الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس: من قضايا الفكر الديني الجاهلي
نظرات تحليلية في نشأة الديانة الوثنية
…
نظرات تحليلية في نشأة الديانة الوثنية:
زعم بعض المستشرقين: أن لفظة "الدين"؛ من أصل أعجمي وأنها من الألفاظ المعربة؛ وأصلها فارسي، هو:"دينا Daena"، وقد دخلت في العربية قبل الإسلام بمدة طويلة.
وترد لفظة "دين" بمعنى: الحشر في الإرمية والعبرانية كذلك، وهي:"دينو" في الإرمية، وتقابل لفظة "Daino" الإرمية لفظة الديان في العربية، وهي بمعنى: القاضي في هذه اللغة، وتعني: لفظة "دين" القضاء في اللغة البابلية، و"ديان" الحاكم والمجازي، والقاضي في لغة بني إرم؛ وهي: بهذا المعنى في العربية أيضا.
والدين في تعريف علماء اللغة: العادة، والشأن؛ تقول العرب: ما زال ذلك ديني وديدني؛ أي: عادتي.
والدين: بمعنى الطاعة والتعبد، وقد ورد في الحديث: كان على دين قومه.
أي: كان على ما بقي فيهم من إرث إبراهيم من الحج والنكاح، والميراث. وجاء: كانت قريش، ومن دان بدينهم؛ أي اتبعهم في دينهم، ووافقهم عليه، واتخذ دينهم له دينا وعبادة.
ومن دين: الديان بمعنى الحاكم، والقهار، ومن ذلك: مخاطبة الأعشى الجرمازي الرسول بقوله:
يا سيد الناس وديان العرب
والديان: من أسماء الله تعالى.
وقد وردت: هذه اللفظة في المعنى المفهوم منها في الإسلام، في بيت شعر ينسب إلى امية بن أبي الصلت، وهو:
كل دين يوم القيامة عند الـ
…
ـله إلا دين الحنيفة زور1
ووردت بهذا المعنى أيضا في النصوص الثمودية؛ ووردت في نص سجله رجل من قول ثمود، توسل فيه إلى الإله "ود" أن يحفظ له دينه، ووردت في نص آخر جاء فيه: بدين "ود أمت" أي: بدين ود أموت. فاللفظة إذن من الألفاظ العربية الواردة في النصوص الثمودية؛ وقد يعثر عليها في نصوص جاهلية، مدونة بلهجات عربية أخرى2.
1 المفصل جـ6 ص726، غرائب اللغة ص182، اللسان مادة دين 13/ 166.
2 المفصل جـ6 ص8.
ذهب "رينان": إلى أن العرب هم مثل سائر الساميين الآخرين موحدون بطبعهم، وإن ديانتهم هي من ديانات التوحيد!
وهو رأي يخالفه فيه نفر من المستشرقين.
وقد أقام "رينان": نظريته هذه في ظهور عقيدة التوحيد عند الساميين من دراسته للآلهة، التي تعبد لها الساميون.
ومن وجود أصل كلمة "أل. أيل" في لهجاتهم، فادعى أن الشعوب السامية كانت تتعبد لإله واحد، هو "أل. إيل" الذي تحرف اسمه بين هذه اللهجات، فدعي بأسماء أبعدته عن الأصل؛ غير أن أصلها كلها هو إله واحد؛ هو الإله "أل. إيل".
وقد ذهب أهل الأخبار إلى أن العرب الأولى كانت على ملة إبراهيم من الإيمان بإله واحد أحد؛ اعتقدت به، وحجت إلى بيته وعظمت حرمه، وحرمة الأشهر الحرم؛ بقيت على ذلك؛ ثم سلخ بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم، وإسماعيل غيره؛ فعبدوا الوثان، وابتعدوا عن دين آبائهم وأجدادهم؛ حتى أعادهم الإسلام إليه.
