الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس: مكة عاصمةٌ ثقافية ودينية
الحجاز:
إن الحجاز -بعكس الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة- أمضى قرونا طويلة من حياته في القديم، وهو في شبه عزلة عن العالم المتمدن؛ اللهم إلا بعض ما كان له من نشاط تجاري.
فجدب الحجاز وقساوة إقليمه، وصعوبة الوصول إليه، ووعورة مسالكه.. كلها كانت عوامل في إبعاد الفاتحين العظام في التاريخ القديم عن غزو هذه البقعة من الجزيرة العربية أو محاولة ضمها إلى إمبراطورياتهم.
لهذا: كله، عاش الحجاز حياته الخاصة بعيدًا عن أضواء السياسة العالمية والاحتكاك بالدول؛ وظل أهله على بداوتهم، وارتحالهم إلا في القليل النادر، حيث نشأت بعض المدن التي كان أهمها:"مكة".
وقضية البداوة لها دور هام وبارز في الإطار العام لحياة الحجاز في فترة ما قبل الإسلام.
والاقتصاد البدوي القائم على الارتحال مع قطعان الماشية، من أجل البحث عن مواطن الكلأ والماء هو اقتصاد الحجاز في هذه الفترة؛ لأنه ما عدا بعض المدن "مكة، المدينة، الطائف" التي كانت كجزر صغيرة في خضم صحراوي كبير؛ كان الارتحال هو ناموس الحياة ومحورها الأساسي.
وكما هو معلوم فإن الحياة البدوية تعتمد على تربية الماشية، وبصورة خاصة "الجمال" كأساس في نشاطها اليومي، وكناظم لتحركها، وأسلوب معيشتها.
ولما كان تدبير الكلأ، والماء لهذه المواشي هو الشغل الشاغل للناس، فإن التنقل وعدم الاستقرار أديا إلى عدم قيام حضارة مستقرة على أرض الحجاز القديم، وما عدا بعض الواحات وبعض المنبسطات الخصبة في الجبال فإن أرض الحجاز لم تكن صالحة للزراعة، ولا تبنت إلا أعشابا، وشجيرات، تستسيغها الماشية بشكل عام، والجِمال بشكل خاصّ.
وكان محصول النخيل أهم محصولات الواحات، أما في المناطق الجبلية المثمرة، كالطائف مثلًا، فقد كان الحبوب تنتج بكميات محدودة، لا تكفي للاستهلاك المحلي.
وكانت هناك مستعمرات يهودية تزرع فيها بعض المزروعات، التي تستهلك محليا، أو تنقل إلى المدن المجاورة لاستهلاك سكانها1.
مكة وموقعها المتميز:
تقع مكة في وادٍ منحصر بين الجبال في منطقة جافة، ذات مناخ قاريٍّ حار جدًّا في الصيف، قليل الأمطار في الشتاء، وحين تسقط الأمطار، فإنها لا تكون غزيرة، ولكنها تشكل سيولًا، تنحدر من الجبال إلى الوديان والشعاب، وكثيرًا ما جرفت "الكعبة".
وإنه مما لا شك فيه أن "مكة" منذ أن ظهرت للوجود كانت مركزًا تجاريًّا هامًّا، وأن ازدهارها كمركز مرتبط إلى أبعد الحدود بوجود الحرم فيها، وهو المنطقة التي تحرم فيها كل أنواع القتل. يضاف إلى هذا موقعها الجغرافي، ووجودها على مفترق الطرق، التي تحمل التجارة من "اليمن إلى سورية"، ومن "الحبشة إلى العراق" قد ساعدا على إضفاء الأهمية التجارية عليها.
وهكذا: فقد كانت "مكة" مقصد البدو الذين يرتادونها لشراء ما يحتاجون من البضائع التي تصلها من جميع الجهات، بواسطة القوافل التجارية.
وأغلب الظن: أن المكيين كانوا في الأساس وسطاء تجاريين، أو تجار مفرق، ولم يكونوا من فئة المستوردين الكبار، الذين ينظمون القوافل ويسيرونها2.
ويذهب التجار المكيون بالمقابل إلى الحيرة ليبتاعوا، وينقلوا ما يحتاجون من منتوجاتها. كذلك كان نشاط المكيين التجاري واسعًا مع بلاد الشام، فقد كانوا يأتون إليها حاملين بضائع الهند، ويعودون منها ومعهم الحبوب والزيت، والخمور والأسلحة، والمنسوجات والجواري.
وكان الصيف هو الفضل الذي تقصد فيه قوافلهم بلاد الشام، تزور مدن "غزة" حيث دفن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم و"آيلة": و"بصرى"، وتعود بعد أن تقوم بعملية البيع والشراء محملة بالبضائع من جديد.
1 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص223، ص224.
2 المصدر السابق ص225، ص228.
