة، وكان طريق القوافل المتجه إلى الشمال يسيطر عليه مركزان يغلب عليهما طابع التجارة هما: يثرب التي سميت المدينة فيما بعد، ومكة إلى الجنوب منها، وكانت تحكم مكة حكومة قلة قواما التجار.
وكانت تفد عليها في أيام الأسواق والمواسم الدينية أفواج العرب من جميع أنحاء الجزيرة، فلم يكن في وسط الجزيرة رقعة تضارع مكة مركزًا لاجتماع القبائل واختلافها بعضها ببعض2.
من هنا يتبين لنا أن المنطقة العربية تعرضت لتيارات؛ من الرومان تارة، والفرس أخرى، وبيزنطة الثالثة الأخيرة، وفي هذا ما ينفي القول القائل: إن العرب كانوا في عزلة عن التاريخ، ويثبت لنا: أن المنطقة شهدت حضارات تعاقبت عليها، وشاركت في أحداثها السياسية، والاقتصادية ومظاهرها الاجتماعية، أيضا؛ غير أن هذه التأثيرات بتياراتها لم تستطع أن تلغي شخصيتها العربية، إنما كانت طلاء ظاهرا لم يلبث أن انجلى عنها؛ أما لماذا انجلى عنها؟ فسوف نعرض له.
1 مقدمة من تاريخ الحضارات القديمة، طه باقرص 611 منشورات دار البيان.
2 يراجع الحضارات السامية القديمة ص204.
وبعدما كانوا يرون أن العرب حجزهم التاريخ عن حضارته، أصبحوا يرون من خلال ما استجد أمامهم من وثائق تاريخية وصلوا إليها عن طريق الحفائر والآثار أن المنطقة تعرضت للتيارات المختلفة: من غزو يوناني، إلى روماني، إلى فارسي، إلى بيزنطي، وبالتالي "أصبحت قادرة على العطاء، وأصبح الإسلام -في نظرهم- هو ثمرة هذا العطاء"، وتلك قصة سنعرض لها فيما بعد.
وأصبح الإسلام يتكون -في نظره- من عدة تراثات:
- التراث الهلنيسني: أي التراث الشرقي الغربي الذي ألفت بينه مدرسة الإسكندرية حاضرة البحر المتوسط.
- التراث الديني: العبري: اليهودي والمسيحي.
نبدأ بالتراث الهليني وموقف الشرق منه.
مراكز الثقافة الهللينسية:
لقد عرضنا للأحداث السياسية التي تعرض لها المنطقة العربية والدويلات التي قامت بها على أزمان متعاقبة من التاريخ وكيف كانت تحتويها إحدى الدولتين العالميتين حينذاك؛ إما الفرس أو الروم.
وكان الهدف الذي كانت ترمي إليه الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية هو العمل على الحيلولة دون قيام أي نظام سياسي قوي في الشرق يخشى أن يكون خطرا على إحدى الدولتين، وكلما زادت القلاقل والمتاعب في الشرق كان هذا أفضل لصالحها، وكلما تضاعف عدد الدول المستقلة كان هذا أجدى وأنفع لرومة، وكلما زادت الابتكارات وتعقدت الأمور في الشئون الداخلية لكل دولة من دول الشرق تضاعف أمل كل من الإمبراطوريتين في أن تصبح سيدة الموقف والقوة المتحكمة في مصير الشرق بأسره1.
وإن أهم ما يقال عن هذه الدويلات من حيث مظهرها السياسي: أنها كانت دويلات تزدهر بازدهار مرفئها التجاري، وتندثر باندثاره، وكانت ترى تبعيتها لإحدى
1 تاريخ الدولة الرومانية الاجتماعي والاقتصادي "1: 24" تأليف م رستوفتزف ترجمة: زكي علي، محمد سليم سالم. مكتبة: النهضة المصرية.
الدولتين ولاء سياسيًّا واجبًا، وكان هذا الولاء يتغير من حين لآخر، وعامل التغير الأساسي في ذلك: هو الظروف الدولية للدولتين الكبيرتين، وأما هذه الدويلات فعليها أن تشكل ظروفها تبعا لهذا التغير دون إعلان رغبتها في شكل التبعية.
وترتب على ذلك -من وجهة نظرنا- أن أصبحت ميول هذه الدويلات العربية مرتبطة يميول الإمبراطور الشرقي، أو الروماني، وبدلا من أن يكون الولاء للوطن أصبح الولاء للإمبراطور، وفي هذا ما جعل الأسر الحاكمة لهذه الدويلات تسعى -نفاقًا سياسيا منها- إلى التشبث بمظاهر حضارية ذات غشاء رقيق، لم يلبث أن تكشف عن بداوة وسعي إلى حياة الترف بشتى أشكاله وألوانه وصنوفه.
