الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: العرب وروافد الفكر الديني
العلاقات التجارية والدبلوماسية:
لم يكن العرب قبل الإسلام في عزلة عما حولهم: فكريًّا او اجتماعيًّا، أو اقتصاديًّا، وليس ثمة داعٍ لها، فلم يؤثر تاريخي، أنه ضرب عليهم سور يعوق من حركات الدخول في الجزيرة العربية أو الخروج منها، وليست الجزيرة العربية بالأرض الخصبة، التي تكفل لقاطنيها وفرة في العيش، وخصوبة في الرزق حتى يكره العربي في حبها السعي عن تحصيل ضرورات عيشه، وإنما كانت طبيعتها قاسية جافة، وأرضها جرداء مقفرة، ترغم أهلها أن يضربوا بإبلهم في أفناء الأرض شهورًا؛ ليصيبوا منها أقواتهم، وضرورات عيشهم، ونرى في القرآن الكريم تسجيلًا لهذه الرحلات في سورة كاملة -سورة قريش- قال تعالى:
هذا من ناحية حركات الخروج منها.
أما من ناحية حركات دخول الناس فيها -أي الجزيرة العربية- فله من الدواعي العدد الكثير:
ففيها الكعبة: وهي من البيوت السبعة القديمة مما يجذب إليها الرائي أو السائح للتعرف عليها، وهناك روايات تاريخية تذكر أن الفرس قصدوها كثيرا1.
كما دخلها جيش أبرهة الحبشي2، ورحل إليها قديمًا نبي الله إبراهيم، وأقام ابنه إسماعيل فيها وجددا معا بناء الكعبة وأسسا حولها دين التوحيد.
1 يراجع المسعودي -مروج الذهب "1: 188" قال: وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام، وتطوف به تعظيما له ولجدها إبراهيم.
2 وكتب غير واحد من اليونانيين المؤرخين: أن أبرهة زحف على مكة في مركب يجرها أربعة من الفيلة وأن جيشه لم يعد منه إلا القليل لكثرة من مات منه بالوباء. "أبو الأنبياء: العقاد"، كما لجأ إليها النساطرة وأصحاب الطبيعة الواحدة وكلا المذهبين اضطهدا سياسيا، ودينيا.
يذكر القرآن ذلك فيقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وهي وإن كانت من حيث طبيعة جوها لا يطمع فيها طامع، تعد بمعزل عن أطماع السياسيين، وأصبحت بذلك كأنها منطقة حيادية، ولهذا السبب -وهو عزلتها- رغب فيها اللاجئون السياسيون الذين وقعوا فريسة للاضطهاد السياسي، أو الديني، فكانوا يفزعون إليها؛ لأنهم يجدون فيها الملجأ الآمن المطمئن، وكذلك جاليات اليهود، والنفر من النصارى، الذين ما دخلوا تلك البلاد إلا فرارا من حملات الاضطهاد الروماني التي وقعت عليهم.
لذلك لم يكن بعيدا علينا أن نجد فيها -كما ذكر القرآن- بعضا من اليهود والنصارى، والمجوس، والصابئين، والذين أشركوا، ونجد فيها: الأصنام، والأوثان، ومصطلحات دينية غير عربية مثل: الجبت، والطاغوت.
ومعلوم أن اليهودية لم تنشأ فيها، ولا النصرانية، ولا المجوسية، ولا الصابئة، ولكنها وفدت إليها تحت قسوة الاضطهاد السياسي أو الديني.
وسنعرض بالتفصيل لتلك الأديان والمذاهب فيما بعد.
كل هذا وغيره يعطينا أن العربي لم يكن في عزلة عما حوله، سواء من ناحيته؛ لأنه خرج منها متاجرا، أو من غيره فلم يكن في عزلة عنها؛ إذ وجدنا من يمم وجهه شطرها.
ومن العوامل الأساسية في التوسع ودعم النفوذ الروماني وتوطيده في الشرق أمور كان قوامها:
- الدبلوماسية.
- والتجارة.
ولكنها كانت مؤيدة بقوات حربية عظيمة، ونشاط حربي مضنٍ، وفي مصر وفي بلاد العرب وشمال إفريقية اتبعت هذه السياسة بعينها.
فالبلاد العربية جرى فيها حركات حربية وتجارية ودبلوماسية.
ويرى م -رستوفتزف: أن الدبلوماسية والتجارة هما من أسس التوسع الروماني في بلاد العرب. وهذا معناه -في نظرنا- أن العربي كان له اعتباره الفكري منذ القدم.