ونظرية "أن العرب جميعًا كانوا في الأصل موحدين؛ ثم حادوا بعد ذلك عن التوحيد، فعبدوا الأوثان، وأشركوا": نظرية يقول بها اليوم: بعض العلماء مثل: "ويليم شميد"؛ الذي درس أحوال القبائل البدائية الوثنية، ترجع بعد تحليلها، وتشريحها، ودرسها إلى عقيدة أساسية قائمة على الاعتقاد بوجود القديم؛ الكل، أو الأب الأكبر؛ الذي هو في نظرها العلة، والأساس؛ فهو إله واحد؛ وتوصل: إلى أن هذه العقيدة هي: عقيدة سبقت التوحيد؛ ثم ظهر من بعدها الشرك وقد أطلق عليها في الألمانية: مصطلح Urmon Otheismus أي: التوحيد القديم.
رأينا فيما سبق أن الجاهلي عرف حياة دينية تتعمق به حينا ويطفو بها على السطح حينًا آخر، حتى يتسرب الشك إلى نفسه، وحتى يخيل إلينا أن البدوي قليل الدين، وأنه قلما يكترث لما يعبد.
والعربي إذ يتعمق في حياته الدينية أو يسخط عليها يصدر في ذلك عن طبيعته البدوية وليس عن فكر ديني في أغلب الأحيان.
فالعربي ذكي إلى حد أنه تكفيه الإشارة، فمأثور الحكمة والأمثال يشهد بذكائه وحاضر بديهته وطبيعته من وراء ذلك، فهو شخص ميال إلى الاعتزال بنفسه بما يخدم حريته الشخصية فلا يدين لأحد، هو ذكي غير ميال إلى التفاهم الاجتماعي.
ونظامه القبلي -وهو شكل اجتماعي بدائي- صرفه عن أن يفكر في محيط اجتماعي أوسع، فلم يفكر في تغيير مجرى حياته الاجتماعية أو الفكرية فانحصر فكره داخل قبيلته ولم يخرجها عن مألوفها إلا بقدر ما يخدم رؤيته الشخصية، فهو عضو في قبيلته مخلص مطيع لتقاليدها، ولذلك عاش العربي مقلدًا غير ميال إلى التغيير الاجتماعي، وكان يحب من الأفكار ما يلهيه ويرفع عنه سآمة الحياة ويتناسب مع سعة الخيال الخاص الذي يتسع للعقاب والغول والجان والشياطين سعة تتناسب أيضًا مع رحابة الصحراء في جزيرة العرب، كان يحب مثل هذا الفكر وليس ذلك لضعف في طبيعة عقله؛ ولكن لميوله الفكرية فهو يرى أنه غير ميال إلى التغيير ولم يغير؟
إنه رئيس في قبيلته أو عضو عامل فيها فالتغيير لماذا؟ إن الحفاظ على وضعه فيه نوع من الفكر الذووي المنغلق على نفسه هو؛ فلذلك اندفع نحو الخرافات؛ ليحفظ بها نظامه القبلي. وليس العربي وحده هو الذي كان مصدقًا للخرافات فالأمة اليونانية فيها خرافات كثيرة تتناسب مع عقلها المنطقي.
فحياته الدينية كانت تقليدًا، وغير مرتبطة بحياة عقلية ناضجة وليست كما يرى بعض الباحثين من أن العقائد الدينية قبل الإسلام خضعت لعوامل التغيير والتحول، ومن هؤلاء الأستاذ أنور الرفاعي؛ إذ يقول: عرف عن عرب ما قبل الإسلام أنهم وثنيون وعرفت وثينتهم وتقاليدهم في القرآن الكريم بالجاهلية وعلى الرغم من
ذهاب معظم أخبارها، تسرب إلينا نتف كثيرة من أساطير الجاهليين ومعتقداتهم وأفكارهم، وكلها تدل على أن الوثنية ليست بسيطة التركيب ولا قريبة المتناول، فما وصلنا منها يدل على أنها مرحلة راقية، وأن كثيرًا من قديمها قد بقي في متأخرها وأن بعض أحوالها صيغ بالأفكار اليهودية أو الصابئية أو المسيحية أو اتحد مع عقائد أجنبية، ومن الضروري أن نلجأ في تفهمها إلى تصنيف تاريخي يمهد لبيان أطوارها ومعتقداتها في الزمن.