أما مع الحبشة: فقد كانت تجارتهم تجري عن طريق البحر، وكذلك كانت رحلاتهم التجارية إلى اليمن تتم في فصل الشتاء، وكدليل على أهمية التجارة عند المكيين، يمكننا أن نذكر الألفاظ المتعلقة بالتجارة وهى كثيرة جدًّا "بالقرآن الكريم"، حيث نجد: كلمات تجارية مثل: "حساب، ميزان، قسط، ذرة.." تتردد كثيرا، ولم يقتصر العمل بهذه المهنة على الرجال؛ بل اشتغلت بها النساء؛ كخديجة بنت خويلد، وهند بنت عبد المطلب وغيرهما.
وقد مهر المكيون بالتجارة لدرجة ضرب بها المثل، فكان يقال مثلا عن عبد الرحمن بن عوف أنه كان يحصل الذهب من الحجارة.
وكان البعض يقوم بهذه التجارة مستقلًّا لنفسه؛ بينما كان آخرون، يتشاركون في تجارتهم، ويقوم عدد كبير منهم في تجهيز قافلة واحدة، ويسير أصحاب القافلة مع قوافلهم بأنفسهم، أو يرسلون أجيرا لهم أو إنسانا يستأجرونه لهذا العمل.
ولتأمين حماية القوافل كانوا يعقدون الاتفاقيات مع رؤساء القبائل التي ستمر قوافلهم في أراضيها. وحين تقصد هذه القوافل بلدا معينا كانوا: يعقدون محالفات مع رؤساء أو حكام هذه الدول. وتسمى هذه المعاهدات عادة "بالإيلاف".
وقد أدى هذا النشاط التجاري -عند المكيين- إلى نشوء أعمال مصرفية، ونشوء طبقة من الصيارفة يهتمون بشئون عملات الدولة التى يتعامل معها المكِّيون.
كما وجد المرابون الذين يقومون بالإقراض، ويفرضون الفوائد الفاحشة على المدينين1.
علاقات "مكة" التجارية:
أقدم من سجل اسمه من اليونان في سجل العلاقات العربية اليونانية هو: "الإسكندر الأكبر" 356- 323 ق. م. بعد أن سيطر هذا الرجل الجبار الغريب
1 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص229، ص230 ص131 باختصار وتصرف.
الأطوار، الذي توفي شابًّا على أرض واسعة، وأسس إمبراطورية شاسعة الأرجاء، ذات منافذ على البحر الأحمر، والخليج العربي، وبعد أن استولى على مصر، والهلال الخصيب، فكر في السيطرة على جزيرة العرب، وجعلها جزءًا من إمبراطوريته؛ ليتم له بذلك الوصول إلى سواحل المحيط الهندي، والسيطرة على تجارة "إفريقية، وآسية"، وتحويل ذلك المحيط إلى بحر يوناني.
وقد شرح الكاتب "أريان" المولود سنة 95 ب. م، والمتوفى سنة 175 ب. م الأسباب التي حملت الإسكندر على التفكير في الاستيلاء على جزيرة العرب وعلى بحارها في الكتاب السابع من مؤلفه Anabasis Alexxandri، فذكر أن هناك من يزعم أن الإسكندر إنما جهز تلك الحملة البحرية؛ لأن معظم القبائل العربية لم ترسل إليه رسلا؛ للترحيب به ولتكريمه فغاظه ذلك.
أما "أريان" فإنه يرى أن السبب الحقيقي الذي حمل الإسكندر على إرسال هذه الحملة يكمن في رغبته في اكتساب أرض جديدة.
وأورد "أريان"1 في كتابه قصة أخرى خلاصتها: أن العرب كانوا يتعبدون لإلهين هما: "أورانوس، ديونيسوس". وجميع الكواكب وخاصة الشمس فلما سمع "الإسكندر" بذلك أراد أن يجعل نفسه الإله الثالث للعرب.
وذكر أيضا: أنه سمع ببخور بلاد العرب وطيبها، وحاصلاتها الثمينة، وبسعة سواحلها، التي لا تقل مساحتها كثيرا عن سواحل الهند، وبالجزر الكثيرة المحدقة بها، وبالمرافئ الكثيرة فيها، والتي يستطيع أسطوله أن يرسو فيها، وببناء مدن يمكن أن تكون من المدن الغنية، وسمع بأشياء أخرى. فهاجت فيه هذه الأخبار الشوق إلى الاستيلاء عليها؛ فسير إليها حملة بحرية للطواف بسواحلها إلى ملتقاها بخليج العقبة.
1 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام جـ2 ص5، أ. د/ جواد علي ط. دار العلم.
