الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: الصابئة والمجوسية
تاريخ الصابئة وجغرافيتها الفكرية
مدخل
…
الباب الرابع: الصابئة والمجوسية
تاريخ الصابئة وجغرافيتها الفكرية:
من الملل والنحل التي تحدث عنها القرآن -وهو يذكر الأديان والملل: الصابئة، والصابئة من الملل التي أثار القرآن بعض قضاياها، وعرض لها بالنقاش والجدل في أكثر من موضع، وكان من أهمها:"بشرية الرسول".
كذلك عرض لها حين عرض لمقابلها وهو الحنيفية ملة إبراهيم الكبرى كما وصفها القرآن، فالصبوة -كما يذكر المؤرخون للأديان- في مقابلة الحنيفية1.
فمن الناحية التاريخية: نجد أن الصابئة سابقة على الحنيفية التي جاءت مجادلة ومناقضة لها.
يقول الشهرستاني:
وكانت الفرق في زمان إبراهيم راجعة إلى صنفين اثنين:
- الصابئة.
- الحنفاء.
فإن كان هذا النص يفيد: أن الفرقتين متساويتان في النشأة التاريخية، فنرى أن هناك من النصوص التي ذكرها الشهرستاني: ما تصرح بأسبقية الفكر الصابئي على الدين الحنفي، وذلك حينما ردَّ فكره -بتصريحهم- إلى "عاذيمون" و"هرمس"، ورد الحنيفية إلى رأس الحنفاء "إبراهيم"2.
والصابئة كذلك أقدم من المجوسية، التي ترتد في نشاطها إلى "زرادشت"3 الذي ظهر في ملك "بختنصر" الذي جاء بعد "النيروز" بكثير وهو الذي أرسل إليه نبي الله إبراهيم على بعض الروايات التاريخية.
ومن هنا كانت الصابئة من أقدم المذاهب فكرًا.
1 الملل والنحل "1: 6" للشهرستاني المتوفى 548 هـ تخريج د/ محمد بن فتح الله بدران، الأنجلو جـ1، 2 وفتح الباري لابن حجر المتوفى سنة 181 جـ10. عن أبي بكر الرازي قال: وهم الذين بعث إليهم إبراهيم. والينسابوري في تفسيره على هامش الطبري المسمى غرائب القرآن ورغائب الفرقان ص301 قال: الذين جاءهم إبراهيم.
2 الشهرستاني ص "1: 10".
3 مروج الذهب للمسعودي "1: 171" المتوفى سنة 346 دار الشعب.
يروي الطبري: أنهم كانوا بجزيرة "الموصل"1 ويؤكد هذا النقل المسعودي فيقول: وديارهم بين بلد واسط والبصرة من أرض العراق2.
ويقرر ابن حجر أن أهل بابل كانوا قوما صابئين3.
ويقول النيسابوري: وينسب هذا المذهب إلى الكلدانيين4، ويتوسع الشهرستاني فيجعلهم يشملون النبط، والفرس، والروم، والهند5.
فهذا المذهب كان واسع الانتشار الجغرافي، وأمته من الأمم الكبار. وقد اختلف فيه اختلافا كثيرا بحسب ما وصل إليهم من معرفة عن هذا المذهب. ويفيد نقل الشهرستاني: أنه شمل دولا من الشرق، ودولا من الغرب.
والنقول السابقة -عدا توسع الشهرستاني- تفيد أن هذا المذهب نشأ في بلاد شرقية، وكانت الدول التي تميزت وتفردت بالسيادة في الشرق هي دولة الفرس.
ودولة الفرس: هي التي حكمت تلك المناطق الجغرافية التي ذكرها الرواة تارة، وحكمتها الدولة الرومانية تارة أخرى.
فالفرس أخذوا الملك من البابليين، كذلك والعراق كانت تحكم حت حكم ملوك دولتي الفرس الأولى والثانية.
ويقول المسعودي: إن أنهار العراق احتفرت في عهدهم آخذة من الفرات6، فيكون أول الصابئة ظهر في إحدى ولايات دولة الفرس.
ثم يتابع ويقول: ظهر في ملك "طهمورث" -من ملوك دولة الفرس الأولى- رجل وفد من الهند، يقال له:"بوداسف" وأحدث مذاهب الصابئة7.
1 جامع البيان في تفسير القرآن للطبري "1: 310/ 352" الأميرية.
2 مروج الذهب الصفحة نفسها.
3 فتح الباري "10: 181".
4 في تفسيره السابق "1: 403".
5 الملل والنحل "1: 210".
6 مروج الذهب "1: 165".
7 نفس المرجع "1: 188".
ويقال إن هذا الرجل كان أول من أظهر آراء الصابئة من الحرنانيين والكيماريين.