واستعراض الأساطير والعقائد العربية الجاهلية يدلنا على أن الوثنية العربية مرت في أطوار تشبه تلك التي مرت بها وثنيات الأمم الأخرى فإنها عرفت:
1-
الطور الحيوي: وفيه اعتقد العرب أن في كل شيء حياةً، فعبدوا الشجر والحجر والجن، واعتقدوا أن الحجر شجر الشياطين، وأن الصفا والمروة هما: رجل وامرأة فسقا في الحرم فمسخا حجرين، وأن الضب هو يهودي مسخ فلا يؤكل لحمه، وأن حجارة الحرم تحمل قدسيته فهم يحملون منها للعبادة في ديارهم
…
إلخ.
2-
الطور الطوطمي: وفيه تنحصر الحياة والأرواح في أشياء محدودة: ومن بقايا هذا الطور ما وجد عندهم من تسمية الإنسان بأسماء الحيوان، ومن عبادة بعض البهائم، كالجمل الأسود عند طيئ، والكبش الأبيض، ومن التشاؤم بالغراب والبوم، ومن عبادة الأصنام على شكل الحيوان كيغوث وهو على شكل نسر، ويعوق وهو على شكل فرس
…
إلخ.
3-
الطور الوثني وتعدد الآلهة: وفيه وصل العرب إلى تصور الإله بأشكال إنسانية، وتعددت الآلهة عندهم وتخصصت ومهدت للطور الوحداني الذي جاء به الإسلام.
ونحن لا نشايع الأستاذ أنور الرفاعي فيما ذهب إليه من تحليل للوثنية العربية وانتقالها إلى أطوار مختلفة لما رأينا بينهم من أنهم مجتمع قبلي وأن لكل قبيلة معبودها حجرًا أو شجرًا أو حيوانًا، وأنها ذهبت في عبادتها لهذه الأوثان المتعددة والمختلفة مذهب التقليد والمحاكاة.
يقول اسبتينو موسكاتي1:
وقد عرفت القبائل البدوية في وسط الجزيرة طائفة كبيرة من الآلهة، ولكنها ليست آلهة أو إلهات محددة تحديدًا واضحًا لها صفاتها وأساطيرها الثابتة، بل أرواح كل منها تهيمن على موضع وتحميه مثل البعول الكنعانية المختلفة. فخيال البدوي أضفى أرواحا على الآباء والأشجار والحجارة، وشعر بوجود آلهة فيها.
وكانت تسكن الصحراء أرواح أخرى محلية غير الآلهة، هي خليط من مخلوقات غريبة بعضها خير وبعضها شرير، تملك القدرة على الاستخفاء، وكان على المرء استرضاؤها إذا أراد اجتناب أذاها.
نظرية البيروني:
يقول: معلوم أن انطباع العامي نازع إلى المحسوس، نافر عن المعقول الذي لا يعقله إلا العالمون، الموصوفون في كل زمان ومكان بالقلة، ولسكوته إلى المثال عدل كثير من أهل الملل إلى: التصوير في الكتب والهياكل "اليهود، والنصارى"؛ ثم "المنائية" خاصة؛ ناهيك شاهدًا على ما قلته: إنك لو أبديت صورة النبي صلى الله عليه وسلم أو مكة والكعبة لعامي، أو امرأة لوجدت من نتيجة الاستبشار فيه دواعي التقبيل وتعضير الخدين، والتمرغ؛ كأنه شاهد المصور، وقضى بذلك مناسك الحج والعمرة؛ وهذا هو السبب الباعث على إيجاد الأصنام بأسامي الأشخاص المعظمة من الأنبياء، والعلماء والملائكة مذكرة أمرهم عند الغيبة والموت ومبقية آثار تعظيمهم في القلوب إلى أن طال العهد بعامليها، ودارت القرون والأحقاب عليها ونسيت أسبابها، ودواعيها، وصارت رسما وسنة مستعملة، ثم داخلهم أصحاب النواميس من بابها؛ إذ كان أشد انطباعا فيهم فأوجبوه عليهم؛ وهكذا وردت الأخبار فيمن تقدم عهد الطوفان، وفيمن تأخر عنه؛ وحتى قيل: إن كون الناس قبل بعثة الرسل أمة واحدة هو على عبادة الأوثان.
