الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعقيب:
أما عن تحليلنا لهذه الرمزيات فيكون من خلال أثرها على العربي وتأثيره عليها، فحينما أبدعها خياله: كان يرى فيها نوعا من المناسبة بين مكوناته النفسية وما هو كامن في طبيعة صحرائه من سعة لا حد لها تشعره بالتضاؤل والضحالة وهو فيها وبجفاف قاسٍ، إلى إيحاء تسوده رهبة.
فهو مثلا يرى في التطير إن اتجه إلى التجارة نوعا من فهم سبيله، فهو يرى في ميامنها تفاؤلا: يدفعه لوجهته وفي مياسرها تشاؤما يدفعه ليعدل عن وجهته.
وتبعا لمعتقده هذا نراه يتجاوب فكريا مع أي معنى يوحى إليه من خلال ميامن الطير أو مياسرها، وربما كان ذلك -من وجهة نظرنا- محاولة من العربي يفك بها لغز الكون بعد ما بات يحس من نفسه ضعفه أمام لغزه على الرغم من شجاعته المشهود له بها في شعره.
كذلك يرى فيها: دلائل عرفان نحو مستقبله، فخوفه من المستقبل يدفعه نحو تلك الأشياء؛ ليفهم بها مكامن المجهول، وعلى أي حال نراها في رمزيتها محاولات يخفف بها عن نفسه عبء اليأس من عدم فهمه للوجود وتبعد عنه فكرة الانتحار الذي قد يكون حلا قانطا وسلبيا لمشكلة اليأس من عدم فهم مستقبله، وليس بدعا من العربي أن يبدأ التفكير من بداية الفكر الإنساني في طفولته ولقد "كان الفكر الإنساني في طفولته يتفتح لرؤية الكون الهائل تفتحا مشفوعا بالعجب والهيبة"1.
وكانوا يودون من مغزى هذه الرموز أن تكفيهم شر الحياة المادية الخبيثة وذلك لما يرون فيها من معايير مقدسة يفزعون إليها إن ألم بهم شيء أو هَمُّوا بعمل شيء.
وعلى الرغم من أنها تصورات خيالية نجدها توقفنا على شيء ذي بال في حياة العربي النفسية والدينية؛ فإنها من الناحية النفسية تفسير لنا مثيرات انفعالاته وعواطفه، وبها نستطيع أن نفسر مكوناته الشخصية ومؤثراتها الخارجية، فعن طريق هذه
1 سيرة تاريخ وفن ص23 د. ماهر حسين فهمي، مكتبة النهضة.
المعتقدات يتسع لنا المجال لاستنباط أحاسيسه الداخلية وتقدير طموحه في حياته العامة.
ومن الناحية الدينية تفسر لنا أثر المعتقد على الإنسان لما لها من معنى مقدس في نفس العربي الذي لا يجد متسعًا لمخالفتها فينكرها، ومظهر تقديسها يظهر في أنه تصورها على هيئة قوى روحية على شكل طيور؛ ليتناسب طيرانها مع صحرائه -ولها قدرة الإيحاء إليه أمرا أو نهيا مع التزامه بطاعتها في كلا الحالين.
وفي هذا رؤية رمزية للكون تتناسب مع فكر لما يزل في دور الطفولة ملازما فكرة التشاؤم والتفاؤل من إحساس العربي بتأثيرهما عليه ومن نظرية انقسام الروح إلى خيرة وشريرة أي بعضها يختص بالخير وبعضها يختص بالشر.
يمنح العربي هذا كله معنى المعرفة يستوحي منها مظان الخير في مستقبل حياته. وليست فكرة الخير لديه -كما نتصور- رفيعة في معناها ولكنها فكرة رديئة رداءة رمزها؛ فهو يرى في قول الهامة: اسقوني من دم قاتلي دعوة خير بينما العامة وقولها يتشابهان في الرداءة، لكنها مع ذلك هي من دلائل الخير عن العربي صاحب الثأر.
ولعل الذي جعل فكرته عن الخلود باهتة الألوان ما كابده من شظف العيش وما يمسه في حياته من لغوب ومن جفاف في صحرائه لعل في ذلك مقنعا للعربي في عدم خلق أساطير يرمز بها إلى البحث عن فكرة الخلود، وكيف يبحث خلوده وربما يكون مكان بحثه لا يبعد عن صحرائه أو يناظرها في القسوة والجفاف. على أي حال كانت كل معتقداته الرمزية تنبئ عن معنى خوفه:
-خوفه من العار: فقد وأد البنات وثأر.
- خوفه من خسارة في رحلته التجارية: لجأ إلى التطير.
فصفة الخوف من المستقبل هي الغالبة على الروح العربية، لذلك نرى شجاعة العربي فورة حماسية أو نزوة عصبية تشعلها كلمة وتطفئها أخرى.
فشجاعة الخوف: نوع من توترات عصبية من غير تركيز منه على الهدف وقيمته.
ومن هنا كانت فكرته العقلية عن الأشياء غير مركزة وغير ثابتة، وقد يضل عن مضمونها إن فاوض أو ناقش، وقد يتسرب معها في مساربها دون وعي منه يميز به بين ما هو ضروري وأساسي في القضية المطروحة وما هو فيها من باب الطرافة، وقد يصرفه عن مناقشة القضية كلمة عابرة يقولها رجل خبيث ذكي دون أن يفطن هو إلى خبثه، وقد يصرفه بها عن مناقشة القضية دون أن يلتفت إلى حقيقة الدور الذي حوله، وقد يصرفه بها عن مناقشة تنتهي إلى جانب العربي فسيثأر العربي لينهي بنفسه دوره ثم أخيرا يتحمل مسئولية عمله بينما هو مدفوع إليه.
