الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: الشرق السامي وحدة حضارية ودينية
مدخل
…
الباب الأول: الشرق السامي وحدة حضارية ودينية
مفهوم الشرق وأهمية دراسته:
إن التصورات حول انقسام المعمورة إلى غرب وشرق، قد تشكلت -على ما يبدو- في غزو الإسكندر للشرق، ثم أخذت تظهر مع عصر الحروب اليونانية- الفارسية، وبدأ الصراع يزداد مع الصراع الثقافي، وسيطرت على العقل اليوناني فكرة تصارع الهلينية والبابرة: الغرب والشرق، ثم أخذ الصراع بينهما يزداد في الاهتمام بتغير الفروق الحضارية من خلال الاختلافات الجغرافية والظروف الاجتماعية والتاريخية والثقافية. ومع تطور البحوث عن الشرق القديم ازدادت الحاجة إلى تحديد مفهوم الشرق في صيغة دقيقة متعارف عليها جغرافيا ويكون مفهوما تاريخيا حضاريا، وذلك في إطار قضية أوسع، وهي قضشية العلاقات بين الشرق والغرب.
ولم يكن مفهوم الشرق في تصور العلماء المعاصرين قد تحدد جغرافيًّا ولا زمنيًّا بقدر ما هو مفهوم حضاري، ولم يكن بعدُ قد حصل على صيغة دقيقة متعارف عليها لدى المختصين بشئون الشرق القديم.
فمفهوم الشرق بالنسبة للرومان، يعني كل ما يقع شرق إيبريا ثم أصبحوا في عصر الإمبراطورية يقصدون: مصر والأقاليم الواقعة في آسيا الأمامية، وكذلك جزء من تراقيا، ثم انحصر المفهوم بسورية فقط، ثم بدأ يتحدد مع بداية القرن التاسع عشر والقرن العشرين حتى شمل المجتمعات القديمة كمصر، وبلاد ما بين النهرين، وفلسطين، وإيران، ثم توسعت نتيجة الاكتشافات الأثرية التي جرت، وأصبحت تضم هضبة الأناضول والجزيرة العربية، ثم مجتمعات الهند والصين؛ وذلك تبعا للظواهر الاجتماعية المتشابهة.
وإذا كانت عادة المؤرخين قد جرت على اعتبار أن التاريخ في المعنى الحقيقي للكلمة يبدأ بظهور النصوص الكتابية الأولى، أي في تخوم الألفين الرابع والثالث ق. م. وكل ما يسبق ذلك التاريخ قبل هذا الزمن فيطلق عليها ما قبل التاريخ، ولذلك فإن كل ما يتسنى معرفته حول هذه المرحلة يندرج اندراجا عضويا في نطاق تاريخ الشرق القديم.
وفي بدايات اللقاءات بين الشرق والغرب في العصر الحديث اصطلحت أوربا على تسمية الشرق القديم بالشرق الأدنى، وبصورة غير محددة على الجزء الجنوبي الغربي من آسيا المتاخمة لأوربا، ثم اقتبسته الولايات المتحدة وأضافت إلى رقعته بلدانا هي أقرب إلى الشرق الأقصى منها إلى الشرق الأدنى، وقد ظل هذا المصطلح الجغرافي -الشرق الأدنى- شائع الاسعمال حتى الحرب العالمية الثانية، وذلك كما يقول فيليب حتى: عندما أنشأت الحكومة البريطانية منطقة عسكرية تمتد من إيران إلى ليبيا وأطلقت عليها اسم الشرق الأوسط، وهو مصطلح كان حتى ذلك الحين يضم عادة الهند والبلدان المجاورة لها، ثم أنشئ بعد ذلك في القاهرة مركز تموين الشرق الأوسط، الذي أصبح فيما بعد مشروعا إنجلو أمريككانيا، وهكذا أصبح هذا المصطلح الجغرافي: الشرق الأوسط مصطلحا شائع الاستعمال، وتبرز أهمية دراسة الشرق الأوسط من عدة وجوه؛ من حيث موقعه الجغرافي: فهو يقع في المنطقة الذي يجعل منها مركزا للمواصلات الدولية التي تربط القارة الإفريقية بأوربا وآسيا.
- إنه مهد أعرق حضارة توصل فيها الإنسان إلى أقدم الاكتشافات وأعظمها خطورة، وأبعدها أثرا في تقدم الحضارة الإنسانية.