ومن الأصنام المشهورة: صنم "مولتان" باسم الشمس، ولذلك سمي "أدت"، وكان خشبيًّا ملبسًا بسنحتيان أحمر، وفي عينيه ياقوتتان حمراوان.
1 الحضارات السامية ص206 ترجمة السيد يعقوب أبو بكر.
ومتى كان الصنم المصور من أحد الجواهر كان خيرًا من الخشب، والخشب خير من الطين؛ فإن عوائد الجواهر تشمل رجال المملكة ونساءها، والذهب يخص صاحبه بالقوة، والفضة بالمدح، والنحاس بالزيادة في الولاية، والحجر بامتلاك الأرضين، والصنم يشرف بصاحبه لا بجوهره.
وقد كانت اليونانية في القديم: يوسطون الأصنام بينهم، وبين العلة الأولى، ويعبدونها باسم الكواكب والجواهر العالية؛ إذ لم يصفوا العلة الأولى بشيء من الإيجاب؛ بل بسلب الأضداد تعظيما لها، وتنزيهًا، فكيف يقصدونها للعبادة؛ ولما نقلت العرب من الشام أصنافا إلى أرضهم عبدوها كذلك؛ ليقربوهم إلى الله زلفى.
وهذا أفلاطون: يقول في المقالة الرابعة من كتاب النواميس: "واجب على من أعطى الكرامات التامة أن يتعبد بسر الآلهة والسكينات، ولا يترأس أصنامًا خاصة للآلهة الأبوية؛ ثم الكرامات التي للآباء إذا كانوا أحياء؛ فإنه أعظم الواجبات على قدر الطاقة، ويعني بالسر الذكر على المعنى الخاص، وهو لفظ يكثر استعماله فيما بين "الصابئة الحرانية"، "والثانوية المنائية"، ومتكلمي الهند.
وقال جالينيوس في كتاب "أخلاق النفس": إن في زمان "قومودس" من القياصرة، وهو قريب من خمسمائة ونيف للإسكندر أتى رجلان إلى بائع الأصنام فساوماه صنم "هرمس" أحدهما يريد نصبه في هيكل؛ ليكون تذكرة "لهرمس"، والآخر يريد نصبه على قبر؛ ليذكر به الميت1.
في نظر الرازي:
يقول الرازي المفسر: اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكا يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة وهذا مما لم يوجد إلى الآن.
1 تحقيق ما للهند: البيروني ص78.
لكن في الوثنية يثبتون إلهين:
- أحدهما: حليم: يفعل الخير.
- والثاني: سفيه: يفعل الشر.
وأما اتخاذ معبود سوى الله ففي الذاهبين إلى ذلك كثرة:
الفريق الأول: عبدة الكواكب
وهم الصابئة؛ فإنهم يقولون: إن الله خلق هذه الكواكب، وهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم، قالوا: فيجب علينا أن نعبد الكواكب والكواكب تعبد الله.
الفريق الثاني: النصارى الذين يعبدون المسيح.
الفريق الثالث: عبدة الأوثان واعلم أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان؛ وذلك لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح وهو إنما جاء بالرد على ما أخبر الله عن قومه في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] .
فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودة قبل نوح وهي باقية إلى الآن بل أكثر أهل العالم مستمرون على هذه المقالة.
يقول الرازي: والدين والمذهب الذي هذا شأنه يستحيل أن يعرف فساده بالضرورة، ولكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السموات والأرض علم ضروري فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك.
يقول الرازي:
الوجه الأول: اعتقاد الشبه
ذكر أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض مصنفاته: أن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ويعتقدون أن لله جسما وأنه ذو
صورة كأحسن ما يكون من الصور، وهكذا حال الملائكة أيضا في صورهم الحسنة وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة حسنة الرواء على الهيئة التي كانوا عليها ويعتقدونها من صور الآلهة والملائكة.
فيعكفون على عبادتها قاصدين طلب الزلفى إلى الله وملائكته.
قال الرازي تعليقًا عليه: فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان هو اعتقاد الشبه.