ليست فتوحات الإسكندر، التي قذفت بالإغريق، والرومان إلى مساحات واسعة من آسية حدثًا سياسيًّا فحسب؛ إنما هي: فصل من فصول كتاب التأريخ البشري؛ نقرأ فيه أخبار التقاء العالمين: الشرقي، والغربي، وجهًا لوجه على مساحات واسعة من وجه المسكونة؛ ونزعة الغرب في السيطرة على الشرق وتأثر الحضارات والثقافات بعضها ببعض، وحصول علماء اليونان والرومان على معارف مباشرة عن أحوال أمم كانوا يسمعون أخبارها من أفواه التجار والسياح والملاحين، فإذا وصلت إليهم كان عنصر الخيال فيها الذي يميل إلى التفخيم، والتجسيم قد انتهى من عمله، وأدى واجبه. فصححت فتوحات "الإسكندر" هذه للهلال الخصيب ولمصر بعض تلك الأوهام، وجاءت بعلماء من اليونان إلى هذه البلاد؛ ولا سيما مصر، فأفادوا، واستفادوا وصارت "الإسكندرية" بصورة خاصة، وبعض مدن بلاد الشام ملتقى الثقافات؛ الثقافات الشرقية، والثقافات الغربية، ومركز الاتصال العقلي بين الغرب والشرق؛ وبقيت الإسكندرية محافظة على مكانتها هذه حتى ظهور الإسلام.
وقد حملت فتوحات "الإسكندر"، والحروب التي وقعت بين الروم والفرس إلى الشرق الأدنى دمًا جديدًا هو: دم الإغريق، ومن دخل في خدمة "الإسكندر"، واليونان والرومان من الجنود والمتطوعة والمرتزقة من سواحل البحر المتوسط الشمالية، وما صاقبها من أصقاع أوربية.
لقد بنى "الإسكندر" الأكبر مدينة Gharax- على ملتقى نهر: "كارون" بدجلة، وأسكنها أتباعه، وجنوده ومواطني المدينة الملكية كما بنى مدنا أخرى، وقد كان من المحبين المولعين ببناء المدن، وبنى خلفاؤه مدنا جديدة في الشرق، وكذلك من أخذ تراثهم من اليونان والرومان.
وحمل الفرس عددًا من أسرى الروم، وأسكنوهم في ساحل "الخليج" وفي مواضع أخرى. وطبيعي أن تترك سكنى هؤلاء في الشرق أثرًا ثقافيًّا في الأماكن التي أقاموا فيها، وفي نفوس من جاوروهم أدرك قيمته المؤرخون المعاصرون1.
1 المفصل جـ2 ص11، ص12.
وفي أيام "بطليموس فيلادلفوس" كذلك أسست موانئ جديدة على سواحل البحر الأحمر لرسو السفن فيها، وللمحافظة على الطرق البحرية من لصوص البحر بلغت مداها جزيرة "سقطرى"؛ حيث أنشئت فيها جملة مستعمرات يونانية؛ وقد بقي اليونانيون فيها عصورا، غير أن نزولهم فيها لا يدل على احتلالهم لها1.
ويذكر الباحثون أن تسميتها جاءتها من "السنسكريتة""دفيبا سوخنزا".
وهى تسمية إن صح أنها من هذا الأصل فإنها تدل على صلة أهل "الهند" بها منذ عهد قديم.
وأهلها خليط من عرب وروم إفريقيين وهنود يتكلمون بلهجات متداخلة، وهذا الاختلاط نفسه أمارة على الأهمية التي كانت للجزيرة في ذلك الزمن.
وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن أكثر أهلها نصارى عرب، وأن اليونانيين الذين فيها يحافظون على أنسابهم محافظة شديدة، وقد وصلوا إليها في أيام "الإسكندر".
ويزعم بعض الإخباريين: أن "كسرى" هو الذي نقل اليونانيين إليها؛ ثم نزل معهم جمع من "مهرة" فساكنوهم، وتنصر معهم بعضهم، وفي الروايات العربية عن: الروم الذين بجزيرة "سقطرى" شيء من الصحة2.
لقد أحدث دخول اليونان البحار الجنوبية من الخليج العربي ومن البحر الأحمر احتكاكا مباشرا بين الثقافة اليونانية والثقافات الشرقية، وقد عثر على كتابات يونانية في مواضع متعددة من الخليج، ومن السواحل الإفريقية تتحدث عن وجود اليونان في هذه الأماكن3.
وقد عثر في خرائب مدينة "تمنع" على كثير من الأشياء الهيلينية الأصل، أو المتأثرة بالهيلينية من تماثيل، وتحف فنية، وفخار وما شابه ذلك هي من نتائج التبادل التجاري، والاتصال، الذي كان بين حوض البحر المتوسط، وعرب الجنوب3.
1 المصدر السابق جـ2 ص24.
2 السابق جـ2، ص24، ص25، مروج الذهب جـ1 ص335، معجم البلدان جـ5 ص93.
3 المفصل جـ2 ص30.