الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى أشكال مختلفة من الصور المادية، فأدى هذا التحول إلى دراسة الفلك وتكوين علم له، فالذين نزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع درسوا بيوتها ومنازلها ومطالعها ومغاربها واتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة، مترتبة على طبائعها، وتقسيم الأيام والليالي والساعات عليها ثم تقدير الصور والأشخاص والأقاليم، والأمصار عليها.
واستطاعوا من خلال رصدهم لها: أن يعيِّنوا اليوم فـ "زحل" أو غيرهم مثلا ليوم السبت، وراعوا فيه ساعته الأولى، وتختموا بخاتمه، والمعمول على صورته، وهيئته، وصفته، ولبسوا اللباس الخاص به. وتبخروا ببخوره الخاص، ودعوا بدعوته الخاصة به، سألوا حاجاتهم منه، وترتب على هذا الاتجاه الديني نحو الكواكب أن تسرب إلى الدين نوع من الوثنية وأخلاط من الشرك، هذا من جانب، ومن جانب آخر، نتجت دراسة طيبة تكون منها علم الفلك، ثم النهاية: خلطوا الطلسمات المذكورة في كتب السحر، والكهانة، والتنجيم، والتعزيم، والخواتيم، وخلطوها كلها بعلم الفلك.
يقول ابن حجر معللا:
وكانت علومهم أحكام النجوم، مع ذلك كان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر، وينسبونها إلى فعل الكواكب؛ لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم1.
وهؤلاء هم الصابئة الفرس، والنبط، والروم، والهند.
1 فتح الباري "10: 181".
صابئة الأشخاص:
أما الصابئة الذين فزعوا إلى أشخاص، فقالوا: إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به إذا كان من الروحانيات، فإننا لا نستطيع رؤيته، ولا مخاطبته، وإذا أخذنا هياكلها وسائط، فإن الهياكل قد ترى في وقت، ولا ترى في آخر؛ لأن لها أفولا وطلوعا.
لذلك كان لا بد لنا من صور أشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا نعكف عليها، فاتخذوا: أصناما "أشخاصا" على مثال الهياكل السبعة وصورها
بصورتها وراعوا في ذلك: الزمان، والمكان والساعة والدرجة الدقيقة، فإن أرادوا حاجة: تبخروا بالبخور، وتحينوا الساعة وراحوا يسألونه حاجاتهم.
فأصحاب الهياكل: هم عبدة الكواكب؛ إذ قالوا بآلهيتها.
وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان، وهذا النوع من الصابئة انتقل إلى الجزيرة العربية على يد عمرو بن لحي، وسوف نعرض له.
وصابئة الحرانية1 قالوا: "إن الصانع المعبود واحد وكثير" أما واحد: ففي الذات، والأول، والأصل، والأزل.
وأما كثير فلأنه يتكثر بالأشخاص في رأي العين وهي المدبرات السبعة.
والأشخاص الأرضية ونماذجها: الخير، والعلم، والفضيلة، فإنه يظهر بها ويتشخص بأشخاصها ولا تبطل وحدته في ذاته2.
وواضح أن صابئة الحرانية: أخلاط: من فلسفة اليونان، وفلسفة الهند، ففيها مثل أفلاطون، وفيها: تجسيد "برهما" الديانة الهندية.
وهؤلاء هم من قال فيهم ديبور:
وقد أخذوا عن حسن نية بحكم وآراء موضوعة ترجع للعصر الإغريقي المتأخر، وربما يكون بعض هذه الحكم قد وضع بين ظهرانيهم3.