الوجه الثاني: الاعتقاد في الأسباب الظاهرة
ذكره أحد العلماء وهو أن الناس رأوا أن تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب، فبحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس تحدث الفصول المختلفة والأحوال المتباينة ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب واعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها.
فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواته وهي التي خلقت هذه العوالم.
ومنهم: من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم.
فالأولون اعتقدوا أنها هي الآلهة في الحقيقة.
والفريق الثاني: اعتقدوا أنها هي الوسائط بين الله والبشر، فلا جرم أن اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناما وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات تلك الأجرام العالية، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة، ثم لما طالت المدة ألفوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل.
فهؤلاء في الحقيقة: هم عبدة الكواكب.
الوجه الثالث: تعظيم المجهول
إن أصحاب الأصنام كانوا يعينون أوقاتًا في السنين المتطاولة إلى نحو الألف والألفين ويزعمون أن من اتخذ طلسمًا في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أوقات مخصوصة ويوجهه نحو السعادة والخصب ودفع الآفات.
وكانا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه؛ لاعتقادهم أنهم ينتفعون به، فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة، ولما طالب مدة ذلك الفعل نسوا مبدأ الأمر، واشتغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر.
الوجه الرابع: الاعتقاد في الأرواح
وكانوا يعتقدون أنه متى مات منهم رجل كبير كان مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله فاتخذوا صنمًا على صورته يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعًا لهم يوم القيامة عند الله على مقتضى ما أخبر الله به في قوله على ألسنتهم: "هؤلاء شفعاؤنا عند الله".
الوجه الخامس: الاعتقاد في المقدسات
ولعلهم اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعته ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة، ولما استمرت هذه الحالة ظن الجهال من القوم أنه يجب عبادتها.
الوجه السادس: الحلول
ولعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل1.
وبهذا الاتجاه الوثني نسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالات، ومع ذلك بقيت فيهم بقايا من عهد إبراهيم وكانوا يتمسكون بها.
1 مفتاح الغيب "1: 231".
وذلك مثل تعظيم البيت والطواف والحج والعمرة بعرفة والمزدلفة وهدى البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس فيه.
فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: "لبيك اللهم لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"، فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده بقول الله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ؛ أي: ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكًا من خلقي.
ولقد لاحظنا أن العربي كان متدينًا سواء الدافع إلى اعتقاده الديني فكره كأمية، ولبيد، وقس بن ساعدة، أو كان الدافع إليه تقليد القبيلة، أو الدافع إليه بعض الاتجاهات السياسية كمسيحية غسان.
وعلى أي حال ومهما كان الدافع فإنه كان متدينا.
وذهب الباحثون في تدينه مذاهب شتى من حيث قضايا الفكر الديني، وليس الحال كما رأى بعض الباحثين من أن العربي وقع بتدينه تحت أطوار مختلفة، ولكننا نقول: إن حال العربي في دينه هو حاله مع آلهته كما تصوره هذه الرواية التاريخية:
يقول الكلبي: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربًّا وجعل الثلاثة الباقية أثافي لقدره وإذا ارتحل ترك الحجر الرب فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك1.
ويقول أبو عثمان النهدي "ند قبيلة من قضاعة": كنا في الجاهلية نعبد حجرًا ونحمله معنا فإذا رأينا أحسن منه ألقيناه وعبدنا الثاني وإذا سقط الحجر عن البعير قلنا سقط إلهكم فالتمسوا حجرًا2.
ويقول ابن دريد3: "كان الرجل منهم إذا وجد حجرًا أحسن من حجر أخذه وعبده"؛ فالعربي لم يعبد الوثن معتقدًا أنه خالق الكائنات؛ لأنه تارة يستقسم عنده وتارة أخرى يسبه ويشتمه، ومرة ثالثة يأكله وقت المجاعة، لذلك لا نعد تصرف
1 الأصنام ص33.
2 أسد الغابة في معرفة الصحابة "3: 325" ابن الأثير.
3 الاشتقاق ص86.