- وفيه أيضا نشأت ثلاث ديانات سماوية موحدة.
- وأنه منطقة تضم أقدم الوثائق التاريخية حول حياة الإنسان القديم وأطولها بقاء في الزمن.
لذلك خلف الشرق القديم للأجيال التالية تراثا غنيا من العلم والفن والأدب والفلسفة، وليس هناك رقعة جغرافية أخرى تناظره في حضارته توفر لنا سجلا حضاريا حرص الإنسان القديم على تدوينه؛ ليكون سجلا مطردا مثله استمر أكثر من خمسة آلاف سنة.
لذلك تذهب الدراسات التاريخية الحديثة إلى أن تاريخ الشرق القديم هو: أول فصل من تاريخ البشرية الحضاري لما له من فضل السبق الحضاري الديني، والثقافي.
كما أظهرت الدراسات التاريخية الحديثة أيضا أن لحضارات الشرق القديم أعظم التأثير على الحضارة الإغريقية الرومانية والحضارات العربية الإسلامية.
وليست دراسة الشرق القديم وليدة اليوم أو الأمس، فمنذ أن عرف الإنسان سبيله إلى كتابة التاريخ وظهر مؤرخون وحديثهم عن الشرق لا ينقطع، فقد تضمنت أعمال المؤرخين: اليونان والرومان القدماء معلومات قيمة حول تاريخ وحضارة وديانات المصريين القدماء والبابليين والفرس والهنود والعرب وشعوب أخرى، ولكن الدراسات العلمية الحديثة للشق القديم لم تبدأ في أوربا إلا عصر التنوير، وطوال القرن التاسع عشر بدأ العلماء يتجهون إلى أعمال البحث والتنقيب عن معالم الحضارات الدراسة فيما يظهر لهم من اللقى والآثار والنقود وما عليها من رموز كتابية، ويعكفون على فك ما يظهر لهم من كتابات حضارات الشرق القديم من الهيروغليفية، المصرية القديمة، والفارسية، والبابلية، والآرامية.
ولقد أحدثت البحوث، التي جرت في مصر وبلاد ما بين النهرين وإيران والجزيرة العربية، نجاحًا جديدًا في مجال دراسة حضارات الشرق القديم؛ إذ تطورت طرق وأساليب القيام بالحفريات الأثرية، وارتقى المستوى النظري للدراسات والبحوث المكتبية، وأصبح علماء الآثار والمؤرخون، وعلماء اللغة، يستعملون طرقا جديدة تماما لمعالجة المصادر الأثرية والتاريخية، ويستخدمون بصورة واسعة منجزات العلوم الطبيعية وغيرها مما أتاح لهم تناول المادة على نحو جديد، واستخلاص معلومات غزيرة من أدلة الماضي التي لم تؤخذ سابقا بعين الاعتبار إطلاقا؛ فإن علم النباتات القديمة -مثلا- يتيح استرجاع الظروف البيئية التي كانت تعيش فيا القبائل الزراعية الباكرة، كما أن استخدام الوسائل التكنيكية الحديث لدراسة الأدوات تطورت تبعا لدرجة رقة أطرافها القاطعة.
كذلك وتشكّل معطيات علم تاريخ اللغات أهمية فائقة بالنسبة لبحث بعض مراحل ما قبل التاريخ البشري، وهنا تجدر الإشارة بشكل خاص إلى بعض الفرضيات الهامة جدا التي طرحها العلماء السوفييت وإلى المشاريع التي يقومون بتحقيقها، وربما كانت أهم هذه الأعمال وأنجحها؛ البحوث المتعلقة بعلم اللغة التاريخي المقارن، وخاصة في مجال التشبيهات اللغوية البعيدة.
