الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الثالثة:
طرح العرب قديما قضية "علاقة الرسول بالأديان السابقة" على بعثته إبان دعوته التي دونها القرآن ورد عليها وكان أهم ما يبغون من ورائها دعوى: "بشرية القرآن".
وتعني بشرية القرآن من حيث السند التاريخي: عزوه إلى تاليف محمد أي أن القرآن من وضع بشري. وليس من قول إلهي، وتعني القضية أيضا أن محمدا ليس برسول لكنه هو مفكر استطاع أن يؤلف القرآن.
هذه هي جوانب قضية "بشرية القرآن". سجلها القرآن، على أنها دعوى مفتراه من العرب على الرسول في قوله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1، هذه الآية على قصرها تناولت القضية شكلًا ومضمونًا، دعوى وردًّا عليها حين قالت:{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} هذه هي الدعوى، أما الرد عليها فجاء تاليا بعدها مشارًا إليه في الآية ذاتها في قوله تعالى:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} .
فالدعوى والرد عليها من قبل القرآن أفادانا من حيث الجانب التاريخي: أنها قديمة منذ أن بلغ الرسول رسالته وقام بعبء الدعوة إليها. كذلك تفدينا من جانب آخر أن القضية حين سجلها القرآن -ونحن نعلم أن القرآن كتاب عالمي، لا يختص بزمان ولا بمكان ولا بأمة- كان معنى ذلك أن تسجيلها إنما هو تسجيل للرد على تلك القضية، قضية "بشرية القرآن"، وعلى العقل الإنساني -أنى وجد وحيثما اتفق- أن يدرس تلك الدعوى على الرسول، فالقرآن سجلها؛ ليعين المسلم وهو بصدد التيارات الفكرية على أن يدفع تلك القضية؛ لأن القرآن دافع عنها، ثم هي في النهاية تصيب صميم دينه هذا ما تعنيه قضية بشرية القرآن بشكل عام.
أما شكلها التفصيلي -وهو موضوع الدراسة- فإنه يحتاج إلى تسطيح القضية
1 الآية 103 من سورة النحل.
بعد تحليلها تاريخيا من جانب، وواقعيا من جانب آخر مع الاهتمام بالجانب المنطقي في مناقشة بعض القضايا الموضوعية التي سوف نعرض لها فيما نعرض؛ ليطرح العقل سؤاله من خلال إثارة دعوى بشرية القرآن.
وحقيقة إن هناك أسئلة كثيرة لكن من الممكن أن ترتد إلى سؤال واحد يقول: إذا كان الرسول ألَّف القرآن وهو الآن بين أعيننا وبين أيدينا فيا ترى متى تعلم الرسول؟ وفي أي مدرسة من المدارس القديمة انتظم فيها؟ وهل ترى -عندما ألف القرآن- استمده من المسيحية؟ أو من اليهودية؟ أو تلك الصابئة؟ أو من المجوسية؟ أو من الوثنية؟ وهل كانت هذه الأديان أو تلك الملل منتشرة في الجزيرة العربية؟ وبأي لغة كانت، ونحن نعلم أن هذه الأديان ليست ناشئة في مكة وإنما نشأت بعيدا عن الجزيرة العربية، وحقيقة كانت بلسان أعجمي.
فالمسيحية لم تكن بلسان عربي وإنما كان لسانها لسانًا سريانيًّا.
واليهودية لم تكن بلسان عربي وإنما كان لسانها لسانًا عبرانيًّا.
والمجوسية كذلك لم تكن بلسان عربي وإنما كان أعجمية وباللسان الفارسي.
وكذلك الصابئة لم تكن بلسان عربي وإنما كان لسانها لسانًا آراميًّا.
وكذلك الوثنية الفكرية لم تكن باللسان العربي وإنما كان لسانها إغريقيًّا رومانيًّا على أساس أن الفلسفة اليونانية كانت لا تعتقد بعقيدة دينية وإنما كانت تؤمن فيما تؤمن بالعقل الإنساني وفكره فحسب، فإذا ما تكلمنا عن الوثنية الفكرية فلا بد للذهن أن يتجه نحو اليونان.
أما الوثنية المنتشرة في العرب فإنها كانت وثنية ساذجة ليس لها مضمون فكري.
وهي أيضا -كما تذكرة الرواية العربية- وفدت إلى العرب على يد عمرو بن لحي حينما جاء "بهبل" من بلاد "البلقان" أيام الإسكندر الأكبر هكذا جاء في المراجع العربية.
فالوثنية العربية -على الرغم من أنها وفدت إلى العرب- كانت وثنية لا تخرج
عن عبادة الحجر من غير شكل فني أي من غير صورة يخلعها العربي على هذا الحجر نحتا أو تصويرا ولكنه كان يكتفي من الحجر بعبادته فحسب.
وواضح مما قدمناه سابقا أن الأديان التي انتشرت في الجزيرة العربية ومكة منها والتي جمعها الله في قوله تعالى1: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} إلى آخر الآية.
هذه الأديان -كما عرضنا سابقا- كانت أعجمية وفق ما قال القرآن: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ، فتسجيل القرآن لتلك الأديان يعني من وجهة النظر التاريخية أن العرب كانوا يعلمون شيئا أو أشياء عن تلك الملل والنحل "الأديان والمذاهب" المنتشرة في أجواء الجزيرة العربية.
فهل ترى أي شيء تعلَّم منها محمد؟ وما اللغة التي قدر لمحمد أن يتعلمها؟
قطعا الإجابة سوف توجه بشكل تحليلي، بمعنى أننا سوف نسير بخطوط متوازية مع تلك الأديان وعلاقة الرسول بها. وذلك موضوع الكتاب.
وليس في هذه الطبعة جديد أضفناه سوى تحرير ما رأينا تحريره وتنقيحه فهي الطبعة الثالثة التي تزيد كثيرا على الطبعة الثانية.
والله من وراء القصد
مصر الجديدة يوم الاثنين
محمد إبراهيم الفيومي
7 صفر سنة 1402
2 أكتور 1982
1 جزء من الآية 17 من سورة الحج.