ويذهب ابن النديم إلى أن الصابئة ليست مذهبا للحرانيين إنما هي منحولة لهم، فيقول:
1 مدينة حران ظلت مركزا دائما لثقافة اليونانية وكانت إلى جانب هذا نقطة مهمة للتبادل والاتصال، وكان جيرانهم من النصارى ينظرون شزرا إلى للحرنانيين، وكانوا يسمون مدينتهم "هلينوليس" مدينة اليونانيين؛ احتقارا لهم وتهكما عليها، وكانت الدراسات رياضية سحرية فلسفية طبية، وعند الصابئة كانت للفلك المكانة الأولى، وكانت حران مشهورة بوثنيتها في منطقة مسيحية، ووثنيتها: مزيج من الديانة البابلية والوثنية الإغريقية والأفلاطونية المحدثة.
2 الملل والنحل "2: 53" الشهرستاني، تحقيق د: محمد بن فتح الله بدران.
3 تاريخ الفلسفة في الإسلام ص25 نقله د: محمد عبد الهادي أبو ريدة.
قال أبو يوسف أيشع القطيعي النصراني في كتابه في الكشف عن مذاهب الحرنانيين المعروفين في عصرنا بالصابئة: إن المأمون اجتاز في آخر أيامه بديار مصر، يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس يدعون له وفيهم جماعة من الحرنانيين، وكان زيهم -إذ ذاك- لبس الأقبية، وشعورهم طويلة بوفرات1 كوفرة قرة جد سنان بن ثابت، فأنكر المأمون زيهم، وقال لهم: من أنتم من الذمة؟
فقالوا: نحن الحرنانيون.
فقال: أنصاري أنتم؟
قالوا: لا.
قال: أمجوس أنتم؟
قالوا: لا.
قال لهم: أفلكم كتاب أو نبي؟
فجمجموا في القول.
فقال لهم: فأنتم إذن الزنادقة، عبدة الأوثان، وأصحاب الراس في أيام الرشيد والدي؟ وأنتم حلال دماؤكم لا ذمة لكم؟
فقالوا: نحن نؤدي الجزية، فقال لهم: إنما تؤخذ الجزية لمن خالف الإسلام من أهل الأديان، الذين ذكرهم الله في كتابه، ولهم كتاب، وصالحهم المسلمون عن ذلك.
فأنتم لستم هؤلاء ولا من هؤلاء فاختاروا الآن أحد أمرين:
إما أن تنتحلوا دين الإسلام، وإما دينا من الأديان التي ذكرها الله في كتابه.
وإلا قتلناكم عن آخركم؟ فإني قد أنظرتكم إلى أن أرجع من سفرتي هذه فإن أنتم دخلتم في الإسلام، أو في دين من هذه الأديان التي ذكرها الله في كتابه،
1 قال أبو حبان في البحر المحيط "1: 239": قال قتادة والكلبي: هم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رءوسهم ويجبُّون مذاكرهم ثم قال: إنه رأي غريب قرأته وذكرته ولم يتحقق لدي.
وإلا أمرت بقتلكم واستئصال شأفتكم، ورحل المأمون يريد بلاد الروم فغيروا زيهم وحلقوا شعورهم وتركوا لبس الأقبية، وقد قصر كثير منهم شعورهم ولبسوا زنانير، وأسلم منهم طائفة وبقى منهم شرذمة بحالهم، وجعلوا يحتالون ويضطربون حتى انتدب لهم شيخ من أهل حران فقيه، فقال لهم: قد وجدت لكم شيئا تنجون به وتسلمون من القتل، فحملوا إليه مالا عظيما من بيت مالهم أحدثوه منذ أيام الرشيد إلى هذه الغاية وأعدوه للنوائب.
فقال لهم: إذا رجع المأمون من سفره فقولوا له: نحن الصابئون فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه في القرآن فانتحلوه فأنتم تنجون به، واتفق أن المأمون توفي في سفرته تلك عام 128هـ.
انتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت؛ لأنه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمون بالصابئة، فلما اتصل بهم وفاة المأمون: ارتد كثير ممن كان تنصر منهم ورجع إلى الحرنانية، وطولوا شعورهم حسب ما كانوا عليه قبل مرور المأمون بهم على أنهم صابئون، ومنعهم المسلمون من لبس الأقبية، ومن أسلم منهم لم يمكنه الارتداد خوفا من أن يقتل، فأقاموا متسترين بالإسلام فكانوا يتزوجون بنساء حرنانيات ويجعلون الولد الذكر مسلمًا والأنثى حرانية وهذه كانت سبيل كل أهل "ترعوز" و"سلمسين" القريتين المشهورتين العظيمتين بالقرب من حران إلى نحو عشرين سنة هجرية.
فإن الشيخين المعروفين: بأبي زرارة، وأبي عروبة علماء أهل حران بالفقه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر مشايخ أهل حران وفقهائهم احتسبوا عليهم ومنعوهم من أن يتزوجوا بنساء حرنيات أعنى صابئات، وقالوا: لا يحل للمسلمين نكاحهم؛ لأنهن لسن من أهل الكتاب.
وبحران أيضا منازل كثيرة إلى هذه الغاية بعض أهلها حرانية ممن كان أقام على دينه في أيام المأمون وبعضهم مسلمون وبعضهم نصارى ممن كان دخل في الإسلام وتنصر في ذلك الوقت مثل: قوم يقال لهم: بنو أيلوط، وبنو قبطران وغيرهم مشهورين بحران1.
1 الفهرست لابن النديم ص445، 446.
فما ذكره ابن النديم المتوفى 378هـ يفيد من ظاهر نصه أن نحلة الصابئة انتحلت لهم في عصر المأمون وهو قابل للطعن وغير قابل للرفض.
أما قابليته للطعن: فإن ما ذكره الشهرستاني عند الحرنانيين "بأنهم جماعة من الصابئة"1 هذه العبارة تتيح مجالا للطعن فيما قاله ابن النديم فضلا عن كتب التاريخ الفكري التي تجعل حران مركزا مهما للتبادل الثقافي في تلك المنطقة، وتجعل أهلها وثنيين يعبدون الكواكب مما دفعهم إلى ملاحظة السماء والتعمق في الدراسات الفلكية، وهذه الدراسات لها عند الصابئة مكانتها الأولى العلمية والتقديسية، ومما يضاف إلى الطعون السابقة قول الألوسي: وهؤلاء أي الصابئة كانوا قوم إبراهيم وهم أهل دعوته وكانوا بحران2.
ونرى أنفسنا أمام روايات متعددة تسند لحران مذهب الصابئة حينا وتجعلها مركزها القديم سوى نص ابن النديم الذي يقرر أن الصابئة منحولة للحرنانيين.
لذلك قلنا إن النص قابل للطعن وتيار الطعن قوي.
فالشهرستاني: يجعل الحرنانيين جماعة من الصابئة.
والألوسي: يقول إن الحرنانيين أصل الصابئة.
والمسعودي ينسب إلى بوداسف أول من أظهر آراء الصابئة من الحرنانيين والكيماريين وهذا النوع من الصابئة مباين للحرنانيين في نحلتهم.
هذه أقوال يمكن أن تتيح مجالا للطعن في رواية دون أخرى.
فإذا اعتبرنا قول ابن النديم منصرفا إلى هذه الجماعة بذاتها؛ فإنا نصدم بتعقيب داخل النص نفسه يقول: "وانتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت؛ لأنه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمون بالصابئة" فنص ابن النديم هو رواية عن كتاب ذكره على أنه حكاية في أمرهم من غير استقصاء تاريخي وعلى ذلك قد نقبلها ونصرفها إلى هذه
1 الملل والنحل
2 بلوغ الأرب "2: 224" ويذكر أحمد أمين رواية ابن النديم ويأخذ بها فيقول: وهم الذين تسموا بعد ذلك في عصر المأمون وبعده بالصابئين وكان منهم كثيرون من المؤلفين ومن تولوا الترجمة: فجر الإسلام "1: 130".