العربي مع وثنه تحولا ولكن استخفافا، ومثله إذ انتقل من عبادة وثن إلى عبادة كوكب لا نرى في ذلك تحولا أيضا لأنه غير مصحوب بفكر عقلي، ولكن هو انتقال من صورة مظلمة إلى صورة مشعة كتركه الحجر لحجر أحسن في صورته، أما ما يصح أن نطلق عليه "انتقالا من طور إلى طور" هو الانتقال الذي يصحبه فكر ويتبعه قضايا دينية توجب على المتدين النظر أو الشك.
لم يحصل شيء من هذا حتى عند الحنفاء الذين تشككوا في الأوثان، ورأوا أن علاج شكهم هو اختيار دين آخر، وتفرقت بهم سبل الاختيار، فلم يحاولوا عرض قضايا دينية أو قضايا فكرية، وذلك شأن العربي في الجاهلية.
أما الإسلام فكان شيئًا جديدًا وكلًّا متكاملًا، وفي ذلك ما يدل على سماويته ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونتيجة لهذا التنقل في الاختيار وقع العربي تحت عدة تناقضات فكرية ودينية أشار إليها القرآن الكريم منها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1.
وأشار أيضا إلى لون آخر من ألوان تناقضهم في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2.
فمنهم من كان يعبد الله مع صنمه، ومنهم من كان لا يعبد الله مع صنمه.
وسنشير إلى ألوان من عقائدهم؛ لنرى أن الحياة العقدية في مكة لم يحكمها قانون الترقي، ولكن حكمها قانون الانتشار والتقليد؛ فانتشرت في ربوع شبه الجزيرة العربية متفرقات من الملل والنحل وعايش بعضها بعضًا.
وكان تعدد آلهة الصحراء نتيجة لحالة التشتت التي كانت تعيش فيها القبائل، ولميلها الغالب إلى التوفق، وكان الإله لا يستطيع التغلب على هذين العاملين ومد نفوذه إلى ما وراء حدود منطقته المحلية إلا نادرًا مثلما فعلت الإلهات الثلاث: اللات
1 سورة العنكبوت 61، 63.
2 سورة يونس 18.
ومناة والعزى، وكات تعبد في المطقة التي حول مكة وكان يعلو عليهن أبوهن الله1.
الإله والتصور الوثني:
هو في العادة يتكون من عدة آلهة، ولكن إذا ما انتصرت مدينة من المدن على عدة مدن، فيصبح إله هذه المدينة إلها عامًّا مشتركا تعترف به بقية المدن تحقيقًا لانتصار الإله وعباده.
ولا نجد إلهًا قوميًّا خاصًّا بالعرب؛ كالذي نجده عند العبرانيين من تعلقهم بـ "يهوه"؛ وعدهم إياه إلها خاصا بإسرائيل.
فقد صار هذا الإلهُ إلهَ جميع قبائل إسرائيل ويهوذا؛ أما العرب: فقد كانوا يعبدون جملة آلهة، كل قبيلة لها إله خاص بها، وآلهة أخرى، ولم يكن لها إله واحد له اسم واحد يعبده جميع العرب.
والظاهر أن القبائل الساكنة في الحجاز، ونجد، والعراق، والشام صارت قبيل الإسلام تتنكر لأصنامها العديدة، وتأخذ بالتوحيد، وبالاعتقاد بإله واحد هو "الله تعالى"، وهو الذي: نجده في الشعر الجاهلي؛ مما يدل على أن: قبائل أولئك الشعراء دانوا بالاعتقاد بوجود ذلك الإله فوق الأصنام والأوثان، وقد توج هذه العقيدة بتاج النصر في الإسلام.
غير أن: "الله تعالى" في الإسلام يختلف عن "الله" عند الجاهليين؛ "فالله" هو إله العالمين، إله جميع البشر على اختلافهم ليس له شريك من أصنام وأوثان.
أما "الله" عند الجاهليين: فهو رب الأرباب، وإله الآلهة، يسمو فوق آلهة القبائل؛ ولهذا ذكر في شعر شعراء مختلف القبائل؛ لأنه لا يختص بقبيلة واحدة.
1 الحضارات السامية ص207 اسبتينومو سكاتي ترجمة د. السيد يعقوب بكر.