وفي هذا ما صرفها عن دراسة مكوناتها الحضارية، وعن إبراز عوامل شخصيتها الإنسانية، وعن الدعوة إلى توظيف لغتها، ورفع أدبها، ومناقشة قضايا وطنها والبحث عن حرياتها الإنسانية، وحريتها في العلاقات السياسية.
لذلك كنا نراها دويلات متعاقبة في سلسلة التاريخ الإنساني، تظهر "دولة البتراء" ثم تغيب مع غياب الأسرة التي حكمت، فإذا ما أخطأت سبيل ترضية الإمبراطور، كان عليه أن يغطي عليها، دون أن يغيب نجم الإمبراطور السياسي، ولأول مرة رأينا دويلات تنتحر انتحارا سياسيا نتيجة القلق السياسي الذي انتابها.
ثم تظهر دولة "تدمر"؛ لتعيد التاريخ نفسه والأسلوب نفسه ويقضَى عليها بالوسيلة السابقة نفسها.
إلى أن جاء الإسلام فاحتوى الدولتين العالميتين: سياسيا، وفكريا، ودينيا، وشفى ما بهما من علل القلق السياسي، وكان الإسلام بما أحدثه من تغيرات، على المستوى العالمي قد أظهر بمبادئه الرفيعة حقيقة الإنسان عندما ضل عن فهمها من خلال ما حوله من أفكار دينية ماجت بها منطقته، فنلاحظ أنه كان في المنطقة تغييرات سياسية، ولكن غير محددة من الوجهة السياسية. فتارة إلى الشرق وتارة أخرى إلى الغرب، فإذا نادت دولة الشرق الكبرى فارس بثقلها على هذه الدويلات تغير
مجرى علاقاتها إلى الرومان وهكذا، فهناك حقيقة تغييرات سياسية طرأت على المنطقة غير ثابتة الهدف السياسي، والوجهة الحضارية، ويضاعف ذلك عدم وعي الأسرات التي حكمت فيها بهدفيها السياسي، والحضاري، وذلك مما عجل بانتحارها السياسي.
وحال العرب اليوم مثله بالأمس، دويلات ظهرت في المنطقة العربية وازدهرت لعامل اقتصادي لا دخل للعبقرية العربية فيه، وسيطرت عليه، إحدى الدولتين العالميتين، فظهرت المنطقة بمظهر حضاري غربي، ورجع العربي من غير أن يدري إلى بداوته، فكره العمل، وبات على ذلك منعم البال بثرائه المادي، فشلَّ بذلك من عبقريته، ومن تفهمه لمستوى حضارته، وكذلك أسرات حاكمة يرى فيها أنها مسئولة عن توجيهه لما تحب وترضى، فمفهوم التعاون العربي نراه لا يخرج عن معناه القبلي: وهو الأسرة لا الوطن وهو الأحق بالرعاية والتقديس.
وفي ذلك ما يشير إلى مستقبلها إن ظلت على هذا الحال كلقمة طيبة المذاق يعفها الذوق عندما يتغير مذاقها أو يتغير مذاقه على حد سواء، لذلك كان على العربي أن يبحث عن شخصيته وأصالته، وأن يرصد أموال البترول لصالح رعاية السلوك الحضاري النابع حقيقة من الإسلام، وعليه يتحدد مظهرنا الحضاري اللائق بعبقريتنا ومنهجنا الإسلامي.
وإن وضعنا -عربا ومسلمين- في حضارتنا الحديثة لمؤسف؛ إذ ما زلنا بعيدين عن المشاركة في بناء الحضارة، وإن ما يبدو علينا من مظاهر هو مظهر استهلاكي لا بنائي، وفي ذلك تدهور وتدلٍّ، والعربي -تاريخيا- محسود حينما حباه الله برسالة الإسلام -وحْيًا مقدسًا- لا مظهر لعبقرية العربية في تأليفه، وهو العامل الجوهري للحضارة الإنسانية، وحينما منحته أرضه -وستمنحه- بترولها وهو عامل جوهري في قوة الحضارة المادية -لم يكن فيه مظهر للعبقرية العربية إنما هو منحة إلهية أيضا.
وفي كلتا الحالتين: استحق العربي دوره التاريخي والحضاري لكن هل قام بعبء هذا الدور، إنه ما زال يتسول التكنولوجيا من الغرب!!
ولنرجع إلى حديثنا عن المدارس الهلينستية التي انتشرت في المنطقة فنقول:
ما عرضناه كان مقصورًا على الجانب السياسي فقط، ترى هل يكون ثمة تغيير من الناحية الثقافية؟ أو بمعنى آخر: هل اطردت الحياة الثقافية غير متأثرة بالتغيير السياسي؟
ولكي نجيب عن هذا السؤال: نقدم بين يديه شيئا عن المراكز الثقافة الهلينية في المنطقة العربية، ولون الثقافة التي غزت هذه المنطقة، ونلاحظ من مقتضى الأحداث السياسية أن الشرق أصبح -والمنطقة العربية فيه- خاضعًا إلى حد كبير للنفوذ الثقافي الإغريقيين، وكما نشأت عواصم سياسية نشأت أيضا بجانبها عواصم ثقافية.