ويقول: ولم تكلل حملة إبليوس جالوس على بلاد العرب بالنجاح التام، ولكنها على أي حال ضمنت للتجار الرومان الحصول على مرافئ آمنة وهم في رحلتهم من مصر إلى موانئ الهند.
ويقول: وكان التجار من الأعراب يقومون بدور الوسيط بين التجار المصريين وزملائهم في الهند، وكانت هذه التجارة إلى حد كبير تقوم على الكماليات1.
وليس الأمر بحثا في دوافع الخروج، أو الدخول فيها فحسب، بل يرى علماء التاريخ: أن شبه الجزيرة العربية هي أصل الهجرات السامية لتلك المنطقة2.
وحجتهم في ذلك أنها بلاد صحراوية، يحيط بها البحر من ثلاث جهات، لذلك كان السكان عندما يزيد عددهم عن قدرة الأرض المأهولة الضيقة عن إعالتهم يميلون إلى البحث عن مجال حيوي، فيجدونه فقط في الأراضي الشمالية الخصبة التي تجاورهم.
ويؤدي ذلك إلى الحجة الاقتصادية التي تقول: إن أهل الجزيرة الرحل كانوا دوما يعيشون على ما يقرب من الجوع، وإن الهلال الخصيب كان أقرب مكان يزودهم بما يحتاجون إليه.
يقول سبتينومو سكاني3:
"فالساميون يظهرون في أقدم المصادر على أنهم بدو صحراء العرب يدفعون بأنفسهم دائما إلى الخارج، ويتغلغلون في المناطق المحيطة، ويوطدون أقدامهم فيها فهناك:
- الأكاديون الذين نراهم في أرض الرافدين في الألف الثالثة قبل الميلاد.
1 تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعية والاقتصادية، صفحات 92، 145.
2 العرب واليهود والتاريخ "1: 189" د/ أحمد سوسه، وتاريخ سورية: فيليب حتى جـ1 وقصة الحضارة "2: 264".
3 يراجع كتابه في الحضارة السامية ص225.
- ثم الأموريون الذين أسسوا في بداية الألف الثانية سلسلة من الدول في فلسطين وسورية وأرض الرافدين.
- ثم العبريون والآراميون الذين جاءوا بعد ذلك بقرون قليلة؛ ليسدوا الفراغ التاريخي الذي خلفه انسحاب "شعوب البحر" في فلسطين وسورية.
ثم العرب الذين خرجوا من صحرائهم بعد ذلك بعدة قرون في حركة فتح عظيمة نقلتهم إلى أقصى البقاع، وهؤلاء جميعًا ليسوا سوى أسماء مختارة برزت في الحركة المستمرة التي كانت في كثير من الأحيان خفية مجهولة الأبطال، والتي وجهت ودفعت سير الأحداث في الشرق الأدنى.
ثم يقول: ولم يكن بد من أن يتنقل البدو ومعهم آثار أحوالهم الأولى، ومن هنا كان بحثنا في النظام الاجتماعي القديم لصحراء العرب عن الخطوط التقريبية.
وحاولنا أن نقوِّم على وجه التقريب أيضًا الصور السياسية للشعوب المختلفة في معتقداتها وطقوسها وفي قوانينها بل في فنها أيضًا، وليس التراث البدوي لتلك الشعوب كافيا وحده لتغيير ذلك الطور وهو العنصر الذي وصفناه بأنه سام.
ويضيف نتنج قوله1:
"المحاولات الناضجة في القرن التاسع عشر في فك رموز الكتابات التي تعود إلى العصر السابق على ظهور المسيحية كشفت عن تشابه بين لغات البابليين والأشوريين والآراميين والكلدانيين والفينيقيين والعموريين والعبرانيين والعرب والأحباش، وهو تشابه لافت للنظر بحيث يوحي بأن هؤلاء الناس جميعا لا بد أنهم ينبثقون من الأصول نفسها".
ومن هذا ثبت أن أسلافهم المشتركين كانوا العرب الأصليين -أو الساميين من قبيلة سام- إذ إن اسم "عربي" هو التعبير السامي عن ساكن الصحراء- وأن
1 ترجمة: دكتور السيد يعقوب بكر.
مراجعة: دكتور محمد القصاص.
ص5 العرب نتنج ترجمة د. راشد البراوي. الأنجلو.
أول استيطان للعرب على نطاق شامل إنما كان في اليمن على عهد مملكة مأرب وهي الجيل الخامس من نسل سام.