ولم يشر القرآن الكريم إلى اعتقاد الجاهليين بوجود زوجة له. فهو في نظرهم إذن إله واحد متفرد لا يشاركه مشارك في حياته؛ وإذا كان "الله" واحدا أعزب فلا يمكن أن يكون له ولد.
ولكن القرآن: يشير إلى اعتقاد الجاهليين بوجود بنين وبنات "لله". ففي سورة الأنعام قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1.
وقد ذهب المفسرون: إلى أن العرب قالت: الملائكة بنات "الله"؛ وقالت "اليهود، والنصارى: عزير والمسيح ابنا الله" وقال المشركون: الملائكة بنات "الله".
وفي سورة النحل قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَات} 2.
"الله" في الشعر الجاهلي:
قد درس بعض المستشرقين هذا الموضوع؛ ولا سيما موضوع ورود اسم الجلالة في الشعر الجاهلي؛ فذهبوا في ذلك مذاهب:
منهم: من أيد صحة وروده في ذلك الشعر، وآمن أن الشعر الذي ورد فيه هو شعر جاهلي حقًّا.
ومنهم: من ذهب إلى أنه شعر صحيح، غير أن رواة الشعر أدخلوا اسم الجلالة فيه، ولم يكن هو فيه في الجاهلية، بأن رفعوا اسماء الأصنام، وأحلوا اسم "الله" بدل اللات.
وبينما نجد: أهل الأخبار ينسبون إلى هؤلاء الشعراء، وأمثالهم، الاعتقاد "بالله" تعالى نجدهم: ينسبون إليهم الحلف بالأصنام، والاعتقاد بها؛ فقد نسبوا إلى خداش بن زهير شعرا آمن به بالله تعالى؛ ثم نسبوا إليه قوله:
وبالمرورة البيضاء يوم تبالة
…
ومحبسة النعمان حيث تنصرا
1 الأنعام آية 100، انظر المفصل جـ6 ص119، روح المعاني جـ7 ص209.
2 سورة النحل آية 57، المفصل جـ6 ص119، ص120.
والمروة البيضاء: هي "ذو الخلصة"؛ ثم هو يقسم بمحبسة النعمان وهو نصراني.
أفلا يدل هذا على وجود تنافر أو تناقض في عقيدة أمثال هؤلاء الشعراء؟
والذي لا وقوف له على طبائع أهل الجاهلية يرى هذا الرأي، أو يذهب إلى أن هذا الشعر مصنوع، مفتعل؛ أما الذي يعرف عادة العرب في القسم فلا يستغرب منه، ولا يرى فيه تنافرا. فقد كان الجاهليون يقسمون بكل شيء؛ يقسمون بالشجر والحجر، والكواكب، والليل والنهار، وبالأصنام، وبالمعابد "وبالله"، لا يرون في ذلك بأسًا ولا تناقضًا في عقيدتهم.
فهذا: "عدي بن زيد" يقسم بمكة على قاعدة العرب في القسم، وهو نصراني، وقد أقسم بأمور أخرى من أمور أهل الجاهلية الوثنية، ولم يذكر أحد أنه بدَّل دينه، وصار وثنيًّا؛ وكذلك الأمر مع غيره من شعراء نصارى، ويهود، وعباد أصنام أقسموا برهبان النصارى، وبأمور نصرانية مع أنهم كانوا عباد أوثان1.
ومن القائلين بالرأي الأخير: "نولدكه"؛ فقد ذهب إلى أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر؛ وذلك بأن حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم "الله".
وقد ذهب أيضا إلى: أن رواة الشعر في الإسلام حذفوا من شعر الجاهليين ما لم يتفق مع عقيدتهم. ومن جملة ما استدل به على أثر التغيير والتحريف في الشعر الجاهلي ورود كلمة "الرحمن" في شعر شاعر جاهلي من هذيل؛ زعم أن ورود هذه الكلمة في هذا الشعر دليل كافٍ لإثبات أثر التلاعب فيه؛ لأن هذه اللفظة إسلامية استحدثت في الإسلام، ولا يمكن أن ترد في شعر شاعر جاهلي، وقد فات "نولدكه" صاحب هذا الرأي أن الكلمة بهذا المعنى كلمة جاهلية، وردت في
1 المفصل جـ6 ص114، ص115.