يقول م. رستوفتزف:
ويمكن أن نصف المظهر الذي كان عليه العالم القديم قبل نشوب الحروب الأهلية في رومة وإيطالية على الوجه الآتي: ففي أثناء المدة التي يطلق عليها اسم العصر الهلينستي أخذ مركز الحضارة في التحول تدريجيًّا من الغرب إلى الشرق، فحلت الإسكندرية في وادي النيل وأنطاكية على نهر العاصي وفرغانة على نهر كيكوس Caicus محل أثينا في الصدارة والأسبقية في المدنية"1، وكان من أولى العواصم الثقافية مدرسة الشرق الكبرى.
مدرسة الإسكندرية -حاضرة البحر- نظام فلسفي جديد:
وكما هو واضح من اسمها، أنها تحمل اسم ذلك الفتى الإغريقي بانيها ومؤسسها، الذي خضعت لنفوذ الدنيا، وهو لما يزل في عقده الثالث ذلك هو: الإسكندر الأكبر، الذي أسسها سنة 323ق. م وقد ظل اسمه عليها إلى الآن.
وقد أنشأ خلفاؤه من بعده -فيها: أكاديمية يونانية تناظر بزهوها العلمي المدارس الأثينية، بل وتتفوق عليها؛ لما احتوت عليه من تراث يوناني،
1 يراجع تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي "1: 16"م ستوفتزف. ترجمة ومراجعة: زكي علي، محمد سليم سالم. مكتبة النهضة العربية.
وأصبحت موئلا للعلماء والمفكرين الذين وقع عليهم الاضطهاد، ولا سيما بعد ما أغلقت أثينا فانتقلت إلى الإسكندرية بتراثها وفلاسفتها، مع اهتمام حكماء مصر بها أيضًا، فانتقلوا من معابدهم إليها لما لقيته من حفاوة وتقدير، استطاعت بهما أن تكون وريثة عين شمس ووريثة أثينا الحضاري بين الحضارتين: الإغريقية والسامية الذي بدأه الإسكندر المقدوني بفتوحاته، عن نشوء حضارة جديدة تعرف بالحضارة الهلينستية تقابلها الحضارة الهلينية والإغريقية الخالصة، وأصبحت الهلينستية الحضارة التي تميزت بها بلدان الشرق الأدنى في القرون الثلاثة التي سبقت المسيحية وبعدها، ومن هنا جمعت بين خصائص الثقافة الشرقية، وخصائص الثقافة الإغريقية، وأصبح من الصعب أن يحتفظ الفكر اليوناني بخصائصه، أو أصالته، كذلك أصبح الفكر الشرقي يميل إلى الاندماج في الطابع الهليني، والهليني في الشرقي، وبذلك أصبح فكرها عالميًّا، ومع ذلك فالمحيط اليوناني في الإسكندري فقد الأصالة التي كان يتميز بها الفكر الأثيني، واتخذ طابعًا عالميًّا وظهر فيه ميل ظاهر نحو الفكر الشرقي، وعلى الرغم مما كانت تدعيه الثقافة اليونانية القديمة من الأصالة لم تكن خالية تمامًا من المؤثرات الشرقية، ويمكن أن نرجع الكثير من مظاهر الحياة والفكر اليونانيين إلى أصول مصرية وبابلية، هذا وينبغي أن نلاحظ أنه: على الرغم من أن الإسكندرية كانت ذات أثر بارز جدًّا في تحول الفكر اليوناني في العصر المتأخر، لم يكن مثل هذا التحول وقفا عليها، ولم يكن محليا، بل لم يكن قوميًّا أيضًا، وإنما كان تحولًا عالميًّا.
وقال أوليري: إن الحياة اليونانية العالمية الجديدة التي ازدهرت بعد عهد الإسكندر كانت جوانب متعددة أنتجت نوعًا من الأدب خاصًّا بها، وأخرجت نقدا أدبيا، وسارت قدما بالفلسفة منتهجة في أكثر الأحيان سبلا جديدة، كما أنتجت بحوثا جديدة في الطب، والفلك، والرياضيات والفروع الأخرى من العلم، فكل هذه متداخل بعضها في بعض؛ لأنها كلها ذات منزع متماثل، وكلها تتحول تحولًا طبيعيًّا من ثقافة اليونان القديمة.
وفي النهاية يكفي القول: أنها ألفت بين التراثين، وأصبح ما يعرف في تاريخ الفكر الفلسفي: بالهلينستية يرجع إلى نشاطها العلمي تاريخا واصطلاحا.