وفي النهاية: نرى أن الأوهام والعقائد الشعبية وأعمال السحر -التي كانت المركز الأساسي لدائرتهم الثقافية -كانت تعمل دائما على قهرهم إذا حاولوا فهم وجودهم أو تغيير علاقاتهم الاجتماعية من مستواها القبلي إلى مستوى إنساني.
فلما جاء الإسلام عصف بتلك الروح وأحل فيهم روحه العامرة بالحياة. وكان من أرفع ما قدمه الإسلام أن ربط كتابه بالعقل الإنساني، وأزال ما يعوق تفاهمه مع العقل وكان أهم ما يعوق رحلة التفاهم بينه وبين الدين وجود طبقة دينية أكليريكية ترى في نفسها امتيازا دينيا يؤهلها للوصاية على لغة التفاهم بين العقل والقرآن.
"وقد دمغ القرآن بالشرك أولئك الذين أعطوا سلطة التشريع المطلق لبعض البشر من رجال الأديان الذين بدلوا كلمات الله، وغيروا شرع الله فأحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله افتراء على الله.
وفي هذا يقول في شأن أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة الآية 31] .
اعتبر القرآن: هؤلاء الأحبار والرهبان أربابا وآلهة معبودين من دون الله وما كانت عبادتهم إلا طاعتهم في إحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، أي إعطائهم
حق التشريع فيما لم يأذن به الله تعالى كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم الطائي.
فقد كان عدي تنصر في الجاهلية فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يقرأ هذه الآية من سورة التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: يا رسول الله: ما كنا نعبدهم؛ "كأنه حصر مفهوم العبادة في الركوع والسجود والصلاة ونحوها"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألم يكونوا يحلون لكم الحرام فتحلونه، ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه"، قال: بلى، قال:"فتلك عبادتكم إياهم"1.
فكان موقف القرآن من الطبقة الإكليريكية واضحًا وفيه حزم؛ لأن وجود مثل هذه الطبقة يعمل دائمًا على شلِّ العقل عن وظيفته وتغيير مفهوم المقدس، وهو ما عناه الرسول بقوله:"ألم يكونوا يحلون لكم الحرام فتحلونه ويحرمون عليكم الحلال فتحرموه؟ " قال: بلى، قال الرسول:"فتلك عبادتكم إياهم".
أما بعد:
ففي القرآن ثلاث آيات متفرقات في سور مدنية تناولت موضوعًا واحدًا هو: الحياة الاعتقادية السائدة في العالم إبان ظهور الإسلام من خلال مستوى مذاهبهم الدينية كما فصلنا القول من قبل.
الآية الأولى من سورة البقرة آية 62 يقول الله فيها:
والآية الثانية: من سورة المائدة آية 69 يقول الله فيها:
1 الخصائص للعامة للإسلام. د. يوسف القرضاوي.
الآية الثالثة: من سورة الحج آية 17 يقول الله فيها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
نلاحظ أن القرآن عدد فيها الكثير من الملل والنحل القديمة -رعاية منه للجانب التاريخي- ثم عرض لبعضها بالنقاش، وفصل من قضاياها ما شاء أن يفصل، وأعرض عن البعض -في بعض مسائله- إذا كان مداره قائما على التقليد الساذج الذي لا يراعي فكرا ولا يراعي جانب العقل.
مثل هذه الملل يعرض عنها القرآن، وحسبه فيها أن يردها إلى التقاليد وهو إذ يردها إلى التقاليد يكون قد أصاب المحز في عملية النقد.
وكان الهدف الأساسي من منهج القرآن الجدلي لهذه الملل، هو السعي بذويها إلى نتيجة محددة هي: الإيمان بالله وحده وتنزيهه.
واقتضاء سعيه إلى تلك القضية المحددة، أن يرفع دور العقل ووظيفته ويحط من شأن التقليد مزدريًا إياه، وكان ذلك منه بخطى معينة ومحددة؛ لأن الحياة الاعتقادية التي أشاعتها هذه الأديان كان مجال التفكير فيها محدودًا ضيقًا، والإنسان معها: كان متزمتا، فبسبب مجال التفكير المحدود الضيق -من السيطرة الكاملة لهذه المذاهب المتزمتة عليه- اتخذ القرآن خطواته نحو رفع القيمة للبحث والنقد، وكانت خطواته معها متأنية مترفقة غير أنه لا لين فيها.
يلاحظ ذلك من الآيات السابقة، فمرة يقول: إن استجابوا للإيمان {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ومرة يقول: {َلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، والثالثة الأخرى:{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
ويغلب على ظني -والأمر يحتاج إلى توقيف- أن ترتيب نزول الآيات هو:
آية البقرة أولا، وآية المائدة ثانيا، وآية الحج ثالثا.
وإن صح هذا وخاصة أن هذه السور مدنية -يمكن اعتبارها نموذجا تطبيقا- من بين نماذج كثيرة حفل بها القرآن -في هذا المقام بالذات لنوع من الجدل نحو غايته.
كنا نلاحظ من خلال تفصيل القرآن للأديان القديمة والنحل، أن له منهجا سار عليه -إزاء تلك المعتقدات القديمة- حين ردها على كثرتها إلى مبدأ التقابل، فمن كان معتقده عن كتاب فليدخل مع أهل الكتاب الذين تعلموا من كتب السماء التي حرفت، يتقابلون مع الأميين الذين التمسوا تعليمهم تقليدا لغيرهم وبعيدا عن كتب السماء، وهذا مما يتقابلون فيه مع الذين آمنوا بالدين الخالص وهو دين الله:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1.
مصر الجديدة في 1983.
دكتور محمد إبراهيم الفيومي
1 سورة الزمر آية 3.