وهذا النوع من الصابئة مباين للحرنانيين في نحلتهم القديمة.
وكلام المسعودي يفيد أن نشأتها الأولى كانت في حران، وما ينسب لبوداسف هو أنه أظهر آراءهم القديمة، ويرجع ظهور نشاطها بين ملوك فارس الأولى لميولهم الدينية وقد ورد في وصايا أردشير لابنه سابور:
يا بني: إن الدين والملك أخوان، ولا غنى لواحد منهما عن صاحبه، فالدين أس الملك، والملك حارسه، وما لم يكن له أس: فمهدوم، وما لم يكن له حارس: فضائع.
كذلك من ينظر في موضوعات عبادتها: يجد بينها وبين اهتمامات الدولة الفارسية شبهًا كبيرًا، فالمسعودي تحدث عن أعمال ملوك فارس الأولى قائلا:
وتكلم هؤلاء القوم في مراتب الألوان: من الحمرة، والسواد، ومراتب الأنوار، وما وراء ذلك من أسرار الطبيعة.
ثم قال: وتغلغل القوم في هذه المعاني: إلى ما علا من الأجسام السماوية من النيرين والأفلاك واختلافها في ألوانها وإلى غير ذلك من الأشخاص العلوية.
وهذا التسطيح الفكري قابل لأن يجعل منه "بوداسف" مظاهر العبادة فيقول: إن معالي الشرف الكامل، والصلاح الشامل، ومعدن الحياة في هذا السقف المرفوع، وفي النجوم السيارة، وفي أفلاكها: التدبير الأكبر1.
وفي المناظرة التي أوردها الشهرستاني في كتاب "الملل والنحل" ما يفيد أن صاحبها الأول "هرمس"، "وعاذيمون" لكن بعد انتهاء المناظرة استبعد2 الشهرستاني أن يكون "هرمس" من الصابئة.
1 المرجع نفسه "1: 69".
2 يقول: وكان في الخاطر بعد: زوايان نريد نمليهان وفي القلم خفايا أكاد أخفيها، فعدلت عنها إلى ذكر "حكم هرمس العظيمن لا على أنه من جمبلة فرق الصابة، حاشاه، على أن حكمته تدل على تقرير مذهب الحنفاء""2: 46".
وربما يقصد الشهرستاني من نفيه عن "هرمس": أن يكون من الصابئة ذلك النوع الذي نص عليه المسعودي -وهو متقدم على الشهرستاني- الذي ينسبه إلى "بوداسف" الهندي الذي أظهر نوعًا معينًا من "الصابئة" هذا النوع من الكيماريين.
ويبدو أن "بوداسف" الهندي أظهر نوعا معينا من الصابئة "هذا النوع من الصابئة مباين للحرنانيين في نحلتهم" كما يروى المسعودي.
وفي نظرنا: يمكن أن ينصرف استبعاد الشهرستاني لـ "هرمس" أن يكون من الصابئة إلى هذا النوع الذي أظهره "بوداسف" وهذا النوع الذي أظهره هو الخاص بعبادة الكواكب.
ويؤكد احتمالنا ما رواه ابن النديم عن الكندى من أنه قال: إنه نظر في كتاب يقربه هؤلاء القوم: وهو مقالات لـ "هرمس" في التوحيد كتبها لابنه على غاية من التقائه في التوحيد -لا يجد الفيلسوف إذا اتعب نفسه مندوحة عنها وعن القول بها1.
فهرمس يعتبر مؤسس مذهب التوحيد: في الصابئة و"بوداسف" أحدث الوثنية: في التوحيد.
وعلى ذلك يكون "هرمس" و"عاذيمون" أوجدا الصابئة الأولى؛ التي تدعو إلى الروحانية، و"بوداسف" أحدث مذهب عبادة الكواكب، وذلك ما تقرره مصادر الإسلاميين2.
وسواء أكان المراد هو الصابئة الأولى -تعبير الشهرستاني- أم صابئة بوداسف تعبير المسعودي، فإنهما معا نبت فكرهما في الشرق في بعض المناطق العربية من بلاد الرافدين.
يقول صاحب "بلوغ الأرب"3: والصابئة قوم إبراهيم، كانوا بحران فهي دار الصابئة الأولى وكانوا قسمين هما:
1 الفهرست لابن النديم المتوفى 385 هـ ص445 المكتب التجاري.
2 يقول ابن حجر في فتح الباري "1: 37" رواية عن غيره: هم منسوبون إلى صابي بن متوشلخ عم نوح، وهذا رأي ثالث يذهب بها بعيدا إلى نوح.
3 بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب "2: 24" السيد محمود شكري الألوسي البغدادي سنة 127، عني بنشره محمد بهجة الأثرى سنة 1942.