وقد تأيدت الفروض بشواهد تاريخية منها:
- القرابة اللغوية بين الشعوب التي تتكلم اللغات السامية.
- عقائدهم الدينية.
- مؤسساتهم الاجتماعية.
هذا فضلًا عن خصائص أخرى نضرب صفحًا عنها.
وهذا التشابه جعل من السهل استنتاج: أن الأسلاف الذين تكلموا البابلية والأشورية والأمورية، والكنعانية، والعبرية، والآرامية، والعربية والحبشية، كانوا غالبا يشكلون جماعة واحدة في الأصل. لعوامل: سياسية واقتصاديةن ومع التاريخ، حصل بينهم خلافات، وكان من آخر الهجرات القديمة حوالي 500ق. م. هجرة الأنباط إلى شمال شرقي جزيرة سيناء؛ حيث كانت عاصمتهم البتراء. هذا عدا هجرات الفتح الإسلامي، وهذه الهجرات الأخيرة هي الحجة التاريخية التي يؤيد بها أصحابها نظريتهم التي تجعل من شبه جزيرة العرب المواطن الأصلي للساميين، ويضيفون إلى ذلك حجة لغوية مؤداها: أن اللغة العربية قد احتفظت في نواحٍ كثيرة بأشد تشابه باللغة السامية الأم التي كانت جميع اللغات السامية من لهجاتها.
وكذلك لديهم حجة سيكولوجية: ترى أن سكان شبه جزيرة العرب وبخاصة سكان البادية قد احتفظوا بأنقى الصفات السامية.
ومما نحب أن نشير إليه أن عقائدهم الدينية كانت تقوم على عبادة الطبيعة في شكلها البدائي، وكانت هذه العبادة شائعة بين الرحل من بادية الشام وبلاد العرب، وكان يوجد بجانب إله القبيلة إله أعظم يطلق عليه: هبل أو بعل أو اللات.
وكانت اللات أو هبل الآلهة الرئيسية في الجزيرة العربية.
فدعوى أن العرب حجزهم عن العالم القديم وثقافته عُزْلتهم عنه -غير واردة، ولا تثبت أمام التاريخ الحديث الذي أصبح يتكلم عن العرب ودورهم في التاريخ القديم، من خلال علوم الحفائر والنقوش التاريخية القديمة، ومما ينبغي أن يقال: إن
ما يستكشفونه من حفائر تاريخية في تلك المنطقة، يعطي ما أشار إليه القرآن الكريم، وهو عدم عزلتهم، وما تعاقب في المنطقة العربية على حقب متتالية في التاريخ من مراكز حضارية عربية يشهد بذلك فضلا عن المركز الديني الثابت وتلك المراكز هي:
- مكة: عاصمة دينية قديمة، تقع في وسط الحجاز.
- البتراء عاصمة دولة تجارية عربية، ورئيسها عربي، وكانت في الجنوب.
- تدمر عاصمة تجارية عربية، ورئيسها عربي في الشمال.
- بصرى: عاصمة دولة الغساسنة، وهي عاصمة تجارية عربية ورئيسها عربي، وتقع بين "البتراء" و"تدمر".
ويجمع بين هذه الدول الثلاث بعض المظاهر العامة وفق تاريخها المتعاقب من حيث:
- أصلها: الذي يرجع إلى تحضير القبائل البدوية أو المتنقلة.
- وازدهارها: الذي يرجع إلى تجارة المرور.
- وقد تحالفت كل منها مع إحدى الدولتين العظيمتين لبعض الوقت باعتبارها دولة حاجزة بين تينك الدولتين العالميتين وهما: فارس والروم، وتلقت المساعدات منهما.
- ونهاية كل منها كانت على يد إحدى الدولتين.
فرومة قضت على الدولتين: الدولة النبطية، والدولة التدمرية "الزباء"، وقضت فارس وبيزنطة على دولة الغساسنة.
وأنها جميعا كانت وسائل جيدة للتزاوج بين حضارات الغرب: رومة، واليونان، وبين حضارات الشرق: فارس والهند وبيزنطة، فنقلت من الهند إلى الغرب ونقلت من الهلينية، وكانت مع مرفئها التجاري عاملا مهما في ظهور التراث الهلينستي، وظهرت مدارس اشتغلت بالفكر الشرقي والهليني في ربوع تلك الدول منها:
- مدرسة أنطاكية.
- مدرسة نصيبين.
- مدرسة الرها.
- المدائن.