ومما تجدر الإشارة إليه: الإشارة إلى اكتشاف ما يسمى بمخطوطات البحر الميت في عداد أهم المكتشفات العلمية في القرن العشرين؛ ففي عام 1947 عثر الفتى البدوي محمد الديب من عشيرة "تعامره" على لفائف جلدية مليئة بمختلف الكتابات في إحدى مغارات الشاطئ الشمالي الغربي للبحر الميت في منطقة مقفرة بوادي قمران "الأردن" التي أسفرت عن اكتشاف 40 ألف قطعة من المخطوطات تمثل بقايا لحوالي 600 من المؤلفات المختلفة التي تتضمن الكتب المقدسة والأسفار والمؤلفات الدينية التي وضعها أفراد طائفة دينية سكنت في هذه الأماكن المعزولة في أواخر القرن الثاني ق. م. واصطلح على تسميتها حاليا بجماعة قمران، إن مقتطفات كتب التوراة المكتشفة في وادي قمران تتيح تتبع تاريخ النصوص المقدسة، وهذه الكتب أقدم بخمسمائة سنة تقريبا من المخطوطات المعروفة، وتفتح فصلا جديدا في ميدان نقد التوراة، إن المؤلفات الهامة لجماعة قمران: الميثاق، والوثيقة الدمشقية، ملف الحرب، والأناشيد وغيرها، تعبر عن أيديولوجية هذه الطائفة الدينية المعارضة لليهودية الرسمية وعن نظرتها الاجتماعية، ومبادئها التنظيمية، وكان مؤسس هذه الجماعة وزعيمها الروحي شخص مجهول الاسم لقب بالمعلم الصالح، وكان القمرانيون يعتقدون أن الإله أودعه الأسرار المجهولة حتى للأنبياء.
إن النظرات الثنوية والمهدوية والأخوية لجماعة قمران ومبادئهم الاجتماعية والتنظيمية قد مارست على ما يبدو تأثيرا كبيرا على تشكل الجماعات المسيحية المبكرة في القرن الأول الميلادي، من هنا كان اختراع الكتابة من أعظم منجزات العصر القديم، ولا يمكن المبالغة في تقدير أهمية هذا الاختراع، وكان القدماء أنفسهم يدركون هذه الحقيقة تمام الإدراك، فليس عبثًا أنهم اعتبروا الكتابة هبة من الآلهة فقد كان الإله طوط عند المصريين خالقا لفن الكتابة وراعيا له، وعند البابليين الإله نايو، وعند الهيليين الإله هرميس.
ولم تصبح الكتابة مجرد وسيلة لحفظ وتخزين المعلومات وأداة لمساعدة الذاكرة البشرية المحدودة الإمكانيات فحسب، بل غدت كذلك قوة فعالة وعاملا من أهم العوامل لتحويل حياة المجتمع وثقافته، ومن المعروف أن ممارسة الكتابة والقراءة تغير طابع تفكير الإنسان المرتبط بها، ومع ظهور الدولة والكتابة يفصل العصر القديم
عن العصور البدائية ويشير إلى فجر الحضارة وبداية تاريخ البشرية الحقيقي، وتعتبر كتابة ما بين النهرين أقدم كتابة في العالم، كما اكتشفت في مغارات الصحراء اليهودية بعض المخطوطات التي تعود إلى القرنين الأول والثاني الميلاديين والمدونة باللغات الآرامية والنبطية واليونانية، ونتيجة لأعمال التنقيب التي جرت خلال العامين 1952، 1953م في "ضربة مرد" وقعت في أيدي العلماء مخطوطات باللغتين السريانية واليونانية، وكذلك مخطوطات عربية تعود إلى القرون 4-8 الميلادية، ومقتطعات من المؤلفات الإنجيلية والأسفار الدينية والوثائق العملية، بل وحتى مقطع من مسرحية "يوريدبيدوس" اندروماخا -القرن السادس.
إن مخطوطات البحر الميت ذات أهمية عظيمة بالنسبة لفهم العمليات التاريخية المعقدة التي كانت تجري في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط في أواخر القرن الأول ق. م، ومطلع القرن الأول الميلادي، فهي تلقي ضوءًا ساطعا على الوضع والظروف الاجتماعية والمناخ الديني والأخلاقي والفكري، الذي كان يكتنف عملية تكون المسيحية ولقيام لجنة دولية من العلماء أنشئت خصيصا لهذا الغرض1.
ويبرز لنا من خلال نشاط علماء الآثار أن الشرق الأوسط يشكل وحدة حضارية ودينية يتسع مداها مع التاريخ، ويقوي تفاعلها الديني بين شعوبه، ويعتبر هذا الإرث الروحي يفوق هذه التقدمات المادية خطورة وأهمية وإن بدا ذا مظاهر وثنية فهو ينبئ عن عراقة الجانب الديني والعقدي في الإنسان وقوته في البناء الحضاري وتوجيهه.
1 الجديد حول الشرق القديم بإشراف العضو المراسل في أكاديمية العلوم للاتحاد السوفيتي السابق، بونجارد لينين، دار التقدم، موسكو